الخميس ٢ جانفي ١٩٣٠
هي صورة سخيفة من رسوم الحياة. وهل في الحياة غيرُ السخف. ولكن حتى في سخافات الحياة ما يُحزن ويقبض على القلب.
عرفته صديقًا، أبيَّ النفس، عزيزًا، رصين الأخلاق، رزين الصوت، فصيح اللسان، يُحب الأدب ولكنه لا يتخذه صناعة، ويحفظ الشعر ولكنَّه لا يقرضه. وغبت عن الحاضرة حينًا من الدهر، فسمعت أن الرجل قد جُنَّ واختلط في عقله. فأسفت أسفًا — الله أدرى بمداه — ثمَّ رجعت إلى الحاضرة، فإذا الرجل قد شُفي وعاد إليه صوابه. فكنت أجتمع به وكان يحادثني ولا يطيل الحديث. فإذا جر الحديث إلى عهد جنونه ذكَرَه في شيء من الأسى والمرارة. وأصبح كثير الصمت إلا قليلًا تُتعبه المحاورة، وطولُ الحديث. ثمَّ سمعت أنه عاد إليه جنونه منذ أيامٍ بصورة أعنف من قبل. ومَرَّت أيام لم أَرَهُ خلالها.
وفي صبيحة اليوم بينما كنت نائمًا، وإذا بالباب يطرق، فصحت مَنِ الطارق؟
فأجاب صوت أجشَّ لم أعرف صاحبه: «أن افتح».
ولَمَّا فتحت الباب سمعت صوتًا خشنًا لا عهد لأذني به يقول: السلام عليكم.
وعلى إثره دخل صديقي المجنون، وكان وجهه أصفر شاحبًا يدلُّ على آلام مبرِّحة في أعصابه، وعيناه لا تستقرَّان على حاجةٍ لحظةً واحدة: مرَّةً على السقف، وأخرى على الباب، وأخرى على المنضدة التي صُفَّتْ فوقها كتب مختلفة، وطورًا على النافذة، وحينًا على خزانة الكتب الصغيرة.
بادرته بالتحيَّة فلم يأبه لها، كأنَّما لم يسمع. تناول كتابًا مِن على المنضدة وأخذ يتلو ما فيه من الشعر بصوت غنائي غليظ، ثمَّ يبدو له فيقذف به على الفراش ويتناول غيره ويفتحه ويأخذ في قراءة ما يجد نثرًا كان أو شعرًا بذلك الصوت الغنائي الذي بدأ به الشعر أول مرة. ثُمَّ يسأم الكتاب فيرمي به إلى ناحية من النواحي، ويأخذ في حديث مسترسل مستمرٍّ لا ينقطع إلا ريثما يتنفَّس. ثمّ يعود متحدِّثًا بتلك النغمة الغنائية التي بدأ بها تلاوة الشعر أوَّل ما دخل. فكأنَّما قد تدفَّق عليه تيارٌ غنائي لا يستطيع دفعه. ولذلك فهو يتَّخذه قالبًا لكل ما تتحرَّك به شفتاه من شعر ونثر وحديث …
أمَّا حديث صاحبنا فهو مزيج من قصص مختلفة تعاقبت عليه في أدوار الحياة، وآهات وزفرات وابتسامات، وقهقهة ونشيد وصفير، وسخرية، ورحمة وشدة، وقساوة. فرُبَّما أخذ يحدِّثُك عن قصة مضت عليها عشرون عامًا، فما يبلغ منتصفَها حتى يأخذ في حديث آخر لا عهد لك به ولا ذِكر، أو في قصة أخرى لم يَمْضِ على وقوعها إلا ساعات أو أيام.
وذكرياتُ صاحبنا كثيرة مشوَّشة تزدحم كلُّها على ذهنه، فيخرجها لسانه مبلبلة مضطربة مشوَّشة يمتزج فيها الأول بالآخر، ويلتحم فيها القديم بالجديد. وما تَصَرَّمَتْ عليه السنون وعلى ما لم تَمْضِ عليه إلا ساعات. فكأنما قد كانت ذكرياته سِفرًا ثمينًا أنيق السِّفر جميل الورق. يطالع صفحاته من حين لآخر، فَتَمَزَّقَ السِّفْرُ واختلطت الأوراق ولعبت بها رياح عاصفة … فهو ينتقل بك في سرعة البرق من أدهم باشا ومصطفى كمال إلى أشعة رونتجن، ومن أن التجديد يجب أن يشمل كل شيء حتى اللغة العادية إلى أنه قد ملك مفاتيح الحياة. وكثيرًا ما كنت أسمعه يقول: «يجب أن نصبر لما أراده الله» و«أنا نبي العالم» و«أنا فوق القدر» و«أنا كلمة الله التي تعرف كيف تُرشدهم وتهديهم، والتي لا تصدُّها الحجُب». وكثيرًا ما سمعته يلفظ «أشعة رونتجن» هي عند صاحبنا كل شيء، فهو يستعملها تارة بمعنى القوة المدبِّرة لكل شيء، وتارة بمعنى الذكاء والعبقرية، وتارة بمعنى سر الحياة.
وبينما يكون صاحبنا جادًّا في حديثه يحدِّثك عن نفسه وأوجاعها: «آه.! كبيرٌ يا رب أن نعيش مثل هذا العذاب ست سنوات كاملة منذ أن كنت ابن عشر سنين، وأن أتحمل عذاب النفس. وتلاعُبَ الناس وأحقاد الأقربين …
لقد حاول أخواي أن يقتلاني ويستحوذا على أموالي.»
إذا به يقهقه قهقهة عالية! «ها. ها. ها! إن أشعة رونتجن التي ترتفع بالعبقريِّ مثلي فوق مستوى البشر … عليك يا صديقي بأشعة رونتجن حتى تكون عصريًّا، وإياك أن تجهل منزلتي ومقامي. لا. إنَّك تفهمني حق الفهم، أو بعضه. لا أدري. لا بأس. فالكل سواء، إن يد الله الكريم ترحمنا يا صاحبي.» ثمَّ ينظر إلى الباب فيرى طالبًا مارًّا فيخاطبه: «ها ها هي، تعال يا ڤدع كده. ها. ها. ها. هكذا تكون الحياة … ولكن لا.»
ثم يسكت قليلًا ويغمض عينيه بعد أن يوجَّهِهُمَا إلى السقف ويفركهما بأنامله القصيرة، ثمَّ يقول لك وهو ما زال مغمض العينين: «هات ذلك الكتاب يا ولد.»
فتناولُه الكتاب. فيفتحُه، ثمّ يقرأ قليلًا بلهجته الغنائية الخشنة، ثمَّ يقذف بالكتاب قذفة كبرى على الفراش.
ويندفع مسرعًا إلى جماعة الطلبة وهم يتباحثون في مرض الطاعون وأكثرهم خائف. وبعضهم عازم على السفر، فيصيح بهم قائلًا: «أنا ريكاردوس قلب الأسد وأنت صلاح الدين. لِتَقُمْ بدورك لا بُدَّ.» إن صلاح الدين وقلب الأسد، في آنٍ واحد يصرخ بصوت تمثيلي قوي: «إن لم أصُن بمُهنَّدي ويميني … إلخ.»
ثم يلتفت إليهم قائلًا: «أنا وأنتم» و«القطاطس» أحرار. أجل، كُلُّنا أحرار، لأن أشعة رونتجن علَّمتني كيف أتكلَّم العربية الفصحى.