الثلاثاء ٧ جانفي ١٩٣٠
أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنَّني ما أزداد يومًا في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورًا بمعاني هاته الغربة الأليمة.
غربة من يطوف مجاهل الأرض، ويجوب أقاصي المجهول، ثمَّ يأتي يتحدَّث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدًا منهم يفهم من لغة نفسه شيئًا.
غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسِرَّةِ النوم الناعمة، فإذا جاء الصباح وحدَّثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام، وحدَّثهم في أناشيده عن خلجات النجوم ورفرفة الأحلام الراقصة بين التلال، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا من يَفْقَهُ أغاني روحه.
الآن أدركت أنني غريب بين أبناء بلادي. وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوبَ البشر، فترتِّل أغاني أرواح الشباب المستيقظة، وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد …
أمَّا الآن فقد يئست. إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة، ولا يفقهون صورة واحدة من صور الحياة الكثيرة التي تتدفَّق بها موسيقى الوجود في أناشيده. الآن أيقنت أنَّني بلبل سماوي قذفتْ به يد الإلوهية في جحيم الحياة، فهو يبكي وينتحب بين أنصاب جامدة لا تدرك أشواق روحه، ولا تسمع أنَّات قلبه الغريب … وتلك هي مأساة قلبي الدامية …
يقولون حَدِّثنا عن الحقيقة، وخلِّنا من خطرفة الخيال … وهل حدَّثهم قلبي عن غير الحقيقة منذ علَّمَتْهُ الحياةُ الكلامَ؟ ولكنني حينما تحدثت عن الحقيقة لم أتحدَّث عنها بتلك الأحاديث التافهة التي ألِفوا أن يسمعوها عن جَدَّاتهم في سكون الليل، وهم بين تهويم النوم ومناجاة الأحلام …
ويقولون: صف لنا الحياة. وهل وصفت لهم غير الحياة منذ غنيتُ لهم أناشيدي، ولكنِّي حين وصفت لهم الحياة لم أصِفْهَا لهم من نواحيها القريبة الواضحة، وإنما وصفتها من نواحيها البعيدة الغامضة المحجَّبة بالضباب.
ويقولون: ما لك لا تفكر في شِعرك؟ وإن لك في أسلوبك جمالًا ما نجده عند سواك! وليت شعري! ما هو التفكير إن لم أكن مفكرًا في أغانيَّ …! لست أدري حين يقولون ذلك هل أنا الشاعر المجنون الذي يترنَّم منشدًا بين القبور؟! أم هم الأغبياء الذين لا يفهمون أشواق الحياة …؟!
اجتمعت صباح هذا اليوم بأديبين أعرفهما كثيرًا، ولا أريد أن أُسَمِّيَهُمَا: أحدهما ملحدٌ متجاهر بإلحاده، وثانيهما ملحد يكتم إلحاده إلا عن الخاصة من خلصائه الذين لا يخشى لهم مغبَّة. وما إن استقرَّ بي المجلس حتى قال ثانيهما يخاطبني: «إن أدبك يا صديقي فنٌّ غريب لا أظنه يعيش في تونس، فأنت في شعرك من الشعراء الذين يدينون بالمذهب الرمزي: «سانبوليزم»، وإنني لعلى يقين من أن أدبك لا يفهمه في تونس إلا أفراد قلائل لا يتجاوزون الأربعة أو الخمسة على الأكثر.
فعارضه الأديب الأول قائلًا: أراك غلوتَ كثيرًا في حكمك، وجاوزت حدَّ الإنصاف، وما أدراك أنَّ أدب صديقنا لا يفهمه إلا مثل هذا العدد النَّزَر اليسير. ولْأَبْدَأْ بنفسي، فإنني أفهم شعر صديقنا حقَّ الفهم، وأدرك مراميه البعيدة، وأشعر حين أقرأه بخيالات تجول في نفسي، وبعواطف تتحرَّك في قلبي، وبآفاق تنفسح أمامي وتمتد. ولكنِّي رغم كل ذلك ورغم إعجابي بأدب صديقنا وإكباره، فإنني أودُّ لو لم يقصر مواهبه على هذا اللون الوحيد من الأدب، ولو خاض معترك الحياة وعاد لنا بمثل عنه وصور وميزات.
فأجابه الآخر قائلًا: إنني لا أزال مصرًّا على رأيي وأجزم به، فإن أمير الشعراء مثلًا لا يفهم من شعر أبي القاسم الشابي شيئًا. أقول لك هذا وأنا على يقين ممَّا أقول. إن هذا الفن من الأدب الذي يتخذ من الطبيعة رموزًا لمعاني النفوس جميل جد جميل، ولكنه سامٍ جدًّا، وغامض في سموه، بحيث إنه لا يفهمه إلا نفوس قليلة نادرة، حتى إنني لا أفهم من فن أبي القاسم ومراميه إلا قليلًا حينما تكون ليس لها من الغموض والرمز حظ كبير. وقصاراي فيما عدا ذلك أنني أحسُّ بقوة غريبة تستحوذ عليَّ حين أتلوه لا أستطيع لها فهمًا. فأعجب به وأقول: لا بد أنَّ وراء هذا الرنين حياة، ولا بد أن خلف هاته الغيوم آفاقًا فسيحة.»
ولمَّا انتهى صاحبي من كلمته، أحسست باليأس والقنوط يستحوذان عليَّ، وقلت في نفسي كما قال يوليوس قيصر حين لعبت به السيوف: «حتى أنت يا أنطونيوس». أجل! فقد كنت أحسب أنه خير من فهمني، وأَدْرَكَ أشواق قلبي وأفراحه، وأصغى لأغاني روحي، وأغانيها في ظلمة القفر البعيد … فإذا به شَرُّ مَن جهل لغة نفسي، ولم يفهم منها إلا الساذج البسيط. وظلِلْت صامتًا لا أتكلم، وأنا أقول في نفسي: «لست واللهِ غير طائر غريب يترنَّم بين قوم لا يفهمون أغاني الطيور، ولكن هل يحفل الطائر بالوجود حين يترنَّم؟ هل يسأل الناس أيكم يفهم أغاني الطيور؟ كلَّا! يا قلبي! كلَّا … سر في سبيلك يا قلبي، ولا تحفل بصفير الأبالسة، فإن وراءك أرواحًا تتَّبِعُ خُطاك.»