الخميس ٩ جانفي ١٩٣٠
عرفته أديبًا له حظ موفور من بُعد النظر ورجاحة التفكير وجمال الأسلوب. وعرفته شاعرًا له روح حسَّاسة شاعرة، وأحلام غريبة رائعة، وخيال قوي وثَّاب.
وكنت إذا جلست إلى الناس واستمعت أحاديثهم شعرت بالحاجة إلى ما يثير عواطفي، ويحرِّك وجداني، ويُؤَجِّجُ في داخلي نيران الحياة؛ لأنَّني أرى الخمول يدبُّ في مشاعري ويستحوذ على نفسي كأنَّها انقلبت قبضة من رماد خابية. أمَّا بجواره فإنَّني أحس بعواطفي وإحساساتي تتَّقِدُ وتتوهَّج وتندفع وتجيش كعاصفة من نار، وأشعر بأنني شعلة حيَّة نامية تضطرم في موقد هذا الوجود؛ لأنَّه كان يحمل بين جنبيه عاصفة نارية مشبوبة تدوي بتيارات الحياة، ولم يكن يحمل بِرْكَةً آسنة تعكس على صفحاتها النائمة أشباح الجبال وظلال الغيوم. ولأنني كنت أجد في صدره تلك النفس الحسَّاسة الطموح الجيَّاشة بشتى المعاني والصور، وذلك القلب الشاعر الملتهب الذي يطبع كل ما يلامسه بطابع من نار.
نعم عرفته، ولكنني في الحقيقة لم أعرفه، فإنَّني لم أكتشف مناجم قلبه الذهبية، ولم أطَّلع على ما في روحه الشجيَّة من كنوز غربية قبل اليوم.
كان الوقت أصيلًا والشمس تلقي على أشجار البلفيدير حلَّة ذهبية ساحرة، وفي السماء غيوم ملونة زاهية، وأنا ورفيق لي جالسان إلى مقعد من مقاعد البلفيدير، وأمامنا سرب من عذارى الإفرنج يلعبن لعبة «التنس» في رشاقة وخفَّة كالعصافير، وفي يميني كتاب «رافائيل» الذي رسم فيه لامارتين صورًا من شبابه الزاخر بالعواطف والأحلام، ورفيقي يطالع «تاييس»، وأنا أجيل بصري مرَّة في جمال السماء التي توشِّحها الغيوم، وأخرى في رقَّة الشمس الذائبة على ذوائب الأشجار، وطورًا في فنِّ الحياة الماثل في هؤلاء الغواني اللواتي ترنِّح أعطافهن حُميَّا الشباب.
وأقبل صاحبنا الشاعر، وأنا أطالع صفحة من «رافائيل» ورفيقي غارق في «تاييس» إلى أذنيه. فقال بعد التحيَّة يخاطبني وهو يجلس بيننا على المقعد: «عجبت ألَّا يصرفك جمال الوجود وفتنة هؤلاء العذارى اللَّاعبات عن أوراق الكتب؟! وقد عهدتك من عُبَّاد الطبيعة والجمال. أَوَلَا توافقني على أن الكتب رغم ما فيها أحيانًا من غذاء شهي للفكر والعاطفة، كثيرًا ما ظلَّلت الناس وأركبتهم متن الشطط في أحكامهم؟ وإن خيرًا لهم لو أخذوا دروسهم رأسًا عن هذا الكون العجيب.
فأجبته: «لو كان كلُّ الناس يستقون من منبع واحد هو هذا العالم الرائع لكان الناس أسعد حالًا مما هم عليه الآن، ولاستراحوا من كثير من الأضاليل والأوهام التي تثقل عقولهم وتنوء بها أرواحهم في أودية الزمان، ولكن الله — لشقاء البشر — لم يطبع الناس على غرار واحد في المواهب والملكات حتى يمكنهم كلهم أن يتلَقَّوْا دروس الحكمة عن هذا العالم الكبير. أما استصحاب الكتب فقد أصبحت عادة لي كُلَّمَا ذهبت إلى منتزه أطالعها حينًا، وأطالع الكون أحيانًا، وأسترسل مع نفسي آونة في عالم كلُّه أطياف وأحلام».
فالتفت إليَّ صاحبي، وكان قد رجع إلى الانكباب على «تاييس» وقال له: «وأنت ماذا تطالع يا صديقي؟ فإني أرى كتابك قد فتنك عن نفسك وملك عليك كل مشاعرك».
فقال وهو يبتسم: «تاييس».
فقال: «إن هذه القصة الفلسفية جميلة رائعة، ولكنَّها لا تعدو — كآثار كل أولئك الذين ندعوهم فلاسفة وشعراء ومفكِّرين — أن تكون ثرثرة نفس معذَّبة تحترق في جحيم الحياة».
فقلت: وكيف ذلك؟
قال: «لقد كتب هؤلاء الفلاسفة والشعراء والمفكِّرون كثيرًا، بل أكثر ممَّا يتصور العقل، ولكنَّ الإنسان ما زال في صميمه هو ذلك الإنسان الأول الذي يقضي أيامه باحثًا عن طريدته بين الأدغال والأودية، وفي شعاب الجبال وأحشاء الكهوف، وما زالت الطبيعة كعهدها منذ الأزل تلك الغابة الآبدة المرهبة التي يمشي في ظلماتها ركب الإنسانية التائهة بأقدام مهزولة وأجفان مطبقة …».
فقال له صاحبي — وهو يعابث صفحات الكتاب —: «فما لك تنظم الشعر إذًا يا صديقي؟»
فأجابه في لهجة ملؤها المرارة والألم: «لأنني لم أجد دورًا أسخف من هذا أمثِّله في رواية الحياة السَّخيفة».
فابتسمنا حائرين، ثم صمتنا واجمين، ثم أطرقنا مكتئبين، وأخرج صاحبنا سيقارة أشعلها وانطلق يدخِّن صامتًّا. ثم وضع رِجْلًا على رِجْلٍ وولَّانا ظهره، وراح يغني أغنية رقيقة هادئة كثيرًا ما يغنِّيها حينما تكون نفسه هائمة، وأفكاره مضطربة ثائرة. ومرَّت فترة من الزمن مثقلة بالحيرة والتشاؤم، وكان هو أثناءها يتغنَّى بصوت خفيف كأنَّما يُنَاجِي نفسه أو يخاطب روحًا هائمة، ثمَّ نهض واقفًا وهو يقول: «لقد ملِلت هذا المكان. فهل لكم في غيره.»
فقلت له: «وكيف تَمَلُّ يا صديقي وحولك هذا المشهد الطبيعي الجميل، وأمامك هؤلاء الصبايا اللواتي لم تخلُقهن الحياة إلا ليحرِّكن في الناس عبادة الحب والجمال.»
فقال متضجِّرًا: «الحب والجمال»، «دعونا يا عبيد الحياة من هذه الكلمات الجوفاء ذات الرنين، فما الأفراح واللَّذَّات والأحلام والشهوات سوى أشراك ذهبية لامعة تنصبها لنا الحياة لتقودنا بها عبيدًا مُسَخَّرِينَ إلى غاياتها البعيدة الغامضة».
فقلت: «وهل تدعونا أنت إلى التحرُّر من عبودية الحياة؟»
قال: «كلا! فأنا لا أدعو إلى هذا لأن الانطلاق من عبودية الحياة معناه الموت، بل الموت نفسه ليس إلا لونًا آخر من ألوان هاته العبودية الخالدة، ولكنَّني أُكْبِرُ من العبد الأسير أن لا يحسب القيد حلية فيستقبله مهلِّلًا شاديًا محتفلًا، بل يتلقَّاه وهو عالم أنه ليس إلا قيدًا برَّاقًا وغلًّا مموَّهًا بالذهب …»
فقلت له: «وما جدوى هذا؟ أليس هذا ممَّا يجعل الحياة شديدة لا تطاق؟»
قال: «ما الجدوى وما الفائدة؟ تريدون لكل شيء فائدة، ولكنكم لا تسألون عن الفائدة من خلقكم في هذا الوجود … ما الفائدة؟ حتَّى الحقائق تريدون لها قيمة ذهبيَّة …! تالله ما أسخفكم يا عبيد الحياة، الفائدة هي أننا عرفنا الحقيقة ولو كانت مُرَّةً، ولم نكن مخدوعين بشعوذة الحياة …، ولكنكم تفرُّون من الحقيقة المرَّة مؤثِرين عليها حلاوة الأوهام.»
ومرَّ بنا صبي صغير يقتاد قردًا وهو يعرضه على النظَّارة ليمثِّل أدوارًا علمته إياها العادة والمِرَان، فأشرت إليه في شيء من السُّخرية والجفاء والمرارة قائلًا: «يا للشقاء والخيبة على مثل هؤلاء تشيد الأمم صروح الأمل؟». فتأفَّف قليلًا، ثم قال ثائرًا وهو ينفث الدخان من فمه: «السخرية! الجفاء! الكلام! ذلك ما علَّمتنا الأيَّام، أمَّا الحقائق فهي تبكي وحدها في ظلام الأسى … ثم رماني بنظرة عطف وقال: «لا تسخر يا صديقي! فإن كُلَّ واحد من أبناء الإنسان يجرُّ من نفسه قردًا أو قردة في مسالك الحياة الوعرة …، فواحد من سخافاته وادِّعاءاته، وواحد من غروره وكبريائه، وواحد من دناءة الطبع وخساسة النفس، وواحد من إقفار الذمَّة وخراب الضمير، إلى كثير غير ذلك من أنواع القردة المعنويَّة التي يجرُّها الناس وهم لا يشعرون …»