أدب الثورة وثورة الأدب
لم تكد ثورتنا تنشب وتملأ أحداثها وظواهرها قلوب الناس وعقولهم في مصر وفيما حولها من البلاد العربية، حتى أخذ فريق من الكتاب يتساءلون في إلحاح: «أين أدب الثورة؟»
ثم لم تكد الثورة تبلغ من عمرها أشهرًا قصارًا، حتى أخذ هؤلاء الكتَّاب يُظهرون اليأس وخيبة الأمل؛ لأن أدب الثورة لم يستجب لهم حين دعوه، ولم يهبط عليهم من السماء كما يهبط الغيث، ولم تتفجر عنه ينابيع الأرض كما تتفجر عن الماء والبترول.
ثم لم يلبثوا أن قرروا فيما بينهم وبين أنفسهم، ثم فيما بينهم وبين قرائهم، أن الأدب المصري قد أخفق لأنه لم يردد أصداء الثورة ولم يصور حقائقها، ولم يلائم ما تتصل به نفوس الناس وقلوبهم من هذه العواطف والخواطر التي أثارتها الأحداث، ولا سيما بعد أن أُخرج فاروق من مصر، وبعد أن أزيلت أسرته كلها وصار الأمر كله إلى المصريين يدبرونه بأنفسهم، لا يتنزل عليهم وحي من العرش ولا من سلطان المحتلين.
وما أكثر ما كانوا يقولون، وما أكثر ما يقولون الآن أيضًا، إن الأدب المصري يعيش في وادٍ على حين يعيش المصريون في وادٍ آخر.
وكذلك تقرر في نفوس كثير من الناس أن أدبنا المعاصر مقصر أشد التقصير، مخفق أعظم الإخفاق؛ لأنه لم يحس بما تجيش به الصدور، ولم يصبح مرآة للحياة التي يحياها الناس. ونشأ عن هذا الحكم الخاطف أن فريقًا من الناس استيأس من الأدب المعاصر وكاد يستيئس من الأدب كله، وأعرض عن قراءة الأدب وانصرف إلى قراءة الصحف يجد فيها ما يعينه على قطع الوقت وتجديد النشاط، ويجد فيها كذلك أصداء ما يملأ حياة الناس من الأحداث.
وأقبل فريق من الكتَّاب على إنشاء أدب يلائم ما يطلبه هؤلاء السادة من تصوير الثورة وحقائقها، وابتهاج الناس بما ظهر من نتائجها، وترقُّب الناس لما لم يظهر بعد من هذه النتائج؛ فأخرجوا لنا أدبًا يحسبونه أدب ثورة وليس هو من أدب الثورة في شيء، وإنما هو كغيره من الأدب الذي أنشئ قبل أن تنشب الثورة بالأوقات الطوال والقصار. ومصدر هذا الحكم بإخفاق الأدب وخيبة الأمل فيه إنما هو هذا الخطف الذي نبهت إليه غير مرة في هذه الأحاديث، والذي يأتي من القصور عن تعمق الأشياء وفهم الحياة الاجتماعية على وجهها ووضع الأشياء في مواضعها.
فليس من فقه الحياة في شيء أن ينجم الأدب فجأة من الأرض أو ينصبَّ فجأة من السماء؛ لأن الثورة شبت في الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة ١٩٥٢، وإنما نشوء الأدب وتطوره من هذه الظواهر البطيئة التي لا تستجيب للناس حين يتعجلونها ولا تستأخر عن إبَّانها، وإن تمنى الناس عليها الأناة والإبطاء.
وأكاد أعتقد أن القدماء من مؤرخي أدبنا العربي كانوا أفقه بالحياة وأحسن لها فهمًا وتقديرًا من هؤلاء المعاصرين الذي يخطفون أحكامهم خطفًا ويظنون أن ظواهر الحياة خاضعة لسلطانهم: يدعونها فتستجيب، ويهملونها فتنتظر، ويرجئونها فترجئ نفسها.
فنحن نقرأ في بعض الكتب العربية التي حاول أصحابها منذ أكثر من ألف عام أن يؤرخوا الأدب العربي القديم أشياء لا يكاد المعاصرون يسيغونها أو يطمئنون إليها؛ لأنها تجانب ما أَلِفوا من السرعة وتخالف ما استحبوا من هذا الاستعجال البغيض.
تقرأ مثلًا عند بعضهم أن ظهور الإسلام قد اضطر الشعر العربي إلى الضعف والتهافت؛ لأن العرب بهرهم القرآن وشغلتهم أحداث النظم الجديدة وما استتبعت من الفتوح، عن الفراغ لقول الشعر وتجويده والتأنق فيه كما كان الجاهليون يصنعون. والقدماء يستنبطون هذا من إعراض لبيد عن قول الشعر بعد أن أسلم ومن اشتغاله بقراءة القرآن وحفظه، ويستنبطونه كذلك مما عرض لشعر حسان من الضعف في أكثر شعره الإسلامي، بعدما كان شعره الجاهلي يمتاز بالرصانة والقوة والفحولة. كما يستنبطونه من أن بعض شعراء النبي ﷺ كانوا يكثرون في هجاء قريش فلا يبلغون منها شيئًا؛ لأنهم كانوا يعيبونها بالكفر والشرك وينذرونها بعذاب الله في الحياة الآخرة، ولم تكن قريش تحفل بشيء من هذا حين كانت تعارض الإسلام وتنصب له الحرب.
ومع أن رأي القدماء هذا لم يكن دقيقًا كل الدقة ولا صادقًا كل الصدق؛ لأنه لم يقم على الاستقراء الصحيح، فإنه كان يصور حقيقة واقعة، وهي أن الشعراء الذين أرادوا أن يجددوا أنفسهم بعد أن أسلموا، وأن يلائموا بين فنهم وبين دينهم الجديد لم يوفقوا في أكثر الأحيان إلى ما كانوا يريدون؛ لأن الطبع لا يستكره على ما لا يحب في كثير من الأشياء، وفي شئون الأدب والفن بنوع خاص. ولم يخطئ ابن دريد حين قال:
وهؤلاء الشعراء كانوا قد جاوزوا سن التطور، فلم يكن من اليسير أن يرجعوا أدراجهم ولا أن يبتكروا لأنفسهم طبعًا جديدًا. فكان تجديدهم تكلُّفًا، وكان إعراض لبيد عن الشعر نوعًا من اليأس؛ لأنه عرف أنه لا يستطيع أن ينشئ فنًّا يجمع بين الملاءمة لحياته الجديدة التي أدركها شيخًا وبين الروعة التي أتيحت له فيما أنشأ من الشعر قبل أن يعتنق الإسلام.
وليس أدل على ذلك من أن شعراء آخرين أسلمت ألسنتهم واستجابت ظواهر أمرهم للنظام الجديد وظلت طباعهم جاهلية كما كانت، فقالوا الشعر في الفنون التي ألفوها قبل أن يسلموا، ولم يتعرض شعرهم لضعف أو تهافت أو خمود، وإنما احتفظ بقوته كاملة كدأبها حين كان أصحابها جاهليين.
فالحطيئة مثلًا لم يتغير فنه بعد إسلامه؛ لأنه لم يحاول لفنه تغييرًا، ولأن الإسلام لم يصل إلى أعماق نفسه، فظل مسلمًا في ظاهر أمره وفيما كان يبدو من بعض سيرته الاجتماعية، ولكنه ظل جاهلي القلب والذوق والضمير، يقول الشعر هاجيًا ومادحًا وواصفًا كما تعوَّد أن يقوله في العصر الجاهلي. وأمثال الحطيئة كثيرون نستطيع أن نقرأ شعرهم فيما حُفظ لنا من شعر القدماء، فلا نرى فيه انحرافًا عن السنة الجاهلية ولا تأثرًا عميقًا بالثورة الإسلامية الخطيرة التي قلبت حياة العرب رأسًا على عقب، وغيرت أمورهم كلها تغييرًا لم يكن لهم ببال.
ومن أجل هذا صنع بعض الذين أرَّخوا الشعر العربي القديم صنيعًا أقل ما يوصف به أنه ملائم للدقة والصدق وصواب الحكم أشد الملاءمة وأقواها، فلم يطلقوا وصف الشعراء الإسلاميين إلا على فريق بعينه يتألف من أولئك الذين لم يدركوا الإسلام شبابًا ولا شيوخًا، وإنما ولدوا في الإسلام ولم يعرفوا العصر الجاهلي إلا كما يعرف التاريخ.
فالشعراء الفحول كالأخطل والفرزدق وجرير إسلاميون؛ لأنهم ولدوا بعد أن أسلمت الجزيرة العربية، وبعد أن فاض الإسلام منها على ما حولها من الأقطار. وعمر بن أبي ربيعة شاعر إسلامي؛ لأنه ولد — فيما يقول الرواة — في اليوم الذي مات فيه عمر بن الخطاب رحمه الله. وقل مثل ذلك بالقياس إلى عامة الشعراء الذين ولدوا أيام الخلفاء وشبوا وأدركتهم الشيخوخة أيام بني أمية.
هؤلاء شعراء إسلاميون لم يدركوا الجاهلية، ولم تدركهم الجاهلية، وإنما رويت لهم أحداثها كما ستروى أحداث العصر الذي نعيش فيه للذين أخذوا يولدون منذ شبت الثورة، فهم قد نشأوا نشأة إسلامية، رأوا آباءهم يخضعون للنظام الجديد يؤدون الواجبات الدينية والواجبات السياسية الجديدة، ويقرءُون القرآن ويروون الحديث، ويتحدثون عن النبي وأصحابه وخلفائه، ويختلفون إلى المساجد مصبحين وممسين وبين الصباح والمساء.
وهؤلاء المؤرخون عندما عرضوا للشعراء الذين أدركوا الإسلام أو أدركهم الإسلام وهم شباب أو شيوخ لم يسموهم شعراء إسلاميين، إنما عدَّهم بعضهم في صراحة شعراء جاهليين؛ لأنهم تأثروا بالحياة الجاهلية التي أنضجت قرائحهم وكوَّنت أذواقهم فلم يستطيعوا لطبائعهم تغييرًا.
وبعض هؤلاء كره أن يسميهم جاهليين؛ لأنهم أسلموا وكثير منهم كان عميق الإسلام حسن البلاء في ذات الله فسموهم مخضرمين: أي مختلطين، عاشوا بعض أعمارهم جاهليين وبعضها الآخر مسلمين.
ومعنى هذا كله أن القدماء من مؤرخي الأدب العربي فهموا حقيقة الصلة بين الثورة والأدب خيرًا مما يفهمها كثير من كتابنا المعاصرين.
عرفوا أن الثورة مهما تكن خطيرة ومهما تكن بالغة عميقة الأثر في حياة الأفراد والجماعات، لا تغيِّر الأدب فجأة، ولا تحوِّل طبيعة الفن إلا تحويلًا يسيرًا أقرب إلى التكلف منه إلى الفطرة التي تستجيب لما حولها من حقائق الحياة في غير جهد ولا عناء.
وهناك وجوه أخرى للصلة بين الأدب والثورة لا يحققها كُتَّابنا المتعجلون، فالأدب يمهد للثورة وينشئها؛ لأنه يثير نفوس الناس ويبغِّض إليهم بعض أطوار الحياة التي يحبونها، ويعرض عليهم مثلًا جديدة يحببها إليهم ويزينها في قلوبهم ويطبعها في نفوس الناشئين والشباب الذين لم تتقدم بهم السن بعد.
وهو بهذا يفتح للثورة أبواب النفوس والضمائر ويمهد لها الطريق في حياة الأفراد والجماعات، يتاح له النُّجْح أحيانًا ويدركه الإخفاق أحيانًا أخرى. فإذا أتيح له النجح لم تتغير طبيعته فجاءة، وإنما ظل كعهده مضطربًا بين القديم الذي هدمه وبين الجديد الذي أنشأه، حتى إذا استقرت أمور الثورة وأصبحت طبيعة للأجيال الجديدة الناهضة كما يقال في هذه الأيام، نشأ الأدب الذي يمكن أن يضاف إلى الثورة حقًّا وصدقًا.
ويكفي أن تفكر في حياة الفرنسيين أثناء القرن الثامن عشر، فسترى طائفة من الأدباء والفلاسفة والمفكرين أنكروا حياة العصر الذي كانوا يعيشون فيه، وحملوا الناس من حولهم على إنكارها وطبعوا هذا الإنكار في نفوس الناشئين والشباب الذين لم يتم نضجهم بعد؛ فأنشأوا جيلًا جديدًا هو الذي ألهب نار الثورة وملأ بها الدنيا وشغل بها الناس، وغيَّر بها حياة فرنسا وأوروبا وأجزاء أخرى كثيرة من العالم.
ولكن هؤلاء الأدباء والفلاسفة والمفكرين لم يدركوا الثورة التي أنشئُوها، وإنما أطفأ الموت جذوة نفوسهم قبل أن يشعلوا هم جذوة الثورة فماتوا قبل الثورة بوقت قصير أو طويل.
والذين ثاروا بالفعل وملئُوا الدنيا هولًا وإصلاحًا في وقت واحد، لم ينشئوا أدبًا ذا خطر. شغلوا بالعمل عن الفن وشغلوا بصنع التاريخ عن كتابته، وابتكروا للأدباء الذين جاءوا بعدهم موضوعات أنشئُوا فيها أدبًا حيًّا رائعًا أتيح البقاء لكثير منه وذهب بعضه مع ما يذهب من آثار الناس.
وابحث إن شئت عن الأديب الفرنسي الذي عاصر الثورة وأنشأ في أثنائها أدبًا جديرًا بالبقاء، فلن تجد هذا الأديب مهما تُطِل في البحث والتنقيب، بل تستطيع أن تقرأ ما تركه رجال الثورة أنفسهم من الخُطب والأحاديث التي ألهبت نفوس المعاصرين ودفعتهم إلى النهوض بالأعباء الثقال وتحقيق الأمور العظام، فلن تجد في هذه الخطب ما يلائم ذوقك الفني، بل لن تجد فيها ما يرضي عقلك المستأني وحكمك الذي يريد أن يتدبر قبل أن يصدر؛ لأنها كانت خطبًا وأحاديث تلائم الظروف والأوقات التي أغرت بها ودفعت إليها، فلما تغيرت تلك الظروف وانقضت تلك الأوقات، أصبحت تلك الخطب والأحاديث تاريخًا من التاريخ، لا تصلح إلا لقراءة الباحثين الذين يريدون أن يؤرخوا للأحداث. ولكن انظر بعد ذلك فيما أنشأ الكتَّاب والشعراء الفرنسيون بعد أن استقرت الأمور في وطنهم، وبعد أن تأثرت حياة بلادهم بالثورة وأصبحت الحرية لهم طبعًا والرقي لهم غاية لا يستطيعون عنهما نكولًا، فسترى الأدب الحق والفن الجدير بالبقاء، وسترى أن أدب الثورة إنما يأتي بعد الثورة لا أثناءها.
وما أشك في أن هذا النحو من تصوير الصلة بين الأدب والثورة هو الذي يلائم حقائق الأشياء، ويفسر ما بين الأدب والسياسة من تضامن وتعاون وتفاعل كما يقول المعاصرون. فالأدب يثور قبل أن تثور السياسة، وثورة الأدب هي التي تمهد الطريق لثورة السياسة؛ لأنها تهيئ قلوب الناس ونفوسهم وعقولهم: تبغِّض إليهم نظامًا قائمًا، وتحبِّب إليهم نظمًا تحقق لهم آمالًا تمتد إليها عقولهم وتقصر عنها أيديهم، وليست الثورة السياسية آخر الأمر إلا استجابة لثورة العقول والقلوب والنفوس التي يحدثها الأدب وتحدثها مع الأدب مؤثرات أخرى، يتصل بعضها بالحياة المادية للناس ويتصل بعضها بالحياة المعنوية. ويأتي بعضها من الصلة بين الأمة وبين أمم أخرى تحيا حياة خيرًا من حياتها، وأدنى إلى العدل والحرية وإنصاف المظلومين من الظالمين والمساواة بين المستأثرين الذين يجدون كل شيء والمحرومين الذين لا يجدون شيئًا.
ولست أعرف ثورة سياسية بالمعنى الحديث أو القديم للفظ الثورة، إلا وقد سبقتها ثورة أدبية عقلية كانت هي التي أغرت الناس بها ودفعتهم إليها وأخرجتهم عن أطوارهم فلم يستطيعوا صبرًا على ما يكرهون ولا إبطاءً عما يريدون.
هناك إذن ثورتان، أولاهما ثورة العقل التي يصورها الأدب، والثانية ثورة السياسة التي تعتمد على القوة فتغير نظامًا، وتقيم مكانه نظامًا آخر. وهناك أدبان: أدب يسبق الثورة ويدفع إليها، وأدب يأتي بعد الثورة فيصورها أولًا ويصور آثارها في حياة الناس، ويحبِّب إليهم هذه الآثار ويدفعهم إلى الأمام في ميدان الرقي والإصلاح والتجديد.
والأدب في أثناء الثورة حين تضطرب نفوس الناس بالأمل والطموح، ونفوس فريق منهم بالخوف والمحافظة، متواضعٌ مقتصد يمشي على استحياء — إن أمكن وصف الأدب بالمشي وبالحياء أيضًا — لأن الناس مشغولون عنه بأحداث الثورة مما يقع وما ينتظر وبما تدفع إليه هذه الأحداث، ولأن الأدب — لا سيما في هذا العصر الحديث — إنما يستمد حوله وطَوله وقوته وروعته من الحرية الكاملة التي لا معقب عليها. وهذه الحرية موقوفة بطبيعة الأشياء أثناء الثورة، سواء أراد الناس ذلك أم لم يريدوه. والأدب يجاهد في سبيل الحرية ويحتمل في هذا الجهاد ألوان المكروه على اختلافها قبل أن تصبح الثورة السياسية أمرًا واقعًا.
وهو بجهاده وبحمله الخطوب يدفع إلى الثورة دفعًا؛ لأنه يقاوم الاستبداد والعسف ويدعو الناس إلى مقاومتهما. وهو في أثناء الثورة لا يستطيع أن يقاوم الثورة؛ لأنه يقاوم نفسه إن قاومها، فالثورة ابنته وثمرته. وهي لا تقف الحرية إلا لتطلقها بعد حين يقصر أو يطول.
فالأدب الذي ينشأ أثناء الثورة إما أن يجري على طبيعته الأولى فيكون اتصالًا للأدب القديم، وإما أن يحاول مجاراة الثورة السياسية فيكون دعوة لها وإغراء بها. وهو في هذه الحال أدب ضعيف فاتر؛ لأن الأحداث المادية الواقعة أقوى منه وأظهر أثرًا، يراها الناس ويحسون آثارها في نفوسهم وفيما حولهم من الحياة والأحياء.
وهذا هو الذي يعلل ما أصاب شعر حسان من الضعف. كانت الثورة الإسلامية أقوى من شعر الشعراء، وكان كل فن بالقياس إليها أثناء قيامها فاترًا ضئيلًا.
وهو يعلل في الوقت نفسه انصراف بعض الشعراء عن الشعر؛ لأنهم لم يروا لأنفسهم فيه أربًا. وهو يعلل كذلك اتصال الشعر الجاهلي بأساليبه القديمة عند شعراء الأعراب الذين قال الله — عز وجل — فيهم: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
واقرأ إن شئت فيما يتصل بالأدب الفرنسي أثناء الثورة ما كتبه شاتوبريان في مذكراته عن إلمامه بباريس حين كانت النفوس مضطربة ثائرة، فستراه يصف أندية الأدباء في تلك الأوقات بالضعف والفتور وقلة الغناء.
ليس هناك معنى إذن لمطالبة الأدباء المعاصرين بإنشاء أدب الثورة؛ لأن أدب الثورة الحق لم يأت بعد، وسيأتي وقته حين يخرج الشباب الذي تطبع الثورة نفوسهم بطابعها، والذين يتعلمون الآن في المدارس وفي الجامعات إن شئت؛ أي أن هذا الأدب لن تظهر بواكيره إلا بعد أعوام، نرجو ألا تكون مسرفة في الطول. ولست أشك في أن أدب الثورة هذا الذي أتحدث عنه سيكون مغايرًا مغايرة شديدة لأدبنا الذي ننتجه ونعيش عليه الآن، فيستخلص الجيل الناشئ من تعقيدات مختلفة قاومناها نحن ما وجدنا السبيل إلى مقاومتها، ولكننا لم نستطع أن نعفي أنفسنا من آثارها وأعقابها. لن يحتاج الجيل الناشئ إلى ما احتجنا إليه دائمًا من مداورة السلطان والاحتياط من شره والاستخفاء بكثير من آرائنا، نكتمها أحيانًا في نفوسنا فنشقى بكتمانها، ونعرب عنها أحيانًا في كثير من الألغاز واصطناع المجاز والافتتان في التنكر والتستر والاستخفاء. لن يحتاج الجيل الثاني إلى شيء من هذا؛ لأنه لن يجد أمامه النظام الملكي المستأثر بالأمر من دون الشعب. وسيخلص الجيل الناشئ من تعقيد آخر قاومناه ما استطعنا أن نقاومه، ولكنه كان يؤثر في حياتنا العقلية حتى أثناء مقاومتنا له تأثيرًا بعيد المدى، وهو تعقيد الاحتلال الأجنبي الذي كان يتغلغل في أعماق حياتنا المادية والسياسية ويتدخل في كثير من مرافقنا ويؤثر بذلك في مصالح الأفراد والجماعات ويحالف النظام الملكي حينًا فيثقل علينا الهول، ويخالفه حينًا آخر فيأخذنا الشر من جميع أقطارنا ونضطر إلى كثير من المصانعة والموادعة، ونلاين حينًا ونخاشن حينًا آخر، ونشقى بتفرق الأهواء واختلاف الميول والنزعات من حولنا، ونجد العناء كل العناء في التماس ما نلتمس لأنفسنا من طريق إلى التفكير والتعبير.
لن يشقى الجيل الناشئ بهذا الاحتلال؛ لأنه سيحيا في وطن لا يتسلط الأجنبي عليه من قريب أو بعيد. سينشأ حرًّا في وطن حر بأوسع معاني هذه الكلمة وأعمقها، وسيخلص من عقدة الاستعمار هذه التي شقيت بها الأجيال من قبله دهرًا طويلًا.
وسيخلص الجيل الناشئ من عقدة أخرى غير هاتين العقدتين، وهي عقدة النظام الاقتصادي البغيض الذي شقيت به الأجيال من قبله، والتي قسمت الشعب إلى الأغنياء المترفين الذين ينفقون بغير حساب فيما لا يغني عنهم ولا عن غيرهم شيئًا، والفقراء المعدمين الذي يشقون بغير حساب لأنهم لا يجدون ما يقيم الأود أو يرضي حاجة الإنسان الذي يستطيع أن يكون إنسانًا.
وكلمات المرض والفقر والجهل والأعداء الثلاثة التي كانت الحكومات تتشدق بها فيما مضى، كلمات يسيرة حين تنطق بها الألسنة، ولكنها عسيرة معقدة حين نحاول أن نحقق معانيها في نفوسنا، فهي تصوِّر أشقى ما يمكن أن يفرض على الناس من ضروب الحياة، وهي تمتحن نفوسهم بألوان لا تحصى من التعقيد الذي يميت القلوب ويفل الحد ويلغي النشاط ويبغِّض العيش إلى الناس.
هذا الذي لا يجد ما ينفق وله قلب ذكي وعقل راجح وقدرة على العمل الخصب والنشاط المنتج، ولكنه لا يستطيع أن يعمل ولا أن ينشط؛ لأنه لا يجد إلى العمل ولا إلى النشاط سبيلًا، وكيف السبيل إلى العمل والنشاط إذا لم تجد من الطعام والشراب ما يمسك عليك الحياة؟
وهذا الجاهل الذي لا يفرق بين الخير والشر، ولا يميز بين ما ينفعه وما يضره، وله فضل من قوة وحظ من أيد، ولكنه لا يعرف كيف يوجه قوته ولا فيما ينفق جهده، فهو يتخبط بين الشر اليسير والإثم المفسد لحياته ولحياة من حوله من الناس. وامضِ ما شئت في تصوير ما يثير المرض والفقر والجهل في حياة الناس من شر، وما ينشئ في نفوسهم من عُقد، وما يبث أمامهم من عقاب، وتصور جيلًا يتاح له في يوم من الأيام ما لم يتح للأجيال الماضية من صحة الأجسام وذكاء القلوب ونفاذ البصائر وسعة المعرفة، وانظر ما عسى أن يكون من الفرق بين هذا الجيل السعيد وبين الأجيال التي سبقته من الأشقياء، ثم وازن بين ما يمكن أن ينتجه هذا الجيل السعيد من ألوان النشاط في حياته المادية والعقلية والفنية وبين ما أنتجته أجيال الشقاء من قبله فسترى الفرق عظيمًا خطيرًا بين إنتاج الموفورين وإنتاج المحرومين، وبين إنتاج السعداء وإنتاج الأشقياء.
وإذا بلغت هذه الغاية من الموازنة فقد عرفت أن أدب الثورة الذي يستحق هذه الإضافة ليس هو الأدب الذي أنتجناه أو الذي ننتجه الآن، وإنما هو الأدب الذي سينتجه أبناؤنا وأحفادنا حين يتاح للثورة أن تبلغ غايتها وتحقق أغراضها، وتضع عن المصريين إصر حياتهم تلك التي ضاقت بهم وضاقوا بها، وتتيح لهم حياة أخرى لا يجدون فيها قهرًا ولا عسفًا، ولا يخضعون فيها لبأس أو ظلم، ولا يشقون فيها بفقر أو جهل أو مرض، وثق بأني لا أخدع نفسي عن حقائق الأشياء ولا أخدعك عن هذه الحقائق، فلست أنا من السذاجة بحيث أظن أن الثورة ستتيح للأجيال المقبلة سعادة دائمة ونعيمًا مقيمًا، فالسعادة الدائمة الكاملة لم تتح للناس ولن تتاح لهم في هذه الحياة الدنيا، والنعيم المقيم مدخر للصالحين من الناس في حياتهم الثانية، وليس معجلًا لهم في حياتهم هذه الأولى.
ولكن الشيء الذي أثق به كل الثقة، وأُومِن به أعمق الإيمان هو أن الثورة ستتيح حين تبلغ غاياتها للأجيال المقبلة من قوة النفوس وصلاح الحياة ما يمكِّنها من طلب السعادة والنعيم قادرةً على طلبها، ومن مقاومة البؤس والشقاء قادرةً على مقاومتها.
وليس هذا بالشيء القليل، وما أعظم الفرق بين أدبٍ يُقبِل عليه أصحابه وهم آمنون مطمئنون لا يسعى إليهم الخوف ولا يدبر لهم الكيد، وأدبٍ ينتجه قوم يختلسون الفراغ له اختلاسًا ويسترقون العناية به استراقًا، ويجدون من حولهم ما هو خليق أن يبغض إليهم الأدب ويصرفهم عنه صرفًا، يشقون في أنفسهم ويشقون بشقاء من حولهم من الناس، ولا تتاح لهم الوسائل اليسيرة للإعراب في صراحة وأمن عما يجدون من شقائهم وشقاء الناس!
فانتظر إذن أدب الثورة بمعناه الصحيح من الجيل الناشئ يوم يتاح له الإنتاج، واقرأ أدبنا هذا الثائر إن شئت، وأعرض عنه إن أحببت، فإنا لا نملك أن نعطيك إلا ما في أيدينا، وفي أيدينا أدب ثائر لا أدب ثورة، وما أعظم الفرق بين الأدبين!