الأحد ٢٦ جانفي ١٩٣٠
«إن لك من معارف أبيك، وسمعته الحسنة، وصِيته البعيد، وشهرة اسمك، ضمانًا لاسترجاع منصب أبيك إليك لو تسعى …»
هاته هي الكلمة التي كثيرًا ما أسمعها من أقاربي وأنسبائي ومن يمتُّون إليَّ من الصداقة بسبب متين. يقولون ذلك دائمًا بلهجة من يغبطُني على مثل هاته الأمور وتجمُّعِها لديَّ، ويعنِّفني في شيء من العنف على تضييعي لمثل هاته الأسبابِ التي لو وجدها غيري لصعد منها بسلم إلى سماء المناصب، كأنَّهم يحسبون أن المناصب هي كلُّ شيء في هذا العالم، وأنَّ منصب القضاء هو سيِّدها. ولو علموا ما الذي يبغِّض إليَّ المناصب على اختلافها، ويبغِّض إليَّ المناصب الشرعيَّة بالأخص لعذروني.
إنَّني شاعر، وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلًا أو كثيرًا مذاهب الناس فيها. وفي نفسي شيء من الشذوذ والغرابة أحسُّ أنا به حين أكون بين النَّاس … يجعلني أتبع سننًا ورسومًا تحبُّها نفسي، وربَّما لا يحبُّها الناس. وأفعل أفعالًا قد لا يراها الناس شيئًا محبوبًا، وألبس ألبسة ربَّما يعدها الناس شاذة عن مألوفاتهم.
أنا شاعر. والشاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي إليه الحياة، لا ما يوحي إليه البشر.
وفي المناصب الشرعيَّة بالأخص قيود، وطقوس، وسنن متعارفة، اصطلح عليها الناس، وألفوها، فأصبحت مقدَّسة عندهم لا يمكن أن تُمسَّ بسوء. وأنا أعلم أن نفسي تأباها وتنكرها ولا تخضع إليها.
أنا شاعر، والشاعر يحبُّ أن يكون حرًّا كالطائر في الغاب، والزهرة في الحقل، والموجة في البحار، وفي المناصب «والشرعية بالأخص» خنق لروح النفس، وقضاء على أغاني القلب، وإجهاز على راحة الضمير.
كيف يمكن لشاعر يحبُّ أن يحسَّ بالحياة إحساسًا كاملًا، وأن يتحدَّث إلى الناس بأصوات قلبه الكثيرة، أن يسكن إلى حياة «الوظيف»، تلك الحياة الخاملة الآسنة التي تشابه غدران الفلاة، والتي تقضي على صاحبها أن يحيا كما يحبُّ الناس لا كما يحبُّ هو أن يعيش؟
«إنَّك لو أردت أنت منصب أبيك، فإنَّ لك من أصدقاء أبيك، وشهرته الطائرة، وخدماته الطاهرة، ومعارفك وصِيتك، ما يحقِّق لك هاته الأمنية في أسرع من لمح البصر.»
هاته الكلمة التي كثيرًا ما سمعتها من معارفي وبعض إخواني، والتي كنت لا أجيب عليها إلا بالصمت الطويل، لأنِّي أعلم أنَّني إن أجبتهم بما تحدِّثني نفسي هزأوا بي وعدُّوني صغير العقل سخيفًا … هاته الكلمة قد ردَّدها على سمعي نسيبٌ لي حينما كنَّا ذاهبين لزيارة الوزير الأكبر في شأن خاص بي، فلم أجبه إلا بذلك السكوت، وبتلك الابتسامة التي كثيرًا ما أجبت بها مثل هؤلاء.
وذهبنا إلى الوزير الأكبر فنبأونا أنه مع بعض الناس في مفاهمة لغرض خاص. وبعد قليل رجعنا فألفيناه واقفًا جوار بستانيِّه، يوصيه بالعناية بنخلة عيَّنها له، وهو في ثياب عربيَّة بسيطة جدًّا يلبسها عادة متوسطو الحال. وبعد التحيَّة صعد بنا إلى مقعده وجلسنا.
فأخذ يحدِّثنا عن الوالد المنعَّم بصوت ملؤه الأسى والحزن. وقال: «رحم الله أباك. لقد كان أخًا لي منذ عهد الدراسة. فقد قرأنا كثيرًا من الدروس سويَّة. ولكن من قرأت معهم قد ماتوا. وكان آخرهم أباك رحمه الله. لقد كان أبي يعتقد أن التلاميذ إخوان لنا وأبناء له، بل كان كثيرًا ما يؤثرهم علينا، وإذا زاروه في محلِّه فذلك هو اليوم السعيد. إنه ينسى بذلك الحوار العلمي الذي يثيرونه كلَّ شيء، ينسى غذاءه ولا يكاد يذكره. وبذلك قد جعل لنا إخوانًا روحيين منتشرين بالبلاد التونسيَّة.»
ثمَّ لامني على أنني لم أزره بمجرد وفاة والدي المنعَّم قائلًا: «أنا أبوك، وأنت ابن أخي، إنني لائم عليك إذ لم تزرني إلا الآن ولم تأتني من قبل …»، فاعتذرت بما حضرني إذ ذاك.
وبعد حديث طويل، تناول كثيرًا من الشؤون من بينها سوء سيرة أهل هذا الزمان، وكيف أنهم لا يحبُّون إلا المظالم والدناءة. وتعرَّض إلى ما قاساه والدي من مظالمهم جزاء وقوفه عند حدود العدالة، وتصلُّبه في وجوه العتاة المتجبرين.