التدبير المنزلي والتطريز
علم الناس الآن ضرورة التعليم للبنات، إلا أنهم لا يزالون يعتقدون أنَّ تربية عقل البنت غير تربية عقل الولد، فكل من أراد أنْ يفتح مدرسة للبنات، وود رواجها أخذ يضع لها منهجًا جديدًا تُجتَذب به الأهالي، ويسير بالطبع مع تيارهم، فيجعل أول واجباته في وضع ذلك المنهج التدبير المنزلي والتطريز، وما من مُفكر يفكر ما هما هذان العلمان، ولا مقدار فائدة كل منهما، ولا متى وكيف يدرسان … إنَّ الطفل — سواء كان بنتًا أو ولدًا — يجب أنْ يُربَّى تربية مفيدة تُعدُّه لمعارك الحياة، فيعيش عيشة سعيدة، وكل لحظة من حياة الطفل يجب أنْ تُصرف في شيء مفيد له، لا في أشياء وهمية لا حقيقة لها ولا احتياج إليها، فكل ما يتعلَّمه يجب أنْ يُقصد به إمَّا تنمية العقل والإدراك أو تهذيب الأخلاق أو إعداده للكسب عند دخوله معارك الحياة مهما كان الأب غنيًّا، فلسنا نعلم ما وراء الغيب ولا ما يفعله الزمان بالطفل بتقلباته، وما الدَّهر إلا ارتفاع وانخفاض، ومن الجهل أنْ يُسلَّم الطفل لرحمة القضاء والقدر، فيدخل حرب الحياة أعزل، سواء في ذلك أكان بنتًا أم صبيًّا، فإننا لا نضمن لكل بنت الزواج، ثم الرَّاحة مع الزَّوج بعد ذلك، كما لا يمكننا أنْ نتخذ على الموت عهدًا ألَّا يختطف أباها وهي عذراء، ويعوزها إلى المساعدة، أو ينتشل أبا أبنائها وأمامها صِبية لا يستطيعون الاكتساب … فماذا تصنع إذ ذاك؟ أتحترف التطريز، وهي لو فعلت لماتت جوعًا … أم تخدم، أم تبيع … وفي كليهما عناء ما بعده عناء؟
لست أشك في أنَّ ترتيب المنزل من أهم واجبات الفتاة، بل هو عملها الخاص، ولكني مع ذلك يؤلمني أنْ أسمع أنَّ بنتًا في سن التاسعة أو العاشرة، اهتم أهلها بتعليمها التدبير المنزلي، ذلك الفن المبني على علوم ونظريات شتى، لا تستطيع الصغيرة فهمها بروية، كما لا تستطيع تحمُّل المشاق في أعماله، كمكافحة النار في الطبيخ، وحمل الحديد في الكي وغيره، فزمنها ضائع بلا فائدة، تستفيدها أو شيء ينفعها، كما يؤلمني أشد الإيلام أنْ أعلم أنَّ فتاة في سن الثانية أو الثالثة عشر قد حجزها وَلِيها بالمنزل لإتقان التدبير المنزلي ومباشرة أعماله، كأن التدبير المنزلي علمٌ مستقل بنفسه حتى تُحْرَم الفتاة من جميع العلوم لتتفرغ له، وما هو إلا إدارة المنزل، تلك المنزلة التي تحتاج إلى عقل راقٍ وذكاء نادر، وليست الفتاة أهلًا لها ما لم تأخذ من جميع العلوم العمومية بقسط؛ لأن اقتطاعها لهذا العلم ربما عاقها عن فهمه هو نفسه، فكثيرًا ما نرى السيدات اللائي صرفن كل حياتهن داخل البيوت وفي مباشرة أعمالها يجهلن النافع لمنازلهن، كما نرى من الرِّجال من يفهمون أسباب نجاح المنازل وانحطاطها، ويأمرون نساءهم باتباع النافع، فلا تلبث النساء أنْ ينسين هذا الأمر؛ لأنه لم يُطرح أمامهن كنظرية يبحث في صحتها العقل، بل كان أمرًا أو نصحًا جافًّا لا تأثير له في نفوسهن، ولا تقوى عقولهن القاصرة الضعيفة على فهم معناه؛ ولهذا لا يلبثن أنْ ينسينه فيذهب كأن لم يكن.
لا يكفي أنْ ننصح للفتاة بفتح الشبابيك ما لم تتعلم شيئًا مفيدًا من الطبيعة والكمياء وتركيب الهواء وخواصه وتأثيره في الجسم، هي لا تفهم ذلك حق الفهم إلا إذا تربَّت مداركها بالعلوم الابتدائية، كما أنه لا يفيدها شيئًا أنْ ننصح لها بتنظيف الأواني والاحتراس من ترك بعض الحوامض في الأواني النحاسية، والابتعاد عن ترك نور الغاز في غرفة النوم لما يُخرج من الكربون أو غير ذلك، فإن كل النصح لا موقع له من قلبها ما لم يكن لها من عقلها مُرشد وحاث على مثل هذه الأمور.
إنَّ الفتاة التي تتبع هذا النصح لأنها قرأته في كتاب التدبير المنزلي، أو سمعته من معلمتها، غير الفتاة التي استنبطت مما تعلمته تأثير العناصر بعضها في بعض، فعرفتها معرفة تامة، وفهمت ذلك على وجهه الصحيح، فإن الأولى ليست إلا تابعة ومقلِّدة قد تمر عليها بعض ظروف لم تكن ذُكرت في كتاب التدبير المنزلي أو تناولتها معلمتها في مباحثها، فتكون عُرضة للخطأ فيها، أما الثانية فقد تعلمت عموميَّات، يمكنها تطبيقها على جميع الظروف والأحوال، كما يمكنها بحدة ذكائها أنْ تبتكر أفكارًا لم يسبقها أحد إليها، فهي مفكرة مبتكرة لا مُقلِّدة متبعة، ونحن لو جرَّدنا التدبير المنزلي من علوم الكمياء والطبيعة والتشريح والفسيولوجيا والأخلاق واللغة، التي تقوى بها الفتاة على تفهم كل هذا؛ لوجدناه شيئًا بسيطًا لا يتجاوز المسح والغسل والكي والطبخ، وهي أمور عملية يمكن للفتاة أنْ تتدرَّب عليها أثناء المسامحات العمومية من كل سنة مدرسية، تكون بمثابة تطبيق على ما تعلمته لا أنْ تنقطع لها مدَّة الشباب.
والمنازل التي تُحجز فيها الفتيات لمباشرة الأعمال إمَّا أنْ تكون غير منتظمة — وهنا كان الأولى عدم بقاء الفتاة فيها — وإمَّا أنْ تكون على تمام النظام والترتيب، وفيها تلاحظ أنَّ أيام الأسبوع توزع على أعمال المنزل، كما توزع ساعات العمل على أعمال كل يوم منها، فيكون الأول لتجهيز الخبز مثلًا، والثاني للغسيل، والثالث للكي، والرابع لتنظيف جميع حجرات المنزل، والخامس للخياطة، والسادس لمقابلة الزوَّار، والسابع لملاحظة نظافة الأطفال … وقد يمكن استبدال عمل يوم بآخر حسب ما يتراءى لربة المنزل، وعلى العموم فلا يخرج العمل عن هذا في أيام الأسبوع، وفي كل يوم يبدأ العمل بنظافة الأطفال، ثم تحضير الفطور، ثم ترتيب نظام المنزل العمومي، ثم الالتفات إلى عمل اليوم الخاص من كي أو غسيل أو غيره، فجميع أعمال المنزل المختلفة يجب أنْ تتكرَّر في كل أسبوع مرَّة، كما أنَّ النظام العادي لكل يوم من ترتيب المنزل وتجهيز الفطور والغذاء والعشاء يتكرَّر كل يوم مرَّة، أي سبع مرَّات في الأسبوع، ويتكرَّر عمل المنزل بتمامه ٥٢ مرَّة في السنة، وأظن أنَّ السنة الواحدة تكفي لتعلُّم هذا الفن ورسوخه رسوخًا ثابتًا في الذِّهن، خصوصًا إذا كان لدى الفتاة الاستعداد والعلم الكافي لفهم الأمور على حقيقتها، وعلى هذا لا أفهم معنى حجز الفتاة السنين الطوال بحجة مباشرة أعمال المنزل، وقد كان في وسعنا تدريبها على هذا العمل مدَّة المسامحات المدرسية من كل سنة؛ أي ثلاث شهور ونصف في السنة، فلو ابتدأنا من سن الثالثة عشر إلى سن العشرين — وهي السن المعدة لتعليمها كما مر — لكان لدينا أربعة وعشرون شهرًا تقريبًا؛ أي سنتان تتكرَّر فيها أعمال المنزل ١٠٤ مرَّة، وما أظنها بعد ذلك إلا نابغة في هذا الفن لو شاء أهلها، وهي في أثناء ذلك تتعلم مختلف العلوم الضرورية لاستنارة العقل، حتى إذا اختصت بدرس التدبير المنزلي بعد ذلك فهمت لِمَ لا يصح أنْ يؤمر الطفل بعمل شيء، بل يلاطَف ليميل إليه، ولِمَ لا نترك أثاثًا كثيرًا في حجرة النوم، ولا يُستحسن أنْ تُفرش أرضها بالأبسطة الكبيرة التي يُتعذَّر رفعها من آنْ لآخر، ولِمَ كان هذا سبب كثير من التعب وعدم الفهم على من لم تتعلَّم تمامًا.
وقد أصبح يؤلمني أشد الألم أنْ يفتخر الناس بتخصيص بناتهم لدرس علم التدبير ومباشرة أعماله التي تتكرر من آن لآن، فيصرفن العمر في معرفة نتائج جافة لا تلبث أن تُنسى، محرومات من البحث في نظريات العلوم الصحيحة التي توصلهن إلى الحكم على نتائج الأعمال حكم خبير مُفكِّر.
أما التطريز فصنعة قديمة، وهو من الصنائع التي أعدمت أهميتها الآلات البخارية لقيامها بها، فأصبح المتر «الرُّكامة» أو «الدانتلَّة» يُباع بقرش أو بنصف قرش، وهو مع ذلك مُتقن الصنع، لا يكاد يميزه الإنسان من متر طرَّزته صانعة ماهرة في عشرة أيام متوالية، وكذلك الأشغال المزركشة بألوان الحرير، فقد أصبحت تباع بما لا يزيد على ثمن موادها الأصلية، فما معنى تضييع زمن الفتاة في عمل مثل هذا؟!
كان الكُتَّاب في الأزمانِ الغابرة يعيشون من نسخ الكتب، فهل نرى لذلك من أثر اليوم بعد أنْ اخترعت المطابع؟ وكان الرِّجال يسافرون على ظهور الحيوانات إلى أقصى البلاد، فهل استمرُّوا على هذا بعد اختراع القاطرات؟ وكنا كذلك ننسج ملابسنا، فكفتنا شر هذا الآلات البخارية، فلِمَ والحالة هذه تكابد الفتاة مشاق أعمال التطريز، وتفتخر المدارس بعرض هذه الأعمال وهي لا تدل إلا على قصر النظر والجهل بأحوال التربية؟ مع أننا الآن في القرن العشرين — قرن الحضارة والاختراع — أليس هذا دليلًا على ترك الرِّجال التفكير في شأن تعليم البنات؟
ماذا تستفيد الطفلة من التطريز وهو مُضر بصحتها، مضر ببصرها، مؤثِّر في نموها الطبيعي، فإن صِغَر الغرز وإتقانها يضطران الفتاة إلى الانحناء على العمل واقتراب نظرها منه، وهذا يعقبه تشويه في شكل الظهر وضرر عظيم بالعينين لتدقيق النظر في هذه الغرز الصغيرة والألوان المختلفة من أصفر وأحمر وأزرق وأخضر، هذا فضلًا عن أنَّ شد القماش على تلك الآلة المسماة بالمنسج يجعل خيوط نسيجه صلبه؛ فلا تتمكن الإبرة أنْ تنفذ من بين المسام، كما هو الحال في الخياطة مثلًا، بل تخترق الخيط نفسه فيخرج من ذلك نسالة رفيعة، حتى إذا وصلت إلى الرئتين أضرَّت بهما ضررًا بليغًا.
فما فائدة التطريز إذن؟! هل يُنمِّي عقل الفتاة؟ كلَّا … فإنه يُميت مواهبها ويعلِّمها الكسل، فالفتاة أثناء العمل تحصر نظرها وفكرها في دائرة صغيرة لا تتجاوز نصف المتر المربع، وهي دائرة منسجها، وإذا ولعت به، وأرادت أنْ تتم زهرة تعلَّمتها ربما استمرت في ذلك ساعات طوالًا قضتها، وهي لا تكاد ترى ما يحيط بها من الأشياء، ولا ما يحصل في المنزل من الإهمال، ومنه تتعلَّم الكسل وعدم الالتفات إلى شئون المنزل، وتفقد منها مزية حب الاستطلاع والتنبه إلى ما يحيط بالإنسان، وليس في استطاعة ربة المنزل أنْ تشتغل بالتطريز، وإن فعلت فالويل للمنزل، فهي تصرف اليوم في عمل لا تزيد أجرته على قرش واحد، وهي في جانب ذلك تترك المنزل للخادمات يبددن الأشياء، ويتلفن النظام ويفسدن أخلاق الأولاد، فهل كان التطريز إلا جناية على المنزل وأهله؟ فلِمَ تهتم به وتفتخر المدارس بصرف عنايتها إليه؟ خاصةً مع أنه لا يصح أنْ يكون صنعة للفتاة تعيش منها، ولا هو بعلم يفيدها ذكاءً وابتكارًا؟ إنْ قيل إنه يُعلمها تنميق الألوان وتحسين المناظر فأين الرسم لهذا الغرض وهو أسهل وأنفع؟! على أنَّ اشتغال الفتاة بتحسين الغرز، واستغراق الزمن الطويل فيها ربما شغلها عن الغرض الأصلي، وهو تنميق الألوان وتحسين الزِّيِّ، وليس في الرسم ما يشغلها عن ذلك، وأهم دليل على هذا أنَّ البارعات في التطريز قد لا يستطعن أنْ يرسمن الأشكال الجميلة التي يشتغلن عليها، بل يحتجن إلى رَسَّام في ذلك.
الرسم سهل لا يضر بالصحة، وهو إنْ أُتقِن أغنانا عمَّا نستعمل التطريز من أجله، فإن القطعة الحريرية التي تصرف الفتاة مالًا كثيرًا ووقتًا في تطريزها لتضعها بعد ذلك على حائط حجرة الاستقبال، ربما أبدلت بها قطعة ورق نمقتها رسامة حاذقة في وقت وجيز، على أنه يُعد إسرافًا وطيشًا أنْ تصرف المال في شراء الحرير وتطريزه ووضعه داخل زجاج هو لا يفوق الورق بهجة، بل ربما كان أقل جمالًا منه.
وإذا قيل: إنَّ التطريز تسلية للفتاة في وقت فراغها، قلت: فلِمَ لا تتسلى بمطالعة كتب مفيدة يستنير بها عقلها وتنفعها في عملها؟! ولم لا تتسلى بترتيب المنزل وبنظافته ومراقبة حركات الأطفال والحديث معهم وإجابتهم عما عسى أنْ يسألوها فيه من المعارف البسيطة لتتربَّى مداركهم ويقوى تصورهم؟ ولم لا تتسلَّى بخياطة ملابسها التي تدفع في خياطتها مالًا عظيمًا؟! ولم لا تتسلَّى بتعليم الخدم واجباتهم؟ أليس في كل ذلك غنًى لها عن التطريز؟ فلمَ تهتم المدارس بذلك التطريز الذي لا فائدة منه فتصرف التلميذات وقتًا طويلًا فيه، حتى إذا خرجن من المدرسة ما وجدن من حاجة ماسة إليه، وهن مع ذلك جاهلات بالخياطة مع شدة احتياجهن إليها، وهي أسهل من التطريز، وأقل ضررًا منه بالصحة، كما أنها لا تستغرق ذلك الزمن الطويل الذي يستغرقه التطريز.
تحتاج الفتاة إلى خياطة ملابسها وملابس أخواتها ثم أبنائها، وهي فضلًا عن ذلك صنعة تقيها شر الفقر إذا احتاجت إليها، فلِمَ لا تحل محل التطريز ويُنبَذ التطريز تمامًا لضرره وقلة نفعه وتقادم العهد به، ولو تعلمت الفتاة لوفَّرت تلك المبالغ الباهظة التي تُصرف للأجنبيات، ولا أظن هذا يخفى على أحد، فالأم تتبع في تربية الفتيات الوهم والخيال وتترك الحقائق وهي أصل النجاح لو فكرن في إصلاحهن.
ولست أقصد بقولي التطريز بعض الغرز الضرورية لعمل الملابس وزخرفتها زخرفة بسيطة، بل أقصد المغالاة فيه إلى حد إعاقة الفتاة عن تحصيل ما يلزمها من العلوم الضرورية والصنائع الحية كالخياطة والعزف على البيانو والرسم وغير ذلك من الفنون الجميلة.