الاثنين ٢٠ جانفي ١٩٣٠
… وبعد أن أنهيت أعمالي الإدارية نحو الساعة الخامسة، ذهبت أنا والأخ المهيدي إلى مطبعة الأخ زين العابدين، فألفيناه يصفِّف حروف «العالم» مع المصفِّفين، وألفينا الأخ مصطفى خريف واقفًا بجواره، يطالع بعض الشيء. وبعد حديث مختلف أراني الأخ زين العابدين مقالتي «الشعر، ماذا يجب أن يفهم منه وما هو مقياسه الصحيح؟». ثم لاحظ لي أنه يخالفني في بعض ما ورد بالمقال من الآراء، وأنه كان يودُّ لو قابلني قبل طبعه ليعرض عليَّ رأيه، عسى أن يدخل به تعديل على المقال. ثم قال: «ولكن وجود بعض ما يخالف آرائي لا يمنعني من نشره، إذ إنَّ مسؤولية ما فيه من الأفكار محمولة عليك وحدك.» فأجبته بالإيجاب. ثمَّ أبنت له أن ما يلاحظه على المقال، ويود وجوده في المقال، هو موجود فيه، وأردت أن أريه إيَّاه، فلم أتمكَّن من ذلك لكثرة أعماله ووفرة حركاته. ثم قال لي: إنك تريد أن تبعث المذهب الرمزي «سانبوليز» من مرقده، وهو مذهب قضى عليه الزمن، ولم يتبعه في فرنسا إلا شاعران أو ثلاثة. فقلت له: «لك أن تسمِّي طريقي بأيِّ الأسماء التي تشاء. فأنا لا أعرف كيف أسمِّي، ولا يهمني معرفة أسمائها. وسواء عليَّ أكانت تسميتها كما قلت أم خلافًا له. وإنَّما الذي يهمني والذي أود أن تعرفه، هو أن أدعو إلى الطريقة التي تسكن إليها نفسي، ويرتضيها ضميري ما استطعت إلى الدعوة سبيلًا.»
وبعد ذلك أطلعني على مقال للسيد التجاني بن سالم عنوانه: «التجدد الأدبي عندنا». وهو مقال قيِّم مفيد أعجبت به، وإن كنت لم آخُذ منه إلا صورة مجملة. وبعد قليل اصطحبت الأخ المهيدي والأخ خريف بعد أن اعتذر الأخ الزين عن الذهاب معنا إلى النادي الأدبي بتراكم الأعمال عليه.
ولما وصلنا إليه ألفيناهُ مُغلَقًا، مع أنَّ موعد الاجتماع قد مرَّ عليه نحو العشرة دقائق. وبعد أن قرعت الباب قرعًا عنيفًا بدون جدوى، رجعنا وفي أنفسنا حسرة وأسى على المشاريع التونسية المسكينة التي لا تجد من أبناء تونس من يخلص لها حتى النهاية.
فقد حاولنا في العام المنصرم أن ننظِّم سيره ببرنامج معيَّن عيَّنَّاه رغم المعارضة الكبيرة من أنصار الأساليب القديمة، فأنتج نتاجًا حسنًا كان فوق ما يؤمِّل منه. ثم قامت ضجَّة «الأب سلام» إثر مسامرة امرئ القيس التي أنكر فيها الأخ المهيدي وجود امرئ القيس، «ومسامرة الخيال الشعري عند العرب» التي جاهرتُ فيها بآراء لم تُسغها أفكارُ بعض أدعياء الأدب، وعَدُّوها ثورة على الآداب العربية وجحودًا لمزايا العرب. وتطوَّرت هاته الفكرة في نفس الناس، والتفَّت حولها الأراجيف والإشاعات الكاذبة، حتَّى عدَّها بعض الجهلة زندقة وكفرًا!
قامت تلك الضجَّة حول المسامرات الثلاثة وحول مسامرة «سلام» بالأخص، فاهتبلها بعضُ المغرضين فرصة لتشويه سمعة النادي ورميه بالزيغ والإلحاد … إلى آخر تلك السهام التي تعلَّم المفسدون تسديدها إلى كلّ عمل راموا إحباطه في البلاد الإسلاميَّة. فكانت تلك الحملات الكبيرة المنظَّمة قاضية على حركات النادي قضاء ما كنت أتصوَّره. فقد فتَّتْ تلك الحملات في أعضاد الأكثرية من أعضائه، ورمت في قلوبهم الرعب والهلع والجبن، فانقطعوا عن المجيء إليه إلا واحدًا أو اثنين كانت لهما عزيمة صادقة، وشجاعة أدبيَّة تحتقر صيحات الحروب وتهزأ بسهام المغرضين، ولكنَّهما أعرضا عن الذهاب إليه. وما الفائدة منهما وكل أعضائه غائبون؟!
وهكذا كانت خاتمة العام الماضي محزنة كابية. ثم جاءت السنة الحالية فاقترح الأخ عثمان الكعاك أن تكون طريقة النادي إنما هي إثارة المواضيع لدراستها، ومن كانت له دراسة عرضها على النادي لتلقى مسامرة عامَّة أيام الجُمع. وقرَّرَتِ الأغلبية هذا ولكن يمضي على الاتفاق شهر ونصف قام خلالها كلٌّ منِّي والأخ عثمان الكعاك بمحاضرة: واحدةٌ منهما تعرَّضت لنقد كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، والأخرى تعرَّضت لطريقة البحث في الثقافة الشرقيَّة عند المشرقيين وعند المسلمين في الوقت الحاضر. وقد أغضبت كلٌّ منهما طائفة من الناس.
أقول لم يمضِ على فتح النادي شهر ونصف حتَّى أخذت علائم الهرم تدبُّ فيه. وبدأ الانحلال يأخذ منه. وتلك هي مصيبة المشاريع التونسية، يندفع القائمون بها في العمل اندفاعًا كلُّه شغف وشوق وإخلاص، ولكنَّه لا يدوم. فإنه لا يلبث إلا قليلًا حتَّى يخبو أواره، وتركد ريحه، وينصدع شمل الجميع. تلك هي مصيبة المشاريع التونسية.