السبت ٤ جانفي ١٩٣٠
النهار صحو جميل كأيَّام الربيع، والشمس مشرقة سافرة، والسماء مجلوة صقيلة تغمرها أشعة الشمس، فتنعش النفس وتستهوي المشاعر. وفي النفس شوق إلى مناظر البرية الساحرة، فما الذي يصدُّك عن الذهاب إليها وأنت بها المغرم المفتون؟
هكذا حدَّثتني النفس، وكانت الساعة الحادية عشرة، فاستشرت رفيقًا لي في اصطحابه لهاته النزهة الخلوية الجميلة، فأجابني أنه يُؤْثِرُ لو ذهبنا بعد تناول الغداء. فلبثت أنتظره، ولمَّا أنهينا ما بقينا لأجله أخذت برنسي بيميني، وأوصدت باب غرفتي، وذهبت إليه — وكانت الساعة الواحدة بعد الزوال — أستعجله لنزهة الظهيرة بين المروج. ولكن اعتذر بأنه لا يستطيع أن يرافقني لهذا المكان البعيد حيث إنه ضرب موعدًا على الساعة الثانية، وساعة واحدة لا تكفي للنزهة وموافاة صاحبه عند الوعد. فلم أَزِدْهُ كلمة وغادرته، وبي من السخرية به أكثر مما بي من الغضب منه؛ لأنَّني علمت أنه لا وعد ولا صديق، وإنَّما هي وسيلة اتخذها ليتخلص بها من جمال المروج، حيث إن صاحبنا لم يكن يشغف بما أشغف به، ولا يستخفُّه من مناحي الحياة ما يستخفُّ نفسي ويهز أوتارها. ولا أطيل فقد غادرته صامتًا، وأنا أُسرع الخطى إلى حيث أجد المروج الخضراء والروابي الجميلة تموج بالعشب الجميل وتعبق بها الرياحين البرية.
ذهبت ولمَّا أصبحت بعيدًا عن المدينة، وعن لاغية السابلة، وقرقعة العربات، تراءت لي البَرِّيَّةُ الساحرة الجميلة والحقول الخضراء الفاتنة. ولما اقتربت كانت المروج ساكنة هادئة تحلم بأحلام الربيع. وكان الفضاء ساجيًا وادعًا يشابه بحيرة هادئة تُصغي لنجوى النسيم في ليلة مقمرة.
وفي وسط ذلك السكون الشامل المحفوف بالأحلام تنبعث إلى سمعك من حين لآخر أنشودة طائر أنيق يغرد فوق فرع من فروع الزعتر ذي العطر الأريج، أو تغريدة مفردة تُرسلها قُبَّرَةٌ ذاهبة في ذلك الأفق المسحور.
وكانت أزهار المروج المتناثرة بين المزارع غريرة باسمة تشعشعها الشمس وتحرِّكُها النسمات. وكانت تُطَرِّزُ حواشي الأفق المنير غماماتٌ صغيرة متناثرة هنا وهناك …
في هذا الوسط الشعريِّ البديع جلست منفردًا على ربوة صغيرة تَتَّصِلُ بتلال كثيرة، أفكِّر بأحلام الحياة، وأتملَّى جمال الوجود، وطافت بنفسي ذكريات كثيرة متتالية كأسراب الطيور، وغصت في عالم الذكرى البعيد.
إلى هاته الربى الجميلة، والتلال الساحرة، منذ ست سنوات، قد كنت آتي منفردًا بنفسي، متتبعًا هاتيك السبل الصغيرة بين المزارع، ومحاذرًا أن أدوس زهرة يانعة، أو أكسِّر غصنًا يداعبه النسيم. فقد كنت أشعر في أعماق قلبي أنني أرتكب جناية كبرى حينما أقطف زهرة ناضرة أو غصنًا رطيبًا.
ألست أرى تيار الحياة يتسلسل في أعماقها على مهل، وأراها ترمق الأفق الجميل؟
ألست أراها ترتعش بين أحضان النسيم ارتعاشة الغانية على صدر عاشقها السعيد؟
ألست أرى وُرَيقاتها الصغيرةَ تتحرك حركة من يهمُّ بالكلام، كأنما تحاول أن تُرَتِّلَ أغنية الحب والجمال؟
بلى! فكيف إذًا تطاوعني نفسي على أن أقتطفها فتذوي وتموت. وأرى بعيني رفيف الحياة يغيض في أوراقها، وسحر الشباب يتلاشى من ثغرها الجميل، وَوُرَيقاتِها الصغيرةَ الفاتنةَ تتناثر مضمحلَّةً في أكف الرياح.
أجل! فقد أرى أنني أقترف جريمة تألم لها نفسي باقتطافي وردة يانعة، وأحسب أنَّني قتلت نفسًا بريئة، وأزهقت روحًا طاهرة، وقضيت على آمال فتيَّة تحلم بفجر الربيع!
ليكن ذلك جنونًا أو فليكن هوسًا. لا يهمني أي شيء، يجب أن تُسمَّى به تلك الحالة النفسية التي سيطرت على نفسي تلك الأيام. وإنَّما الذي أريد أن أقول هو أنني لبثت على مثل هاته الحال سنة كاملة، لا أجسر خلالها على إزهاق أرواح الورود، بل حسبي من كلِّ ذلك أن تُسَرَّ نفسي بمرآها الأنيق، وأن أمتِّع نفسي بما تسبغه عليها من حياة.
فقد كنت أحسُّ بروح علويَّة تجعلني أحسُّ بوحدة الحياة في هذا الوجود، وأشعر بأننا في هذه الدنيا — سواء في ذلك الزهرة الناضرة، أو الموجة الزاخرة، أو الغادة اللعوب — لسنا سوى آلات وترية تحرِّكها يد واحدة، فتُحدثُ أنغامًا مختلفة الرنَّات، ولكنها متَّحدة المعاني، أو بعبارة أخرى أنَّنا وحدة عالمية تجيش بأمواج الحياة وإن اختلفت فينا قوالب هذا الوجود.
وذلك هو ما كان يجعلني أعطف على الزهرة الناضرة عطف الإنسان على الإنسان. ليكن ذلك جنونًا أو هَوَسًا كما قلت، ولكن ليت هذا القدر الأصم يصاب بمثل هذا الهوس الذي يشفق على وردة تحلم بفجر الربيع، إذًا لكان العالم سعيدًا بهذا الهوس والجنون، وكانت الحياة أخف احتمالًا …
كانت تضطرب في نفسي هاته الذكريات، وتعج في قلبي هاته الأفكار والصور، وأنا جالس بين تلك التلال الخرساء الناطقة في صمتها بأبلغ معاني الحياة. ولما فرغت من تأمُّلاتي قطفت ثلاثة فروع من الزعتر ذي العطر البرِّيِّ الأريج، لا زالت على المنضدة أمامي تنقحني بعطر المروج، وتُعيد إلى نفسي جمال تلك الحقول، وصور ذلك الماضي البعيد.