الخميس ١٦ جانفي ١٩٣٠
اعتزمت الذهاب إلى حديقة البلفيدير صحبة رفيق لي، فبريت القلم وأعددت القرطاس وتأبَّطت كتابًا لما عسى أن تحدِّثني به النفس من أفكار، أو يفيض به القلب من عواطف؛ لأنني لا أعلم متى تطغى عليَّ الخواطر، وتزدحم عليَّ الذكر، وتنهال عليَّ الأفكار انهيالًا.
فرُبَّ نظرة بريئة من رعبوبة فاتنة أهاجت بقلبي ألف فكر، وابتعثت فيه ألف ادِّكار غطى عليه الزمن.
ورُبَّ ابتسامة حالمة زوَّقت لعيني مشاهد العيش، وأرتني جمال الحياة …
ورُبَّ مرأى من مرائي هذا الوجود أضرم في قلبي نيران الشعور وأسكر نفسي برحيق الخيال، فأصبحت شعلة ناريَّة تتَّقد بين البشر.
ولمَّا صح العزم اصطحبت رفيقي وسرنا، وقبل أن نتجاوز المدرسة التقينا ببعض الرفاق وخرجنا جميعًا وظللنا نسير سويَّة، ولمَّا وصلنا مفترق الطرق سألونا إلى أين نذهب؟ فقلنا: إلى البلفيدير. فعزموا علينا أن نرافقهم إلى أين هم ذاهبون، فقلنا: وما هي الغاية؟ فقال أحدهم: إنها مقهاة بعيدة عن صخب المدينة وضوضائها قريبة من الْبَرِّيَّةِ، مكتنفة بالأشجار الجميلة والمشاهد المستحبَّة، فاستهواني الوصف ورافقتهم، وما هي إلا ساعة حتَّى كنَّا نسير في المزارع التي تداعب الشمسُ أعشابها.
وكانت مشاهد كثيرة متباينة، ههنا صبية يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يتريضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومن لي بأن أكون مثلهم! ولكن أنَّى لي ذلك والطبيب يحظر عليَّ ذلك، إن بقلبي ضعفًا.
آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنويَّة والخارجيَّة.