الجمعة ٣ جانفي ١٩٣٠
أستعرض حوادث هذا اليوم لَعَلِّي أجد فيها ما يستحق الذِّكر والتعليق، فلا أجد شيئًا يلفت النظر. وإنما هي حوادث سخيفة عادية، لا تقف عندها النفس ولا تثير الوجدان.
انتبهت الساعة العاشرة صباحًا. وقد كنت على اتفاق مع صديق على زيارة صديق لي في بعض المصطافات الجميلة بضواحي الحاضرة. ولكن الصديق أخلف وعده، وتركني أنتظر حتى انقضى على الأجل المضروب ساعة ونصف، وليس يهمُّني أكان صادقًا في عذره عن إخلافه الوعد وإخلاله بكرامة الصدق أم كان كاذبًا فيما انتحله من عذر، وحسبي أنَّه أخلف وكفى.
ولما كانت الثالثة والنصف بالتدقيق تطلَّعت إلى الأفق لأرى الجو وأعرف حال الغيوم التي كانت تغشِّيه؛ إذ قام بنفسي أن أقضي الأمسية في ذلك المنتزه الجميل الحبيب إلى نفسي «البلفدير» بعد أن عدلت عن زيارة صديقي خارج الحاضرة. فكَّرت فيما ينبغي لي أن أحمله معي من الكتب في نزهتي الجميلة. وتلك عادة من عادات نفسي لا أستطيع أن أذهب إلى البرِّيَّة أو إلى بعض النزهات دون أن أستصحب كتابًا، وسواء عليَّ بعد ذلك قرأته أو لم أقرأ منه سطرًا، فبدا لي أن أحمل معي ديوان العقاد ثمَّ «تاييس»، ثمَّ التفتُّ فرأيت على المنضدة كتاب «الآراء والمعتقدات لغوستاف لوبون» فعدلت عن الاثنين واتخذته سميري. وغادرت المدرسة بعد أن تطلعت إلى السماء ثانية، فرأيت الغيوم متفرقة ممزَّقة تبدو من خلالها زرقة السماء الجميلة. وأخذت سمتي إلى باب البحر لأركب عربة الترامواي. وقد كان أحب إليَّ الذهاب على الأقدام، ولكنِّي أشفقت أن ينصرم الوقت في المسير فما أصل المنتزه إلا وعلى الكون نقاب من شعاع الأصيل. وجددت في السير مخافة أن تذهب عليَّ الساعات بدادًا، فأقضي الوقت في المدينة التي كرهتها ومللت ضجتها الخاوية … ولكن عبثًا كنت أدأب على المسير، فإني ما وصلت إلى محطة الترامواي حتى رأيت الجوَّ يكفهرُّ ويربدُّ، ورأيت الغيوم السود تراكض من أقاصي الأفق.
أعوذ بالله من السخط والنقمة! إلى أين أنا ذاهب وهذه الطبيعة تريد أن تسكب جام غضبها على العالم في هذه العشية.
أنا ما أردت الذهاب إلى البلفيدير إلا لأمتِّع نفسي بتلك الطبيعة الجميلة الساحرة، وبأسراب الغواني المتخطِّرات بين الغصون الوارفة وخلال الخمائل تُنمِّقها أوراد الأشجار البنفسجية، ولكي أجلو عن نفسي ما ران عليها من أقذاء الاجتماع وما علق بها من أباطيل الناس وأوهامهم وظلال الجدران الكئيبة العابسة.
وأين أجد هذا، وهذا الجو المكفهرُّ لا ينجلي إلا عن عاصفة هوجاء أو وابل هتَّان.
إن منظرَ العاصفة — تتأوَّهُ بين الغصون وتهزُّ جذوع الأشجار — جميلٌ رائع، ومرأى المطر — يتساقط فوق الأعشاب ويقبِّل أوراق الورود — بهيجٌ أنيق. ولكنه ليس بهيجًا ولا مُحَبَّبًا لفتًى يعتقد أنه إن شاهد هذا المشهد فلا يرجع إلا مهشم الرأس أو بليل الثياب كالطائر الطَّريق.
لا تغامر يا شابي وارجع إلى عُشِّكَ، واستخلفِ الله في هذا التعب الضائع والخيبة المُرَّةِ.
وهكذا رجعت إلى غرفتي الصامتة، وجلست إلى المنضدة وأنا ناقم أشدَّ النقمة ساخط كلَّ السخط. وذهبت أفكِّر أفكارًا كثيرة مضطربة، ولكن عبثَ الطبيعة لم يقف عند هذا الحد. فإنَّني ما جلست إلى المنضدة أفكِّر حتى رأيت خيطًا من أشعة الشمس ينحدر إليَّ من النافذة فيُلقي على المكتب رواء جميلًا، ويغمر البيت كله بضياء بهيج.
لقد كانت آخر ابتسامة من بسمات الحياة الساخرة. وهكذا راق للقدر أن يعبث بي مرات ثلاثة، ما فرغت من واحدة حتى تلقتني الأخرى بدون إنذار.
وبعد حين توارت الشمس وراء السحب الكثيفة المتراكمة. وكذلك غادرني ذلك الشعاع الجميل بعد أن سخر بي سخرية شيطانية قاسية، وتركني أكاد أتميَّز من الغيظ.
«حينما أخذت أكتب لم أحسب أن الكتابة ستكون طويلة بهذا المقدار، وإنَّما هي المعاني والصور قد كانت تتابع نفسي آخذة برقاب بعضها».