كيف تُربَّى الفتاة المصرية؟
إنَّ المرأة كالرجل عقلًا كما قدَّمت، فما يَصلح في تنمية عقله يصح أنْ ينمي عقل المرأة، ويربي إدراكها عند غرس المعارف العمومية، وتربية إدراك الأطفال، ولا بأس بعد ذلك أنْ يستعد كل منهما لعمله الخاص … هذه حقيقة يعلمها كل مُنشغل بفن التعليم، ولكن بعض الناس يجهلون ذلك، ويحاولون إخراج النساء من طبيعة الإنسان، فيخترعون لهن المناهج المختلفة حتى في التعليم الابتدائي، ويبحثون عمَّا ينمِّي عقولهن بعد أن اهتدوا إلى ما يُنمِّي عقول الرجال، وعرفوا أنَّ الرجل ينجح في هذه الحياة بقدر اتساع معارفه في مختلف العلوم، ولكنهم يُنكرون تطبيق هذا على حالة المرأة، ويدأبون في عمل مناهج خاصة بها، تاركين ما استنبطوه بالتجارب من تنمية عقل الرجل وهي مثله، فكأننا نرجع بها إلى الوراء، أيام كان الناس يجهلون ما ينجع في تربية العقول، ويظنون أنه يجب على كل إنسان أنْ يتعلم ما يتعلَّق بعمله لا يزيد عليه، وما زالوا في أخذ ورد إلى أنْ وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، ولو طبقوا ذلك على حالة المرأة لكان أولى بهم؛ لأنها أنثى الرجل، لا تختلف عنه إلَّا في أمور محصورة، فلِمَ يتركون تلك النتيجة الناضجة، ويوالون التجارب ليعرفوا ما يصلح لحال هذا الإنسان؟! ولا أظن أنَّ هذا البحث يوصلهم إلى غير هذه النتيجة التي وصلوا إليها في شأن الرجل لو أنصفوا.
يزور عظماؤنا مدارس البنين، فيلتفتون إلى ذكاء التلاميذ ومقدار ما أحرزوه من مختلف العلوم، وإذا زاروا مدارس البنات عادوا منها بمدح التطريز! وأكثر ما يعجبهم هو التفات أصحاب تلك المدارس إلى وضع منهج خاص يوافق حالة الفتاة الصغيرة … فيا سبحان الله! ألم تُعتبر البنت إنسانًا يوافقه ما يوافق الإنسان من التربية الحسنة، أم هي مجهولة إلى الآن؟!
على أنَّ الاختلاف في تربية الأطفال كان أول الأسباب الدَّاعية إلى نفور الزوجين وعدم اتفاقهما؛ إذ كيف يعقل أنْ يتفقا وهما مختلفان في المشارب والأميال؟ فهذا تربَّى على مبادئ صحيحة وعلوم راقية، واختلط ببعض الأمم الأجنبية الرَّاقية، وتعلَّم لغتها فتأثَّر ببعض عاداتها الحسنة، ووصل إلى حقائق لم يصل إليها الجاهل، فهو يميل إلى العلم والنبوغ، أمَّا الفتاة فتقتصر في الغالب على تعلُّم التطريز والطبخ والغسيل والقراءة والكتابة بلغتها، فهي جاهلة لا تميل إلى غير ذلك، وهي لا تتفق مع رجل متعلم تطربه المناقشة العلمية، ويعجبه الوصول إلى الحقائق «وهل يطابق معوج بمعتدل؟!» يُربَّى الرَّجل تربية تناسب هذا العصر، وتُربَّى الفتاة تربية قديمة بالية، فكيف لا يترفَّع عن مخالطتها، وينصرف عنها إلى الأجنبيَّات؟!
ولقد ناقشني في التربية الحديثة سيد مصري تزوج بأجنبيَّة، فقال لي: إنَّ اقتداءنا بأوروبا في تعليم النساء يفسد حالهن الاجتماعية، فقلت: مهلًا أيها السيد، إنك معجب بالتربية الأوروبية؛ ولذا تزوجت هذه السيدة، وهي في اعتقادي لا تفوق كثيرًا من فتياتنا في الجمال والذكاء الفطري، ولكنك ملت إليها لما هي عليه من المعارف، فهل يسوءك أنْ نصوغ لك ولأمثالك من فتياتنا أمثال هذه السيدة؟ وإنْ كان يعجبك تربية الفتاة المصرية الآن، فلِمَ أعرضت عنها؟
نعم، كان في اختلاف تربية الرجل عن تربية المرأة خطر عظيم على رابطتهما، وضرر بليغ على الأمة، فإن الأمَّة كجسم يتكون نصف أجزائه من الرِّجال، والنصف الآخر من النساء، ولا بُدَّ لنجاح هذا الجسم من أنْ تتناسب أجزاؤه، فهو لا يستطيع المشي والحركة إذا كانت إحدى رجليه طويلة قوية والأخرى قصيرة ضعيفة، بل ربما كان صِغَر الرجلين معًا خيرًا له من طول إحداهما وقصر الأخرى؛ ولهذا نرى أنَّ أُسر الفلاحين الفقراء أكثر منا نجاحًا في أعمال الدنيا، وأقوى رابطة من أسرة المدنيين، فإن الأولى تستوي فيها معلومات الرجل والمرأة، أمَّا الثانية فيرتفع فيها الرجل إلى السماء علمًا ودراية، وتنحط المرأة إلى الحضيض في العلم والعمل والتجربة؛ ولهذا كانت الرابطة العائلية فيها مُنحلَّة ضعيفة، فالمرأة في الأولى شريكة الرجل ومساعدته، وفي الثانية عضو أشل يثقل كاهله ويزيد متاعبه، فرقُي الأمة لا يُنال إلَّا إذا تكافأ الرجل والمرأة في العمل.
إننا إذا لم نعلِّم الفتاة إلَّا ما يتعلَّق بأعمال المنزل، فقد أعدمنا مواهبها العقلية، ونزلنا بها من درجتها إلى منزلة الخادمات، وربما كانت هذه التربية الناقصة من أسباب انحطاطها، وتأخرها في الأعمال المنزلية، وكما أننا لا نربي الطفل من صغره عادةً لأن يكون طبيبًا أو محاميًا أو مهندسًا فقط؛ بل نربيه قبل ذلك تربية عامة، وقد نختار له نحن ما سيكونه، كذلك يجب أنْ نُربي البنت تربية عامة شبيهة الولد، ثم تختص بعد ذلك بالمنزل.
وهؤلاء شبابنا يتعلمون في مبدأ الأمر ما يتعلق بعملهم، وما لا يتعلق به مباشرة؛ رغبةً في تنمية العقل، فلا يُقبل الطالب مثلًا في مدرسة الطب إلَّا إذا نال شهادة الدراسة الثانوية، ولها يحفظ التلميذ آداب اللغة العربية، وآداب لغة أجنبية، وغير ذلك من تاريخ وجغرافيا، فما علاقة هذا بعلم الطب؟ أينتظر أنْ يُصرِّف الطبيب أمام مريضه فعلًا، فتنصرف عنه العلَّة؟ أو يطربه ببعض أشعار المتنبي فيخف ألمه؟ أم يتلو عليه كلمات شكسبير فتعود إليه صحته؟ أم يقصُّ عليه تاريخ السابقين فيُشفى؟ أم يتحفه بأسماء جبال الألب فيزيل بثلجها حرارة الحمى؟ بل لم يتعلم الطبيب كل ذلك إلَّا لتقوِّي مداركه، ويقوم بأعماله أحسن قيام، فتراه يستفيد من الزمن القليل الذي يمكثه في مدرسة الطب، أكثر مما يتعلمه الممرض الذي قضى حياته بين الأدوية والأمراض، ولو أنَّ الكفاءة بمباشرة العمل فقط، لكان بين الممرضين من يستحق الآن أنْ يكون رئيس مستشفى، وهو مع ذلك يعرف القراءة والكتابة، وربما تطفَّل على كتب الطب، ولكن كفاءته العلمية لا تؤهله لأن يكون طبيبًا، ولا تسمح له أية حكومة بذلك، إذا طبقنا هذا على حالة الفتاة، وجدنا أنَّ الفتاة التي لم تُرتَّب مداركها بمختلف العلوم، لا تصلح لأن تكون ربة منزل … تلك الدرجة السامية التي تكون فيها قابضة على سعادة الأسرة، مديرة لتربية أبنائها الذين منهم تتكون أمَّة الغد، تلك المنزلة هي أرقى المراتب وأسماها، ومع ذلك لم نهتم بتربية عقل صاحبتها قدر اهتمامنا بتربية الرجل، رغم أنها أولى والضرورة إليها أشد.
إذا علمنا ذلك وأضفنا إليه احتياج الفتاة إلى تعلُّم ما يقيها شر الحاجة إنْ احتاجت كما قدَّمت، وجب أنْ نهتم بتربيتها الجسمية والعقلية، ولا نضيع سني شبابها بين البطالة واللهو.
ولتقدير ما يجب أنْ تتعلمه الفتاة يجب أنْ نُحدِّد السن التي نخصصها لذلك، وإني وإنْ قلت الآن إنه لا يصح أنْ تتزوج الفتاة قبل سن العشرين ربما أغضبت كثيرين ممن يرون أنَّ هذا في معتقدهم لا يطابق العادات الشرقية والدين الحنيف، ولست أطيل البحث في ذلك؛ لأني أعلم أنَّ الحال الآن تضطر الفتاة — بالرغم منها ومن وليها — على الانتظار إلى ما بعد سن العشرين، ولذا لا أرى من الحزم أنْ نتناقش في شيء لا يزحزحه جدال … ولشرح هذا أقول:
قد اعتاد الرِّجال الآن ألَّا يتزوجوا إلَّا بعد أنْ يحصلوا على الشهادات العالية ثم يتوظفوا؛ أي بعد سن الثلاثين تقريبًا، وهي عادة حسنة تدل على رقيهم العلمي، ولا بُدَّ أنْ يسبب هذا تأخر الفتيات بالطبع، ولو على ما بعد العشرين فقط، وإذا كان هذا لا بُدَّ منه، فأنا في حِلٍّ من أنْ أجعل تعليم البنت إلى سن العشرين أو بعدها بقليل، وليس عليَّ ذنب في هذا التأخير، بل الذنب على الطبيعة في ذلك.
وربما عارضني في هذه الحقيقة كثير ممن يغرهم ما يسمعون من أعمار الفتيات، فقد اعتادت أكثر فتياتنا أنْ ينقصن من أعمارهن اتباعًا للعادة القديمة، فلا نرى الآن من الفتيات من تقول إنَّ عمرها فوق السابعة أو الثامنة عشرة، ومن العجب أنك لو سألتها بعد مضي عدَّة سنوات لأجابتك بمثل هذا العمر الذي تجيبك به اليوم!
كأنَّ هذه السنين التي تمر لا تُحسب من عمرها، ولقد صدقت؛ فقد مرَّت هذه السنون بدون أنْ تستفيد منها شيئًا غير تضييع الوقت، وربما فساد الأخلاق.
عرفنا أنَّ الفتاة يجب أنْ تستنير بالمعارف الرَّاقية؛ لتلائم الرجل المتعلم مَيلًا ومشربًا، وعرفنا أيضًا أنها تحتاج إلى تعلُّم علم أو فن، كما عرفنا أنها مضطرة — بحكم الرقي الجديد — أنْ تنتظر بلا زواج إلى ما بعد سن العشرين في الغالب، فيجب بعد هذا أنْ تصرف ذلك الزمن في شيء مفيد، لا في البقاء في المنزل وانتظار ما يأتي به القضاء والقدر … ولهذا أقترح النظام الآتي:
تدخل الفتاة المدارس الابتدائية في سن السابعة، فتصرف بها ست سنوات؛ أي أكثر من مدَّة الأولاد بسنة، فتنال الشهادة الابتدائية في سن الثالثة أو الرابعة عشرة — لو فرضنا أنها تأخرت سنة — وفي سن الرابعة عشرة تدخل المدارس الثانوية، فتمضي فيها أربع سنوات أو خمسًا، وتنال الشهادة الثانوية في سن التاسعة عشر، وفي خلال هذه المدة السالفة تتعلَّم بالتدريج التدبير والخياطة، وهذا لا يعوقها عن تحصيل ما يُحصله الأولاد؛ لأن كلا العِلمين لا يحتاج إلى تحضير، بل ممكن أنْ تكون الخياطة تسلية في الفراغ ولا حفظ فيها، كما أنَّ التدبير المنزلي قد يكون استذكارًا لما يباشرنه في أوقات الفراغ، وقد سبق أنْ زادت البنت على الولد في نظير ذلك سنتين في الابتدائي، وسنة في الثانوي.
وهنا يجب أنْ تصرف البنت سنة في المدرسة الخاصة بالتدبير المنزلي، ويكون تلقِّيها هذا العلم في سن العشرين، وبعد أنْ استنارت بما ذكرت من المعارف سهلًا نافعًا، فيمكنها أنْ تُتقنه إتقانًا جيدًا في سنة أو سنتين بالكثير.
وفي سن العشرين — أو الحادية والعشرين — تستعد للحياة الزوجية إنْ وجدت إليها سبيلًا، وإنْ لم تجد كان خيرًا لها أنْ تلتحق بإحدى المدارس العليا إلى أنْ يتيسَّر لها ما خُلقت له — كما يقال — وهذا بالطبع أفضل لها من التفرغ للانتظار وضياع العمر فيه بلا فائدة، هذا ما نعلِّمه للنابغات اللائي لا يتأخرن، أما من تتأخر في نيل الشهادة الابتدائية إلى سن السابعة أو الثامنة عشر مثلًا، فيجب أنْ تتعلَّم بعد ذلك التدبير المنزلي سنتين كما قدَّمت، ثم هي في حِلٍّ أنْ تدخل مدرسة الممرضات، أو تتقن فن الخياطة أو غيره، ما دام لم يتيسَّر لها ما تنتظره.
هذا على ما أظن خيرٌ للفتاة من الفراغ والبقاء في المنزل تنتظر هذا الأمر الذي طالما تسمع أنها حُجزت بالمنزل لأجله، ولا شك في أنَّ هذا الانتظار كان السبب في فساد أخلاق الفتيات، وتفرغهن للمغالاة في الزينة، ولا بدع أن أعماهن الجهل والفراغ عن سلوك السبيل القويمة، وما يُتلف الأخلاق أكثر من هذين الأمرين؟
ولست أقصد بالشهادة الابتدائية أو الثانوية تلك المناهج حرفيًّا، بل أقصد ما يماثلها في الكفاءة العلمية، كما أني لا أريد أنْ تقتصر البنت من العلوم على القشور، فتبدأ ولكنها لا تنتهي إلى شيء يذكر، فالفتاة التي تتعلم مبادئ أوليَّة في الجغرافيا مثلًا، فتحفظ أسماء لا فائدة من تكرارها ليس من العدل أنْ تُحرم من ثمرة هذا العلم، وتنمية عقلها بمباحثه النافعة، كالجغرافيا الطبيعيَّة والرياضة، كما لا نحرمها لذَّة الفكر في البحث في العلوم الرياضية، بدعوى أنها لا تفيدها في عمل منزلها، ولقد شرحت الآن أنَّ تربيتها العقلية العالية تفيدها في أعمال المنزل وإنْ لم تتعلَّق به مباشرة، فهي تسدِّد رأيها، وتقوي تصورها، وتجعلها على مستوى واحد مع زوجها قلبًا وقالبًا، وربما ساوته في نفس أعماله … كما كانت تفعل ذلك مدام كوري في الاكتشافات.
هذا رأيي … وعلى السيدات الغنيَّات منا تنفيذه إنْ أردن إصلاحًا؛ إمَّا بحثِّ رجالهن على إنشاء مدارس ثانوية للبنات، وإمَّا بإنشاء هذه المدارس على نفقاتهن، ومن المستحيل أنْ يرتفع شأن النساء ما لم يسعَين في ذلك، ولقد مرَّ بنا كيف سعت الإنجليزيات في إصلاح حالهن، وكرَّرن الطلب في دخول المدارس والكليات أسوةً بالرجال، فنلن أخيرًا ما طلبن، ولو لم يكن للتربية التي ذكرتها من فائدة إلَّا اشتغال الفتاة عن التغالي في الملاهي والزينة لكفى بها رُقيًّا للأمة.
هذا ما يختص بالمدارس، إلا أنَّ التربية المدرسية لا تنجح إلَّا إذا عضدتها تربية منزلية صحيحة، فيجب أنْ تهتم السيدة بتربية بناتها داخل المنزل وتهذيب أخلاقهن، فترتب أوقاتهن التي يقضينها بالمنزل، فتجعل لهن وقتًا للمذاكرة وآخر للعب والرياضة، حتى ينشأن صحيحات العقول والأجسام، كما يجب أنْ تحُثهن على الأعمال في أيام الجُمَع والإجازات السنوية، حتى إذا درسن علم التدبير طبقن العلم على العمل، وأصبح النظام عادة لهن منذ نشأتهن، وكذلك أرجو أنْ تقوم المدارس الداخلية بالعناية بهذا، حتى لا يقع نظر الفتاة في المدرسة إلَّا على ما يجب أنْ تقتدي به متى كبرت من النظام والترتيب مع لفْتِهنَّ إلى ذلك من وقت لآخر، وبذلك تنشأ الفتاة على مبادئ التربية الحديثة.
ولست أريد بكلمة «التربية الحديثة» أنْ تقلِّد فتياتنا الغربيَّات في الزي وحضور المراقص، ولكني أريد ألَّا يكون لباسهن مانعًا لهن عن موارد العلم، بل أريد أنْ يكون موافقًا لما جاء في القرآن الكريم، من ستر الزينة وإظهار ما يدعو إلى الوقار والحشمة، فيكون شكلهن شكل احترام لا يحتقره العقل، ولا يمجُّه الذَّوق، وأنْ يكون في حركاتهن وسكاناتهن زاجرًا للرِّجال عنهن، فهن على ذلك — وإنْ أكثرن الخروج في طلب العلم — أبعد عن مطامع الرجال من تلك الجاهلة التي يكفي خروجها مرة في الشهر لأن تكون أحدوثة في البلد، تتناقلها الألسن إلى أنْ تظهر مرَّة أخرى.