السبت ٢٥ جانفي ١٩٣٠
خرجت اليوم من إدارة العدلية قبل الوقت الذي ألِفت أن أخرج فيه، وذلك لكي أذهب إلى الأخ زين العابدين، وأسَلِّمه مقال الأخ الحليوي الذي ضمَّنه نقدًا على بعض آرائي الواردة في «الخيال الشعري عند العرب».
دخلت المطبعة فإذا به يصحِّح بعض مسوَّدات «مجلة العالم» وبإزائه الأخ مصطفى خريف يتصفَّح مجموعة السياسة الأسبوعيَّة. وقلت: السلام عليكم. فقالَا: وعليكم السلام. وعلى إثرها ابتدرني الأخ زين العابدين وعلى ثغره تلك الابتسامة التي لا تُفهم قائلًا: «لقد كنَّا نغتابك». فأجبته قائلًا: «عجيب! حسن! بارك الله فيكما». وإن كنت إلى الآن لا أدري ماذا يعني بالاغتياب، لأنَّه تارة يستعمله بمعناه العربي الصحيح، وأخرى بمعنى المدح والإطراء، ولكن هذا لا يهمُّ، وعلى كلٍّ فهي دعابة صديق.
وتقدَّمت منهما، وناولته رسالة الحليوي، وسألته أن تنشر في هذا العدد من «العالم». فقال: «لقد سلَّمنا لصاحبك تسليمًا أعمى، رغم أنَّنا لا نعرفه، وعلى كلٍّ فسننشرها رغم طولها لأنها تتعلَّق بكتابك. ثم عقَّب على ذلك باسمًا: ولا تحسب أنَّ كونها في كتابك هو الذي جعلني أغتفر ما فيها من طول، ولكنَّ الذي جعلني أتسامح فيها هذا التسامح، هو كونها كتابة عن كتاب تونسي حديث»، فضحكنا جميعًا، ثم أخذنا في حديث مختلف الألوان والمطاعم، وفارقتهما مسرعًا.
وانقضى نصف النهار الأخير بين أعمال إدارية غثَّة باردة متراكمة كالجبال، ومحادثة مع بعض الرفاق خلال ذلك، واستماع لدرس قانوني تتخلَّله قصص ممتعة ودعابات مستحبَّة من دعابات الأستاذ «لاموت»، ومطالعة قانونية مع بعض رفقائي يتوسَّطها جدال وحوار، يلين حينًا ويشتد أحيانًا، ويعتدل آونة ويعنف أخرى، حتَّى ليخالنا الأجنبي سنثب إلى بعضنا لطمًا ولكمًا وركلًا وصفعًا، وما هي من ذلك في شيء. وفي مثل هاته الأشياء انقضى نصف النهار الأخير.