السبت ١٨ جانفي ١٩٣٠
في هذا اليوم قد بدأتُ حياةً جديدة، ودخلت في طور من عمري جديد، طور المتاعب والمشاغل والمادة الصمَّاء التي لا تعي ولا تسمع، ولا تفقه غير لغة المال.
جرت عادة العدلية مع تلامذة السنة الثانية من دروس الحقوق أن يدخلوهم إلى دوائر العدليَّة بصفة مُعِينين للكَتَبة لكي يستفيدوا من ذلك المران دروسًا تطبيقية مفيدة تكون عتادًا لهم في مُقتبل أعمارهم حين يُصبحون حكَّامًا.
ويا لله، كم تَشْرئب لمثل هذا المنصب نفوس، وتتحرق له قلوب مسكينة. ويا لله، ما أبغضه إليَّ وأكرهه!
وكان يومنا هذا هو يوم توزيعنا على الدوائر المختلفة. وفي الساعة التاسعة والنصف كنَّا أمام بيت أستاذنا محمد المالقي. وما هو إلا قليل حتَّى خرج الأستاذ. وبعد التحيَّة سار بنا في منعرجات العدليَّة، وصعد بنا في طباقها إلى أن وصل بنا إلى مكتب أحد أساتذتنا الفرنسيين ليقدم إليه أسماءنا. وبعد قليل كنَّا راجعين أدراجنا وراءه إلى أن وصلنا أين كنَّا جالسين. فدخل الأستاذ إلى مكتبه ليستخرج الورقة التي نُظِّمت فيها كيفيَّة توزيعنا. وبعد يسير خرج الأستاذ يحمل في يده ورقة، واستند إلى الحائط وأخذ يتلو على التلامذة المحيطين به أسماءهم، وكيفيَّة ترتيبهم. فكنت ورفاقًا لي ثلاثة بالدائرة المدنيَّة. ولا تسل عن غضب هذا، واشمئزاز ذاك، وتألُّم ذلك، لأنَّه لم يحرز على المركز الذي كان يرجوه، إما لقلَّة العمل فيه، أو لغزارة فائدته، أو لغير ذلك من الأسباب التي كانت تملأ أدمغة كثيرة. وأحسب أن مركزنا كان مغبوطًا من أكثر رفاقنا، قد اضطر أن يعقِّب ذلك التصريح بقوله: «إنني أعلم أن كثيرًا منكم سيغضب لأنني لم أرشِّحه في الدائرة المدنيَّة، ولكن من المعقول أن تعلموا أن هاته الدائرة لا تسع جميعكم. على أنني أقول لكم: إنه لا بد أن يقع تبادلكم المراكز كلما يمرُّ عليكم حين من الدهر، لتكون الفائدة أشمل، والانتفاع أكمل.»
ولكن هذا لم يكفكف ممَّا في أنفس البعض.
ولمَّا أتمَّ الأستاذ سردَ الأسماء أخذ يحمل كل طائفة ليقدِّمها إلى رئيس الدائرة التي ستتعاطى العمل فيها. وكم كنت مشفقًا على هذا الأستاذ الكريم من كل ذلك النَّصَبِ الذي يجشِّم به نفسه. فمن دائرة العدليَّة، إلى دوائر الدريبة، ومن هذه إلى تلك، وهو يذرع منعرجات المعابر ويقطع درج الإدارة بسرعة تكاد تكون عدْوًا. حتى لقد صارحت رفيقًا من رفقائي بإشفاقي على الأستاذ.
وبدأ الأستاذ عمل التقدمة بالطائفة التي أنا منها، ودخلنا إلى الرئيس الذي سيكون إليه مرجع نظرنا، فقدم إليه واحدًا إثر واحد مكتفيًا بقوله أقدم لك فلانًا أو بزيادة ابن فلان. ولمَّا وصل الدور إليَّ قال: «أقدم لك أبا القاسم الشابي المؤلف الشهير. ولا إخالكم إلا قد سمعتم باسمه». فأخجلني جدًّا، فلم أستطع أن أجيبه إلا بالتبرؤ من مثل هذا الوصف.
وفي الحقيقة فإنَّ هذا الأستاذ الكريم قد أصبح لي من ذلك اليوم الذي أهديت له فيه كتابي نصيرًا. فإنَّه كثيرًا ما نوَّه باسمي في دروسه بين رفقائي، وكثيرًا ما كال لي أوصاف المدح والإطراء حتَّى أخجلني.
ولمَّا تمَّت تقدمتُنا انفردت أنا وصديق لي ببيت خاص نعمل فيه وحدنا. فابتهجت كثيرًا؛ إذ إن أبغض شيء إليَّ هو أن أبقى إلى جانب الرئيس الذي ربَّما لا تلائم نفسه نفسي، ولا توافق أخلاقه طباعي، رُبَّما كان متكبِّرًا يحبُّ السيطرة والعنف، وأنا رجل عصبي لا أحتمل الذل، ولا أستطيع أن أخمد غضبي، فتنجلي الثورة عن شيء جميل جدًّا …! الله أدرى بنتائجه …!
ولقد أخذت اليوم أتمرَّن على هاته الأعمال الثقيلة، أخذت ألخِّص أوراق الملف، فإذا الورقة الأولى منه مكتوبة بخط من أردأ ما رأيت، ومحررة بأسلوب لا أدري ماذا أسمَّيه، ومرسومة رسمًا لا أعلم أي شيطان نزل به على قلب كاتبه. ولا أريد أن أطيل، فحسبي أن أقول: إنه أراد أن يقول: «فطلب منها أداء منابها» فكتب: «فطلب منها أداء من بها» …!
وعلى مثل هذا يستفتح المرء عمله. فماذا هو صانع؟ أتراه يسخر. أم يكفر؟