الأربعاء ٨ جانفي ١٩٣٠
لم أغادر المدرسة سحابة هذا اليوم، فقد كان النهار كثيبًا متجهمًا تلبَّد في سمائه غيوم كثيرة. وكان العَمَلَةُ يعملون لتكلِيس غرفة الطلبة، وكانت أدباشُ الطلبة وخريثُهم مكردسة هنا وهناك، وكانت آلات العمل مبعثرة بالبيوت وأمام الجدران. وبالجملة، فقد كان منظر المدرسة على غاية من التشويش وسوء النظام، ولكنَّني مع ذلك اخترت المكوث بالمدرسة كامل هذا اليوم على أن أغادرها، فقضيت قسمًا من الصباح في دراسة قانونية صحبة بعض رفاقي من طلبة الحقوق، زارنا في أثنائها ضيف ثقيل، كاد أن يكدِّر علينا ما اجتمعنا لأجله، وأن ينغِّص علينا الحياة.
وقد كان زائرنا هو ناظر العَمَلَةِ الذين يعملون بالمدرسة. وهو رجل أشقر اللون، ممتلئ الجسد، تمتزج في نظرته غباوة الضبع بخبث الثعلب. وقد كان صاحبنا مهذارًا لا يكاد يكف عن التحدُّث والتساؤل، حتى لقد همس إليَّ بعض رفاقي ضاحكًا: «ما أجدره بصناعة حلَّاق، ولكن القدر ظَلَمَهُ حين وضعه في وظيفة مراقب الْعَمَلَةِ.»
دخل علينا صاحبنا وحيَّا، ثمَّ جلس على مقعد والتفت إلى الشبَّاك فرآه مفتوحًا، فأراد أن يلقي علينا نصيحة غالية.
فقال: «ما كان من حقكم أن تفتحوا الشبَّاك في حين أنه مواجه لباب البيت، ألا ترون أنَّه يُحدث تيارات هوائية بالبيت ربما أضرَّت بكم وأضرت بالجالسين.»
فقال له رب البيت: «لقد فتحناه قصد إحداث هذا التيار لجرف رائحة النوم وتصفية هواء البيت.»
فلم يسكت وقال: «ولكن هواء البيت قد أصبح نقيًّا صافيًا، ولذا فالواجب غلق الشبَّاك أليس كذلك؟»
فقال له صاحبي وكان أوسعنا صبرًا: «لقد فتحناه عن إرادة وقصد، وغايتنا أن الهواء متجدِّدٌ على الدوام، خصوصًا ونحن بعيدون عن منطقة الخطر، إذ إنَّ مجلسنا بعيد عن مصبِّ التيار الهوائي.»
فلم يقتنع صاحبنا الثقيل، وأراد أن يطيل الحوار. ولكنَّنا أغضينا عنه ولم نُعِرْهُ التفاتًا. وأخذت أسرد، وكأن صاحبنا لم يفهم. فزاد في حديثه الجميل، ثمَّ التفت إلى أحدنا وكان يدخِّن قائلًا: «أليس حرامًا عليك أن تدخن، وأنت تدرس العلم، وكتب العلم أمامك مفتوحة؟»
فابتسمنا جميعًا، وأجابه المدخن: حقًّا، ولكن هاته كتب قانونية ليس إلا؟ ثمّ أعقب الرفيق كلمته بابتسامة فيها من السخرية شيء كثير.
ولكنَّ صاحبنا الثقيل لم يفهمها أو لم يرد أن يفهمها، بل قال ضاحكًا: «إذًا فناولني سِكَارة» فلمَّا ناوله قال: «بارك الله فيك» وما كان أغنى صاحبي عن دعواته. ثمَّ أردف قائلًا: «حقًّا إن التدخين جميل يدفع عن النفس ما يثقل عليها» وأتبع كلمته الذهبية بابتسامة بغيضة مستثقلة.
وانتهزت فرصة سكوته وتناولت الكتاب وأخذت أتلو، ولكن صاحبنا أخذ يتحدَّث من جديد مع بعض الرفقاء، فوضعت الكتاب ولبثت صامتًا أصغي لحديثه المملِّ، وأعجب لروحه الثقيلة التي لا تفهم أنَّها نقمة سلَّطها الله علينا. ودخل في حديث طويل عن الوظيفة والمتوظفين، وعمَّا نقرأ من دروس، وما لنا من مستقبل. ثمَّ تساءل عن الرئيس الذي سيخلف رئيس الجمعية المتوفَّى. فأجابه أحدنا: «بأنَّه يشاع أنه سيكون فلانًا. فأخذ يحاوره، ثمَّ أخذ يسأل عن سُكنى فلان، في أي شارع هو؟ وعن الشارع في أي قسم من العاصمة هو؟ وما عدد المنزل؟ وما هي صفاته؟ ولم يبق له إلا أن يسأل عن عرضه؟ وطوله؟ وكم فيه من طابق؟ وكم فيه من لبنة؟».
وهنا كان قد ضاق ذرعي به، ونفد كل ما معي من الصبر. فأخذت الكتاب بعنف وأخذت أتلو السطور والصفحات، وكأن صاحبنا قد شعر بأنَّ مركز الثقل النوعي قد كان كامنًا فيه، فتحرَّك وتحفَّز وأخذ ينظر، ولمَّا رأى أنه لم يُقسم عليه أحد ليطيل الجلوس نهض واقفًا ثمَّ ودَّع وانصرف.
ولمَّا خرج شعرت كأن ثقلًا قد أزيح عن عاتقي، وأخذت أتنفس بملء رئتي من ذلك الهواء الذي كان ينفحنا به الشباك المفتوح، رغم أنف صاحبنا الثقيل. ثمَّ قلت: الحمد لله على رحمته بعد نقمته، ونعمته بعد عذابه.
وأمَّا المساء فقد قضيته بين التنقُّل من بيت إلى بيت، ومن الوقوف مع هذا الطالب الذي يخاصم العامل ويتَّهمه بأنه غشه ولم يخلص في عمله، ويهدِّده بأنه سيأتي بأمين يقدِّر ما في عمله من نقص وغش، إلى الوقوف أمام صاحبنا الثقيل والاستماع إلى حكمه الثمينة الغالية، وقصصه الجميلة الفكهة التي تغشى على النفس وتكاد تقضي عليها، إلى دراسة قانونية مع رفاقي من طلبة الحقوق. وهكذا تصرَّم العشي وانقضى.
ولمَّا تفرق جمع الْعَمَلَةُ وانقضى العمل، وذهب كلٌّ في سبيله وانتهى عملنا القانوني، جلست إلى المنضدة وأخذت أَتَلَهَّى بتنظيم الكتب والعبث بالأوراق. وما هي إلا ساعة حتَّى أقبل صديق أديب وبيده السياسة الأسبوعية، فتناولتها منه وأخذت أقرأ بعض فصول فيها، فوقع نظري فيها على فصل موجَّه إلى الدكتور هيكل أذكرني بفكرة انتقاديَّة وجَّهتها عليَّ مقدمة هيكل التي كتبها لكتابه «تراجم مصرية وغربية» التي اختصر فيها تاريخ مصر وذكر فيها آراء غريبة وطرقًا شاذة في التاريخ ودراسته، فصارحت صديقي بفكرتي، فألح عليَّ في أن أكتبها وأنشرها على صفحات «العالم» فوعدته، ولكنَّني لم أكتبها لحد الآن، ولا أدري هل أنا كاتبها أم لا؟ إن فكرة المقال جاهزة مهيَّأة لا تحتاج إلا لإجراء القلم، فإذا المقال حاضر، ولكنَّني أشعر بتثاقل عن كتابة الفكرة لا أعلم مأتاه.