الكنوز الضائعة
هي هذه التي تمتلئ بها الأرض على اختلاف أقطارها ومنذ العصور القديمة التي فكر فيها الناس، وعبَّروا عما يفكرون تعبيرًا صالحًا للبقاء بالكلام أو بالتصوير، أو غير الكلام والتصوير من هذه الفنون المختلفة التي يؤدي بها الناس ما يجدون في نفوسهم وعقولهم من ضروب العلم والشعور ومن ألوان العاطفة والطموح إلى الخير والحق والجمال.
هذه كنوز تمتلئ بها الأرض ولا يكاد الإنسان يحصيها، ولكنه إن كان مثقفًا رشيدًا طمحت نفسه دائمًا إلى أن يستقصيها ويجمعها كلها إن أتيح له جمعها ويفرغها في عقله وقلبه. وأخصُّ ما تمتاز به العلوم والفنون أنها بطبعها شركة بين الناس يستطيع كل فرد من الأفراد أن يستمتع بها كلها أو بعضها دون أن يحرم غيره من أن يتيح لنفسه بها الغبطة والسعادة والرضى، كما أتاح لنفسه بها كل هذه الخصال.
فالعلم والفن والمعرفة على اختلاف موضوعاتها كنوز لا يُنقِص منها انتفاع الناس بها وتهالكهم عليها وازدحامهم على الإمعان فيها، وإنما يزيدها ذلك خصبًا إلى خصب وثراءً إلى ثراء. ولو لم يقرأ القدماء ويدرسوا لما أنتج المحدثون شيئًا من علم أو فن، ولو لم يظهر بعض المحدثين على آثار بعض لما ازدهر العلم ولا تألق جمال الفن ولا عَظُم تراث الإنسانية من المعرفة.
فهذه كنوز يزيد فيها الأخذ منها وينقصها الإهمال لها والإعراض عنها، أو قل إنها تحيا بالإقبال عليها وتموت بالزهد فيها. وهذه الكنوز ضائعة بالقياس إلى الذين لا يعرفونها ثم لا يحرصون على اقتنائها والإمعان فيها بالانتفاع والاستمتاع والاستهلاك. ولست أكتب هذا لأجدد العلم به، فالناس يعرفونه منذ أقدم العصور، وإنما أمليه لأصل منه إلى وصف هذا الشعور الذي أجده قويًّا ملحًّا ممضًّا أحيانًا كلما فرغت من قراءة كتاب رائع أو أخذت في قراءة كتاب شائق، وهو شعور الضيق الذي يبلغ اللوعة والحسرة أحيانًا بأني أقرأ هذا الكتاب دون اطمئنان إلى أن المصريين جميعًا يقرءُونه كما أقرؤه، ويجدون من المتعة به مثل ما أجد أو أكثر مما أجد.
هو هذا الشعور بأن هذا الكتاب أو هذا الفصل كنز من هذه الكنوز التي لا ينعم بها المصريون كلهم كما أنعم بها. ولا أكاد أجد هذا الشعور حتى أحاول أن أتعزى عنه بأن في الأرض كنوزًا أخرى لا تحصى مضيَّعة بالقياس إلى التي لم أعرفها ولا ينتظر أن أعرفها؛ لأن الإنسان الذي يتاح له أن يحيط بكل ما عرف الناس من علم أو فن وبكل ما ورث الناس من العلوم والفنون والآداب لم يوجد بعدُ، وما أرى أنه سيوجد في يوم من الأيام.
وليس المهم أن يقرأ الإنسان كل ما كُتب أو يحيط بكل ما أنتج غيره من الناس، وإنما المهم أن يظفر الإنسان بالوسائل والأدوات التي تتيح له أن يضيف في كل يوم إلى علمه علمًا وإلى ثروته العقلية والشعرية ثروة، فإن أتيح له مع ذلك أن ينتج ما ينفع الناس ويزيد في تراثهم من العلم والفن والمعرفة بوجه عام فهو عندي الإنسان السعيد حقًّا.
وأنا أنظر إلى المصريين من حولي فأرى كثرتهم الضخمة وقد حيل بينها وبين أيسر الثقافة التي تمكنها من الانتفاع ببعض هذه الكنوز، حال بينها وبين هذه الثقافة الجهل الذي فرضته عليها العهود المظلمة التي تطاولت وتطاولت حتى كأنها الليل السرمدي المقيم.
وما أذكر أني قرأت كتابًا ممتعًا أو فصلًا رائعًا إلا وددت لو أتيح لي أن أصبه في قلوب الناس من حولي وعقولهم، وأن أؤديه إليهم وهم أيقاظ أو نيام ليجدوا من اللذة والمتاع والغنى مثل ما أجد. ورحم الله أبا العلاء، فما كان أصدقه حين قال:
أو حين قال:
وأشقُّ من هذا الشعور بالحزن والحسرة شعورٌ آخر فيه أفكر في أن من حولي كثيرًا من المصريين أتيحت لهم هذه الثقافة التي تمكِّنهم من أن يضيفوا إلى ثراء عقولهم آراءً جديدةً في كل يوم، ولكنهم يصرفون أنفسهم عن هذا صرفًا، وينفقون أوقات فراغهم فيما لا ينفع الناس من هذا اللغو الكثير الذي ينفق فيه المثقفون أو أكثر المثقفين عندنا آخر النهار وأول الليل.
ونحن نسأل أنفسنا: ما بال أدبنا لا ينمو أو ما بال فننا لا يزدهر؟ وما بال ثقافتنا معرضة دائمًا للجمود، تنقص ولا تزيد، ويسرع إلى نارها الخمود، تنقص وكان من حقها أن تذكو وأن تملأ النفوس في مصر ومن حول مصر إشراقًا ونورًا؟ ثم نحمل على الأدباء تبعة هذا كله، وننسى أن نشرك معهم غيرهم من الناس في احتمال هذه التبعة.
فلو قد أقبل الناس على القراءة والانتفاع بهذه الكنوز الكثيرة المضيعة لدعتهم القراءة إلى القراءة ولأغراهم العلم بالعلم كالذي يكسب المال القليل من تجارة أو صناعة فيطمع في أن يضيف إليه مثله أو أمثاله. ويتاح له من ذلك ما يريد بمقدار ما يبذل في سبيله من الجهد وما يلقى في سبيله من العناء.
ولكننا لا نجدُّ في الاستزادة من المعرفة ولا نكلف نفسنا عناء لنضيف إلى ثروتنا العقلية ثروة أخرى، وإنما نحن نكتفي بما علمنا وربما ضقنا وزهدنا فيه وأهملناه حتى نسيناه وحتى لم يبق لأحدنا به عهد.
ونحن لا نقرأ أدباءنا الذين يعيشون بيننا ويصورون من حياتنا ما يستطيعون تصويره فكيف نقرأ غيرهم من أدباء الأمم الأخرى؟ وكيف السبيل إلى أن نعرف ما أنتجوا فيما مضى من الدهر وما ينتجون في هذه الأيام التي نعيش فيها؟ وكيف السبيل إلى أن نتهيأ للعلم بما قد ينتجون غدًا أو بعد غد؟
نحن لا نبذل أيسر الجهد لفهم الحياة التي نحياها، وكيف السبيل أن نحيط بيسير الحياة التي يحياها غيرنا من الناس فضلًا عن دقائقها وما يثار فيها من المشكلات التي إن لم تعرض لنا الآن فستعرض لنا من غير شك في يوم قريب أو بعيد؛ لأن حياتنا متصلة بحياة الشعوب الأخرى متأثرة بها مؤثرة فيها، سواء أردنا ذلك أم لم نُرِده بعد أن ألغيت الآماد والأبعاد وأوشك العالم على اختلاف شعوبه وألوان الحياة فيه أن يصبح عالمًا واحدًا يتأثر بمؤثرات متشابهة أو متحدة؟
والغريب أننا نشعر بهذا الاتصال في حياتنا اليومية، بل في كل ساعة من ساعات حياتنا اليومية. نشعر به حين نقرأ الصحف وحين نسمع الراديو، وحين نشهد السينما أو التمثيل، وحين نرضي حاجاتنا المادية أو القريبة أو البعيدة، وحين ننتقل من مكان إلى مكان لإرضاء هذه الحاجات، ثم نحن على رغم هذا كله لا نجد الشعور بالحاجة الملحة إلى أن نعرف من حياة العقول والقلوب والأذواق في العالم الخارجي مثل ما نعرف من آثار التجارة والصناعة والإنتاج المادي فيه.
وأشد من هذا خطرًا وأعظم منه نكرًا أننا قد جهلنا أو كدنا نجهل أنفسنا، فنحن لم نخرج فجأة من الأرض ولم نهبط فجأة من السماء، ولم نُخترع في هذا العصر الحديث من لا شيء، وإنما تحدرنا من أجيال سبقتنا. ولهذه الأجيال حياة قد أثرت في حياتنا وفي طبيعتنا، فلنا ماضٍ من الحق علينا لأنفسنا أن نعرفه، وسبيلنا إلى معرفته أن نقرأ ونفهم، وندرس ونذوق، وما أشد زهدنا في القراءة والفهم والدرس والذوق!
وسل إن شئت كثرة الذين وقفوا حياتهم على أن يعلِّموا أجيالنا الناشئة القراءة والفهم والدرس والذوق: ماذا يقرءُون، وماذا يفهمون، وماذا يدرسون، وماذا يذوقون بعد أن ظفروا بالإجازات التي تتيح لهم أن يعلِّموا؟ لقد أقبلوا على صناعاتهم كما يقبل كل إنسان على صناعته؛ يؤدون واجبهم ويحتملون في تأديته ما يحتملون من المشقة والجهد. فإذا فرغوا من أداء هذا الواجب لم ينسوا إلا شيئًا واحدًا، وهو الواجب الذي ينبغي أن يؤدوه إلى أنفسهم. فقد يجب على المعلم أن يتعلم، وأن يكون تعلمه متصلًا، وأن يضيف إلى ما عنده شيئًا كثيرًا مما ليس عنده، وأن يجدد نفسه في كل يوم ليُقبِل من الغد على تلاميذه بشيء جديد يحببه إليهم ويزيد شوقهم إلى الاستماع له والانتفاع بما يقول، وهو إذا لم يفعل جدير أن يمل نفسه وأن يُمِل غيره من التلاميذ، وأن يصبح أشبه شيء بالببغاء التي تردد ما حفظت لا تجدده ولا تغيره ولا تزيد فيه.
وأكبر الظن أن كثيرًا من المعلمين عندنا لو حاسبوا أنفسهم حين يخلون إليها إن أتيحت لهم الخلوة إليها لاستيقظوا أنهم يملون أنفسهم ويملون تلامذتهم، ولكنهم لا يفرغون لحساب أنفسهم، يشغلهم أداء الواجب المفروض عليهم في كل يوم، فإذا أتيح لهم الفراغ منه أسرع بعضهم إلى بعض يتحدثون فيما كان وفيما هو كائن وفيما يمكن أن يكون من هذه الأحداث اليسيرة التي تلهي الناس عن أنفسهم، وتخيِّل إليهم أنهم أيقاظ وهم نيام. وإذا لم يقرأ المعلم لم يحدث في نفس تلميذه الشوق إلى القراءة، ولم يجد فيها الرغبة إلى الاستزادة من المعرفة؛ ولذلك يصبح التعليم صناعة جامدة لا حظ لها من الحياة الخصبة التي تنفع أصحابها وتنفع الناس من حولهم.
والعلم الذي لا يتجدد كالماء الراكد الذي لا يلبث أن يأسن ويسرع إليه الفساد. وأنا أعلم أن هذا القول سيشق على كثير من الصديق الذين أحبهم وأكبرهم، وأعلم كذلك أنهم سيضيقون بما أقول وسيسألون أنفسهم ويسألونني كيف السبيل إلى أن يقرءُوا وقد أثقلتهم واجبات الدرس في المدرسة وخارج المدرسة، ولكن الذي أعرفه هو أن القراءة لمن يحب القراءة شيء لا سبيل إلى التخلص منه، يحتال صاحبه في الوصول إليه والظفر به مهما يكلفه ذلك من الجهد، ومهما يحمِّله من المشقة والعناء. وليس المعلمون وحدهم هم الذين لا يقرءُون، وليس التلاميذ وحدهم هم الذين يشبهون أساتذتهم في الإعراض عن القراءة، ولكن المثقفين جميعًا لا أستثني منهم إلا قلة من اليسير إحصاؤها؛ لا يقرءُون ولا يحبون أن يقرءُوا. لا تقل إنهم يقرءُون الصحف وهي كثيرة، ولا تقل إنهم يقرءُون هذا الأدب اليسير الذي يلقاهم به الباعة في الطريق ويطوفون به عليهم في القهوات. فما إلى هذه القراءة أردت، وما يعنيني أمر هذه القراءة في قليل أو كثير. إنما القراءة التي أريدها وأتمنى أن يكون لكل مثقف منا حظه منها في كل يوم سواء أكان هذا الحظ قليلًا أو كثيرًا هي هذه التي يفرغ القارئ فيها لكتاب قيِّم تحتاج قراءته إلى الجهد، ويحتاج فهمه وذوقه إلى شيء من المشقة والعناء، والتي ينصرف عنها من يقبل عليها ساعة أو بعض ساعة وقد أضاف علمًا إلى علم ومعرفة إلى معرفة، ووجد هذا المتاع الخصب القيم الذي يكسبه أصحابه كسبًا ويظفرون به بعد الجد في سبيله واحتمال العناء لاستخلاصه والوصول إليه.
هذا النوع من القراءة الذي يحتاج إلى أن يخلص الإنسان له نفس ساعة من نهار أو ساعة من ليل، ويخلصها له من كل شاغل من شواغل الحياة مهما تكن ومهما تكن أعباؤها وظروفها. هذا النوع من القراءة التي هي أشبه شيء بالرياضة، رياضة النفس على مزاولة ما يستعصي عليها من الأشياء مزاولةً ملحةً حتى تبلغ منها ما تريد. هذا النوع من القراءة هو الذي أحبه وأدعو إليه وأتمنى أن يروض المثقفون أنفسهم عليه حتى يصبح لهم عادة لازمة لا يستطيعون عنها سلوًا. وأنا واثق أعظم الثقة بأنهم سيجدون فيها بعد أن يروضوا أنفسهم عليها، نعيمًا أي نعيم: نعيم المتعة بما يقرءُون، ونعيم الكسب لما يكسبون، ونعيم تجديد أنفسهم والشعور بالقدرة على احتمال المشقة وتكلف العسر ورياضة النفس على ما لم تألف، ونعيم التخفف ساعة من أثقال الحياة والتخلص ساعة مما يسر فيها وما يسوء، ونعيم الشعور آخر الأمر بأن الإنسان قد خرج من هذه الحياة الآلية التي يحياها نهاره وليله إلى حياة أخرى عاملة يعطي فيها جهده ويأخذ فيها جهد غيره، ويحس فيها بالقدرة على أنه إنسان يستطيع أن ينفع وينتفع بالمعنى الخصب القيم لهذه الكلمات.
إذا راض المثقفون أنفسهم على هذا النوع من القراءة لم تصبح الحياة بالقياس إليهم عملًا يُؤدَّى وأجرًا يُقبَض وطعامًا يؤكل ويُهضم، ونومًا يقبل مع الليل ويمضي حين يسفر الصبح، وعبثًا لا يغني عن أصحابه شيئًا، وكلامًا يذهب مع الريح، وإنما تصبح شيئًا آخر يمتع أصحابه ويمتع بأصحابه الناس. وأصبحت شيئًا آخر يثير في أصحابه نوعًا من هذا النهم الخصب الذي لا سبيل إلى إرضائه، والذي يجد أصحابه اللذة كل اللذة حين يحسونه وحين يشعرون بالحاجة الملحة إلى إرضائه، وحين يسعون جادين ويتكلفون اليسير والعسير ليبلغوا من إرضائه ما يريدون. والقراءة الممتعة تدعو إلى القراءة الممتعة، فإذا رُضْتَ نفسك على أن تقرأ ساعة في كل يوم وأَلِفت هذه القراءة، فستشعر بالحاجة إلى أن تجعل الساعة ساعتين، وستقرأ الكتاب القيم فتحتاج إلى أن تعيد قراءته لتحسن استيعاب ما فيه، وستقرأ الكتاب فتشعر بالحاجة إلى أن تقرأ غيره مما يشبهه أو يخالفه، وسيعجز مالك المقدور لك عن إسعافك من الكتب بما تريد، وستلمس ما لم تستطع شراءه في المكتبات العامة والخاصة، وستعجز المكتبات عن إسعافك أيضًا فتتكلف الممكن وغير الممكن لتظفر بما تحتاج إليه من الكتب، وستستيقن بأن حياتك قد أصبحت شيئًا يستحق أن يحتمل وأن تحتمل في سبيله ضروب المشقات، وستلوم المؤلفين لأنهم لم يؤلفوا، والناشرين لأنهم لم ينشروا، والمترجمين لأنهم لم يترجموا، وإذا كثر أمثالك من القارئين الملحين في القراءة المحتاجين إليها في كل يوم والذين لا يجدون ما يقرءُون، فستطالبون بتيسير أسباب القراءة وستضطرون الدولة إلى أن تستجيب لكم فتُعنى بالترجمة والتأليف والنشر وإنشاء المكتبات وتنمية الموجود منها أكثر مما عُنِيت إلى الآن، وستنظرون فإذا الحياة من حولكم قد تغيرت وإذا أنتم قد أنشأتم جوًّا جديدًا يحيا فيه العقل ويحيا فيه القلب والذوق، وإذا أنتم قد أصبحتم مثلًا للناشئين فأحبوا من هذه الحياة الممتازة ما تحبون وجدُّوا في سبيلها كما تجدُّون، وعسى أن يكونوا أكثر منكم لها حبًّا وأعظم منكم في سبيلها جدًّا، وأشد منكم إليها سعيًا.
وكذلك تقرب الكنوز المضيعة من مصر فتملأ عقول أبنائها وقلوبهم علمًا ونورًا. ثم لن تقنعوا بالقراءة والإمعان فيها، بل ستحتاجون إلى أن يفضي بعضكم إلى بعض بما يقرأ، وستصنعون ذلك في أحاديثكم، وقد لا تقنعون بالأحاديث فتكتبون وتحيون الثقافة والعلم والأدب في وطنكم أكثر مما تحيا، وتغرون غيركم بأن يصنع صنيعكم ثم تنظرون بعد ذلك فإذا أنتم لا تنفعون أنفسكم وحدها، ولا تنفعون مواطنيكم وحدهم ولكنكم تنفعون أجيالًا أخرى من الناس قريبة منكم أو بعيدة عنكم، وإذا أنتم لا تستهلكون فحسب، وإنما تستهلكون وتنتجون، ولا تأخذون فحسب، وإنما تأخذون وتعطون، وإذا أنتم لستم عيالًا على الإنسانية المتحضرة، وإنما أنتم مشاركون في بناء الحضارة وتنميتها وتذكية جذوتها، وإذا أنتم قد رددتم وطنكم مصر الخالدة إلى أيامها تلك القديمة التي كانت تعطي فيها أكثر مما تأخذ وتنفع فيها أكثر مما تنتفع، وإذا أنتم لا يستحي أحدكم أن يلقى من شاء من أبناء الأمم الراقية المتحضرة لقاء الأكفاء لا لقاء المنتفعين الذين لا ينفعون.
ما أشد حاجة المصريين إلى أن يقرءُوا هذا النوع من القراءة التي أدعوهم إليها حين يفرغون! بل ما أشد حاجتهم إلى أن يتكلفوا لأنفسهم الفراغ لهذه القراءة ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وإن حمَّلهم ذلك من الأعباء أكثر مما تعودوا أن يحتملوا، وإن حرمهم ذلك لذة الاختلاف إلى القهوات والاستمتاع بما تعودوا أن يستمتعوا به، وإن حرمهم ذلك الفراغ لما يحتاجون إليه أشد الاحتياج ويقيمون حياتهم عليه!
إني أعرف قومًا يؤثرون أن يقرءُوا على أن يطعموا وعلى أن يناموا، وأن يغذوا عقولهم وقلوبهم ويوفروا لها المعرفة والمتاع على أن يغذوا أجسامهم ويوفروا لها الراحة واللذة وخير ما في الحياة المادية من ألوان الترف.
ما أكثر ما في الأرض من كنوز العلم والأدب والفن! وما أقل حظنا من هذه الكنوز! وما أشد حاجتنا إلى أن نأخذ منها أعظم حظ يمكن، بل إلى أن نأخذها كلها إن استطعنا إلى ذلك سبيلًا! وما أقدرنا على ذلك إن أردنا! فهل نريد؟ هذه هي المسألة المعقدة أشد التعقيد كما كان يقول بعض الممثلين. فليس من اليسير أن يستغني كثير من شيوخنا وشبابنا عن هذه الساعات الطوال أو القصار التي ينفقونها كل يوم جلوسًا في القهوات لا يصنعون شيئًا إلا المضي في هذا اللغو الذي لا ينفعهم ولا ينفع معهم أحدًا، ولا ينفع بهم أحدًا أيضًا، وإنما هم يجعلون أنفسهم في هذه الساعات عيالًا على الوطن والمواطنين. وما حاجة الوطن والمواطنين إلى قوم يرضون لأنفسهم أن يضيعوا وقتًا يستطيعون أن ينفعوا به وأن ينتفعوا؟! وما أكثر ما نردد أن الحياة جهاد، ولكننا على ذلك لا نجاهد أنفسنا أيسر الجهاد وأقومه مع ذلك وأجدره أن ينفعنا وأن ينفع الناس، فنخلص للقراءة الممتعة في كل يوم ساعة من نهار أو ساعة من ليل، ونحن نعلم أن لو فعلنا لأيقظنا مصر بعد نوم وجعلناها وطنًا كريمًا يعيش فيه قوم كرام.
ولا تقل إني أدعو غير مجيب وأتحدث إلى أذان غير واعية، فلا أقل من أن أدعو ولا أقل من أن أتحدث، وقد صدق أبو تمام حين قال:
علينا إذن أن ندعو وأن نلح في الدعاء، ولا علينا ألا يسمع الصم ولا يجيب الكسالى.
ومن يدري لعل منا على كل حال من يسمع ومن يجيب!