الأحد ٥ جانفي ١٩٣٠
أمسية جميلة هي التي قضيتها هذا النهار، جميلة بنوع خاص؛ لأنها كانت في نزهة خلوية إلى البلفيدير. جميلة بوجه أخص؛ لأنها لم تُصْرَفْ في تلك الأحاديث السخيفة المبتذَلة، وإنما صرفت في حوار، إن لم يكن فنيًّا كله، فإن فيه كثيرًا من طابع الفن ومَيسَمه.
كانت النزهة مشيًا على الأقدام، صحبةَ رفيقين من رفقائي في السنة الثانية من مدرسة الحقوق التونسية. وفي ذلك الشارع الرحب الذي غرست على حافتيه أشجار النخيل، قد كان أحد رفيقيَّ يحدثني حديثًا هادئًا رضيًّا عن الاحتفال المئوي باحتلال الجزائر الذي ستقيمه فرنسا قريبًا هناك، والذي خصصت له نفقات ضخمة طائلة. وقد كان صاحبي وهو يحدثني عن ذلك يُبدي سخطه العنيف على كل من يذهب إلى الجزائر من التونسيين في مدة الاحتفال. ويذهب إلى أن ذلك فقط يكفي في نظره لاعتبار فاعله خائنًا ومِن أَسْقَطِ الناسِ. وفي شيء من المضض والازدراء حدثني رفيقي عن هاته الفرق التمثيلية التونسية التي تتسابق إلى تقديم رغباتها للمشاركة في عيد المظالم الاستعمارية. وقد ارتفعت قيمة صاحبي في نظري عمَّا كانت عليه لمَّا حدثني بمثل تلك اللهجة الصادقة مع أنه من طائفة المتوظفين التي لم نعرف عنها إلا أنها أشباح خشبيَّة في موكب الاستعمار العظيم.
وفي لهجة ملؤها السخرية أخذ يحدِّثني صاحبي عن طائفة أخرى من الناس، وهي هاته الطائفة التي تدَّعي لنفسها الأدب، وتزعم أنها خُلقت لقيادة الأفكار. ثمَّ هي مع ذلك تتخذ من مواهبها بخورًا تحرقه أمام العاهرات.
قال: «كنت ذاهبًا يومًا في بعض شوارع العاصمة لغرض نسيته، وإذا بواحد من هاته الطائفة يُقْبِلُ عَلَيَّ مُصافِحًا.» ثمَّ أخذ يماشيني، وما هي إلا خطوات حتى قال لي: هل تسمع؟
قلت: ماذا؟
قال: خطبة جميلة.
ثم أخرج من جيبه ورقة كبيرة من ذلك النوع الفخم الأنيق وأخذ يتلو عليَّ في صوت تعبث به غنَّة الطرب والإعجاب، ورأسه يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ووجهه يطفح بِشرًا، وعيناه ضاحكتان: إلى إلهة الفن، وربَّة النبوغ، إلى ذلك العصفور المغرِّد فوق أفنان العبقرية، إلخ … من تلك الكلمات المرقَّشة التي تجعل من الفن أغصانًا وأشجارًا، بل وروضة كاملة، وتجعل من مومسته عصفورًا يتغرَّد فوق أفنانها.
وبعد تلك المقدمة الطويلة التي لا تنتهي من روضة إلا إلى غصن، ولا من شجرة إلا إلى طائر، قال: «إلى …
نتقدم بمجهود سنة كاملة، وثمرات قريحة مخلصة دائبة … نتقدم بمجموعة رواياتنا التي ترجمناها وأعددناها لسنتنا المقبلة.»
وبعد أن أتم صاحبي خطابه، طواه بعناية ووضعه في محفظة أنيقة أُعِدَّتْ لذلك، ثمَّ رفع إليَّ وجهه وقال: ما رأيك؟
فقلت: تسألني عن رأيي؟
قال: نعم.
قلت: إنك بعملك هذا تُهين كرامتك ويراعك وقريحتك، وتجعلها تنظر إليك كما تنظر إلى مهرِّج معتوه، حَسْبُهَا أن تُلقي عليه نظرة راضية من وراء أهداب عَلِقَتْ بها شهوات كثيرة، حتى تستعيده إليها راضيًا بكل ما تأمر.
ثم إنَّك بهذا لا تطمئن إلى رضاها ولا تأمن غدرها؛ لأنك تعلم أنها أَمَةُ الدرهم والدينار. فلو عرض عليها غيركم مقدارًا أوفر مما تعرضونه عليها لاتَّبَعَتْهُ، ولسخرت بكل خطبكم المنسقة ومجهوداتكم الفائقة. وبذلك تكونون قد خسرتم كرامتكم وكل ما لديكم، ولم تظفروا بشيء.
وقد هالت صاحبي كلُّ هاته الصراحة، فلم يُجب إلا بهزَّة من كتفه وبابتسامة ذاوية متصنعة أردفها بقوله: «لقد غلوت كثيرًا، فإنها لا تتسفل لمثل هاته الوهاد …»
فلم أجد فائدة في محادثته مرة واحدة. وسكتُّ ساخرًا، ثمَّ أردت أن أصافحه مودعًا، فأبى عليَّ ذلك، وتمسَّك بي متشبِّثًا وأقسم أن أرافقه إلى أين هو ذاهب.
فرافقته مرغمًا. وبعد يسير وصلنا منزل المومس، فتقدم إلى الباب وضغط على الزر ولبث ينتظر. وظَلِلْتُ أنظر إلى الناس وهم غادون رائحون في الشارع الرحب الفسيح. وبعد ساعة انفتح الباب، وظهرت من خلفه أخت المومس. فما كان من صاحبي إلا أن انحنى حتى كاد يلامس الأرض. ثمَّ تناول طرف ردائها وقبَّله بخشوع كما يقبل الناسك المتبتل ستار المعبد المقدَّس. فألقت عليه نظرة ساخرة وابتسامة ماكرة، يمتزج فيها الخبث بالمكر والازدراء. ثمَّ تقدمت إليَّ مرحبة. وتقدَّمتنا إلى الطابق الثاني ثمّ أدخلتنا إلى غرفة نوم المومس. ولمَّا دخلنا إلى مخدع «آلهة الفن» كما يريد أن يقول صاحبي في خطابه، ألفيناها مضطجعة فوق سريرها بين المساند الحريرية واللحف المزركشة. فتقدَّم إليها صاحبي، وفي نصف ركوع مَدَّ إليها يده مصافحًا. ولمَّا أبصرتني حاولت أن تنهض لتصافحني. فابتدرها صديقي الأديب قائلًا: لا تتعبي نفسك ولا تكلفيها النهوض، فإنه صديقي كنفسي. فلمَّا لم تستطع اعتذرت إليَّ فأجبتها بما حضرني …
حديث سخيف لا طائل تحته. وقف صديقي إزاء السرير ورأسه لا يكاد يتجاوز حشيَّة السرير. وأخذ يتلو خطبة في صوت حاول أن يجعله رصينًا رنَّانًا واضح المقاطع قويَّ النبرات. ولما أتمَّ خطابه قدَّمه إليها في شيء من الاحترام والإجلال … ولا تسأل عن سرور صاحبنا حينما قالت له: «أحسنت» ووضعت خطابه بين نهديها كناية عن الرضاء.
لا تسأل عن فرحته فإنني ما حسبت إلا أن المقعد سيثب به أو يطير. وهكذا تمَّت تلك المهزلة البشرية. هاته المهزلة التي تُضحك وتُبكي في آنٍ واحد، هاته المهزلة التي كان بطلها واحد من فئة تدَّعي لنفسها الزعامة الفكرية في هاته البلاد، واحد من طائفة أدباء البلاد التونسية …!
إلى هنا ختم صاحبي قصته، وقال لي: ماذا ترى في هذا الأديب؟ فقلت: أرى فيه أنه لا يملك شيئًا من كرامة النفس الإنسانية، ولا عزتها العريقة، هاته الكرامة والعزة التي هي ذخر الإنسانية الثمين، والتي يحتاج إليها الأديب والفنان أكثر من كل إنسان؛ لأنها هي التي تخلق في نفسه تلك العزيمة الاستقلالية المنتجة. تلك النزعة التي تجعله أكثر شعورًا بنفسه واعتزازًا بها ممَّا عداه. وبذلك تكتسب شخصيته الوضوح والجلاء في آثاره، وتتخذ لها مسلكًا خاصًّا بين المسالك، ومذهبًا لها بين مذاهب الحياة.
والتماس هاته الحقيقة لا يكلِّفنا عناء البحث. فإنَّ أكبر الشخصيات في عالم الأدب والفنون إنَّما هي تلك الرؤوس المفكرة التي تعتز بما لها من مواهب، وبما عندها من شعور، والتي تشعر أن لها كيانًا مستقلًّا لا يمكن أن يندمج في سواه، وأن لها عزة لا ينبغي أن تهان، في حين أن أحقرها هي تلك التي يضعف شعورها بنفسها وبما لها من عزة وكرامة فتزج بنفسها في سبيل المهانة والذل والتقليد، ولا تشقُّ لنفسها سبيلًا بِكرًا للمجد والحياة.
فالمتنبي قد كان عزيز النفس شاعرًا بعزَّته وكرامته رغم امتداحه الملوك، وبذلك تخطَّى أعناق الدهور إلى سماء الخلود. والمعرِّي قد كان أكثر شعورًا بعزَّته وكرامته، وبذلك ابتكر مذهبًا جديدًا في الفكر، ومدرسة حديثة في تفهُّمِ الحياة.
قد بقيت أحاديث أدبية كثيرة حال دون كتابتها هنا امتلاء الصحيفة.