بين الفصحى والعامِّية
كل شيء ممكن حتى أن يرجع الزمن أدراجه، ويمشي إلى وراء بعد أن كان يمضي إلى أمام. ولا أريد بالزمن هذه المعاني التي يختلف الفلاسفة في تحقيقها وتحديدها، فليس هذا الحديث من فلسفة الفلاسفة ولا من علم العلماء في شيء، وإنما أريد بالزمن أمور الناس التي تستغرق أوقاتهم وجهودهم وتستنفد قواهم ونشاطهم، فتتقدم أحيانًا وتتأخر أحيانًا أخرى، وتُقدِم مرة وتحجم أخرى. وما أشك في أن وقتًا من الأوقات قد مر بنا وأمورنا اللغوية تمضي إلى أمام، وحياتنا الأدبية تقدم غير مترددة ولا مستأنية كأنما كانت تريد أن تسبق الأحداث والخطوب وأن تتعجل دورة الفلك لتبلغ القرن الحادي والعشرين قبل أن تبلغ نصف القرن العشرين، فضلًا عن أن تصل إلى آخره.
في ذلك الوقت كان التعليم قليل الانتشار بالقياس إلى ما أتيح له في هذه الأيام من السعة والتغلغل في أعماق الشعب، وكان شيوخ الأدب الذين استأثرت بهم رحمة الله، وشباب الأدب الذين أصبحوا شيوخًا في هذه الأيام يكتبون باللغة العربية الفصحى، ويتنافسون فيما بينهم أيهم يكون أشد لها تطويعًا، وأعظم لها تيسيرًا، وأقدر على أن يسوغها من المعاني والخواطر والآراء ما لم تكن تعودت أن تسيغ دون أن يشق عليها، أو يرهقها من أمرها عسرًا، أو ينحرف بها عن طريقها التي رسمتها لها طبيعتها ومزاجها.
وكان أصحاب الثقافة الممتازة وأصحاب الثقافة المتوسطة وأصحاب الثقافة المتواضعة والذين لا يكادون يظفرون من الثقافة بشيء، كل أولئك كانوا يتنافسون في القراءة ويختصمون فيما بينهم، يرضى فريق ويسخط فريق، ويضطرب ثالث بين السخط والرضى. وكان الزعماء السياسيون يؤثرون بعض الأدباء على بعض، وينهون أتباعهم عن قراءة ما يكتبه الأدباء الذين كانوا يسخطون عليهم، وربما حرموا عليهم قراءة صحف بعينها، وربما أعلنوا إليهم أنهم ينوبون عنهم في قراءة تلك الصحف. وكان الأتباع يسمعون ويصفقون، فإذا تفرقوا عن زعمائهم أسرعوا إلى الصحف المحظورة فاشتروها ودسوها في جيوبهم حتى إذا راحوا إلى دورهم خلوا إلى تلك الصحف فقرءُوها، ممعنين في قراءتها غير حافلين فيما بينهم وبين أنفسهم بنهي الزعماء عن هذه القراءة وحظرهم لها.
وكانت تلك الصحف تنشر باللغة العربية الفصحى، وكان كتَّابها يتنافسون في تجويد اللغة وتنميق الأسلوب، قد اتخذوا لأنفسهم في الأدب مُثلًا رفيعة لا يعرضون عنها ليتكلفوا رضى القراء، وإنما يسمون إليها ليغروا قرَّاءهم بمشاركتهم في هذا السمو. وكان بعض الشباب في تلك الأوقات يحاولون أن يكتبوا باللغة العامية وأن يروِّجوا لها ترويجًا لا ليتملقوا قراءهم بل ليبلغوا منهم مواطن الفهم والذوق والاستجابة، ولكنهم كانوا يظفرون بعكس ما كانوا يريدون، فيزورُّ عنهم القراء وتسخر منهم طوائف المثقفين، ويضطرون إلى الرجوع عن عاميتهم إلى اللغة الفصحى. وكان حافظ — رحمه الله — يهدر بشعره السياسي، وكان شوقي — رحمه الله — يُعنَى بشعره التمثيلي والسياسي، وكلاهما يذهب مذهب القدماء في لفظه وأسلوبه وفي وزنه وقوافيه، وكان الذين يسمعون للشاعرين العظيمين أو يقرءُون لهما يرضون ويعجبون ويحفظون شعرهما عن ظهر قلب، لا يجدون في رصانة هذا الشعر وجزالته ولا في تقليده للقدماء ما يصرفهم عنه أو يخوفهم منه أو يزهدهم فيه. وكنا نعيب الشاعرين العظيمين بإمعانهما في تقليد القدماء وتقصيرهما في التجديد وغلوهما في المحافظة على مذاهب القدماء، فكان الناس يقرءُون لنا فترضى منهم قلة قليلة جدًّا هم أصحاب الثقافة الرفيعة، وتسخط منهم كثرة كثيرة جدًّا هم أصحاب الثقافة المتوسطة والضئيلة.
كان ذلك منذ ربع قرن أو أكثر من ربع قرن. وكنت أعيب على المحافظين في اللغة والأدب تقديسهم للغة وإحاطتهم لها بهذا الإجلال الديني الذي يعصمها من التطور ويحميها من التجديد. وكنت أقول إن اللغة العربية هي لغة القرآن ما في ذلك شك، ولكنها في الوقت نفسه لغة الذين يتكلمونها، فمن الحق عليها أن تستجيب لأصحابها وأن تساير تطورهم وتجاري حياتهم في ظروفها المختلفة. وهي قد فعلت في العصور الأولى، فلم تكد تخرج من البادية العربية حتى لاءمت الحضارة الجديدة ووسعت علومها وفلسفتها وحتى تطور أدبها نفسه مع هذه الحضارة فأدى في يسر وإسماح ما لم يكن يخطر للأعراب البادين على بال من الخواطر والمعاني والآراء.
وكان الناس ينكرون عليَّ هذه المقالة أشد الإنكار ويرون أني قد جاوزت في الإسراف كل حد، وأني قد غلوت في التجديد حتى أخرجته عما ينبغي له من القصد والاعتدال، ومن الرفق والأناة، وحتى ذهبت به مذهب الثورة لا مذهب التطور والانتقال. وكنت أضحك من الدرس الأول الذي كان طلاب الأزهر الشريف يسمعونه حين يبدءون دراسة النحو، فيقرأ عليهم الشيوخ قول المؤلف — رحمه الله: الحمد لله الذي جعل لغة العرب أفصح اللغات.
وكنت أقول إن لغة العرب فصيحة ما في ذلك شك، ولكن في الأرض لغات أخرى ليست أقل منها فصاحة وجزالة وامتيازًا. وكان المحافظون يرون هذا القول مني جموحًا وإهدارًا للقيم الموروثة، وثورة بالسنن التي تلقاها الأبناء عن الآباء. وكنت أتندر بما كان بعض القدماء يختصمون فيه من أن لغة أهل الجنة في الدار الآخرة هي اللغة العربية أو اللغة السريانية، فكان غلاة المحافظين يضيقون مني بذلك أشد الضيق.
وأذكر أني حين هممت بالسفر إلى أوروبا لإتمام الدرس سألني الشيخ بخيت — رحمه الله: ما الذي تريد أن تدرسه في أوروبا؟ فقلت له متضاحكًا: أريد أن أدرس اللغة السريانية. فقال: ولمَ تدرس اللغة السريانية؟ قلت: لأحسن الرد على المَلَكين حين يسألانني في القبر؛ لأنهما يسألان باللغة السريانية. ورويت له ما كنت أحفظ من قول بعض الأزهريين القدماء:
فغضب الشيخ وضحك الحاضرون، وكانت كثرتهم من المطربشين. ولقيت الشيخ بعد عودتي من أوروبا فسلمت عليه ولم أقبِّل يده، وأراد أن يشعرني باحتقاره لي وازدرائه لما تعلمت في أوروبا ولما اتخذت من زي جديد، فلم يكن يدعوني إلا طه أفندي.
وحسبك بهذا الدعاء احتقارًا وازدراء.
كذلك كانت حالنا منذ أكثر من ربع قرن ثقة باللغة العربية الفصحى وإيمانًا بقدرتها على البقاء، ومطاولة الزمان ومغالبة الأحداث التي تجدد حياة الناس من يوم إلى يوم لا من عام إلى عام. وليس من شك في أن جيلنا ذاك القديم قد ظفر بالنجح كل النجح فيما كان يحاول من تجديد الأدب ورد الشباب إلى اللغة، بعد أن أدركتها في القرون الأخيرة أعراض تشبه أعراض الشيخوخة والهرم.
لم ينكر علينا أحد في تلك الأوقات إغرابًا في اللفظ أو التواءً في الأسلوب أو غموضًا في المعاني، وإنما كان الناس يتابعوننا راضين عنا، مشجعين لنا يشعرون بأننا كنا نرد إليهم شيئًا عزيزًا عليهم أثيرًا في نفوسهم بعُد عهدهم به، واشتد شوقهم إليه، وهو هذا الجمال الفني الذي يأتي من سماحة اللفظ وسجاحته ومن يسر المعاني ووضوحها ومن صفاء الأساليب ونقائها. لم يكن المازني — رحمه الله — يتحرج من إحياء تلك الأساليب القديمة التي كان يجدها عند عبد القاهر الجرجاني وعند الذين سبقوه من أصحاب النقد والبيان، وكان الناس يقرءُون له ويعجبون به ويستزيدونه من فنه ذاك الجديد القديم.
ولم يكن مصطفى عبد الرازق — رحمه الله — يتحرج من اصطناع الأناة المستأنية في إنتاجه الأدبي، فكان يفرغ الوقت الطويل لكتابة المقال القصير يحرر معانيه، ويجوِّد ألفاظه، ويصفي أسلوبه تصفية حتى كنا نشبه آثاره الأدبية بذلك الحلي الذي يتأنق فيه صُنَّاعه ويخرجونه روعة للناظرين لا سبيل إلى التعليق عليه بعيب ظاهر أو خفي.
وكان الناس يتحدثون عن هذا الكاتب أو ذاك فيقولون إنه يذهب مذهب الجاحظ أو مذهب ابن المقفع يرون ذلك ثناءً عليه وإطراءً له. ولم نكن نرضى بهذا الإطراء وذلك الثناء؛ لأننا لم نكن نحيي تلك الأساليب فحسب، وإنما كنا نحييها ونغنيها ونؤدي بها معاني وآراء وخواطر لم تكن تخطر للجاحظ وابن المقفع على بال.
كنا نترجم فيها شعر الشعراء ونثر الكتَّاب من أعلام الأدب في الغرب لا نجد في ذلك مشقة ولا حرجًا، وكنا نؤدي بها من ذات أنفسنا ما يلائم العصر الذي نعيش فيه من شئون هذه الحياة التي لا تشبه من قريب ولا من بعيد حياة الكتَّاب القدماء في البصرة والكوفة وبغداد.
وكنا نغيظ حافظًا وشوقي وغيرهما من الشعراء حين نتحدث بأن النثر العربي هو الذي ارتقى حقًّا في هذا العصر الحديث لأنه ابتكر أشياء لا عهد للقدماء بها دون أن يخل بفصاحة اللغة ورصانتها، ودون أن ينحرف عن أصولها المقررة أو طبيعتها الخالدة، على حين لم يستطع الشعر إلا أن يحيي مذاهب العباسيين متأثرًا لهم ومتأثرًا بهم أيضًا.
وكنت أغلو في مضايقة الشاعرين العظيمين، فأرد بعض قصائدهما إلى نماذجها القديمة من شعر البحتري وأبي تمام والمتنبي، وكانا يضيقان بذلك أشد الضيق، ويحاولان التجديد والابتكار، ويوفَّقان منهما إلى شيء كثير.
فأين نحن الآن من تلك الحياة التي كنا نحياها منذ ربع قرن، والتي لم أروِ من أمرها إلا أطرافًا قصارًا، والتي تشهد بها نصوص ما يزال الناس يقرءُونها ويكثرون من قراءتها ويستعينون بكثير منها على احتمال الحياة التي يحيونها الآن؟ وليس من شك في أن أسبابًا مختلفة كثيرة قد دعت إلى ما نحن فيه الآن من هذا الاضطراب الأدبي الخطير الذي يظهر في صور متناقضة أشد التناقض. فعقول شبابنا خصبة، وقلوبهم ذكية، وبصائرهم نافذة لا ينكر ذلك إلا المكابرون. وفيهم من أجل هذه الخصال قدرة رائعة على الإنتاج الفني، ولهم من أجل هذه الخصال إنتاج يعصم من اليأس ويفتح أبوابًا لآمال عراض، لا ينكر ذلك إلا المكابرون أيضًا.
ولكن أدباء الشباب هؤلاء أشقياء بفنهم، وقرَّاؤهم ليسوا أقل منهم شقاء لسبب يسير جدًّا؛ وهو أن وسيلة الأداء تعوزهم إعوازًا مروعًا حقًّا، فآثار كثير منهم أشبه شيء بالجمال البارع الساحر الذي يعرض في الأزياء الرثة المهلهلة التي تشوه براعته وتفسد سحره وتعلق القلوب تعليقًا مؤلمًا بين الإقبال عليه لأصالته وصدقه، والانصراف عنه لرثاثة صوره وغثاثة ألفاظه. وأدباؤنا الشبان يحسون ذلك من أنفسهم ومن قرائهم إحساسًا دقيقًا، ويضيقون به ضيقًا شديدًا، ولكنهم لا يحاولون له طبًّا ولا علاجًا، وإنما يمعنون فيه إمعان المستيئس، ويلهجون به لهج المكابر المعاند الذي يعجزه الحسن فيهيم بالقبح، ويفوته الكمال فيستمسك بالنقص ويتخذه مذهبًا ومنهاجًا.
ثم هم لا يكتفون بما يتورطون فيه من العناد في غير موضع للعناد، والمراء في غير موضع للمراء، ولكنهم يتكلفون الغض من الذين سبقوهم، ثم الخروج على ما ألف الناس من صور البيان وإيثار الفصاحة على الركاكة، والرقي على الإسفاف. فإذا لم يغن عنهم هذا كله شيئًا، ثاروا باللغة نفسها، ونصبوا لها حربًا أقل ما توصف به أنها عقيم لا تغني عنهم شيئًا، ولا تنيلهم خيرًا قليلًا أو كثيرًا. فليس من الحق في شيء أن اللغة العربية الفصحى قد ماتت أو أشرفت على الموت، بل ليس من الحق أن اللغة العربية الفصحى قد أدركها ضعف أو فتور أو قصور، وآية ذلك أن الناس يعربون بها عن ذات أنفسهم حين يكتبون ما يريدون أن يكتبوا في الموضوعات المختلفة لا يجدون في ذلك حرجًا، ولا يحتملون فيه عناء، يؤلفون الكتب ويترجمون ما يؤلف غيرهم من الأجانب في أقطار الشرق والغرب، وينشرون الصحف والمجلات، والناس يقرءُون ما يُؤلَّف من الكتب وما يُترجَم، كما يقرءُون ما تنشره الصحف والمجلات لا يجدون بذلك بأسًا ولا يشكون منه جهدًا. وآية ذلك أيضًا أن الناس ينشرون الكتب القديمة التي كتبت بالعربية الفصحى في عصورها المختلفة فيقرؤها أصحاب الثقافة العميقة الواسعة وأصحاب الثقافة المتوسطة الضيقة، وأكثرهم لا يقرؤها مكرهًا على قراءتها، وأكثرهم كذلك لا يقرؤها بالمجان، وإنما ينفق في قراءتها الوقت والمال والجهد عن حب لها ورغبة فيها، وحرص عليها. وليس هذا شأن اللغة التي ماتت أو أوشكت أن تموت، وليس هذا شأن اللغة التي أدركها الضعف أو الفتور أو القصور، وإنما هو شأن اللغة التي ما زالت حية قادرة على الحياة، قوية قادرة على مغالبة الأحداث والخطوب التي تغير حياة الناس من يوم إلى يوم.
وأدباؤنا الشبان يتورطون في خطأ أي خطأ حين يظنون أن اللغة العربية الفصحى لا يمكن أن تصح وأن تستقيم إلا إذا اتخذت ذلك الشكل القديم الذي يألفونه في شعر القدماء ونثرهم أثناء القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى للهجرة. وهم حين يتورطون في هذا الخطأ يجحدون التطور وينسون حقائقه الأولى، فلغة القرن الأول للهجرة لم تكن مطابقة كل المطابقة للغة الجاهليين، ولغة أبي نواس وأصحابه لم تكن مطابقة كل المطابقة للغة الفرزدق وجرير، ولغة المتنبي ومعاصريه لم تكن هي لغة أبي نواس ولِدَاتِه وأترابه، واللغة التي أتحدث إليهم بها الآن والتي يتحدث إليهم بها غيري من الكتَّاب ليست هي اللغة التي كان يتحدث بها كتَّاب القرن الثالث إلى قرائهم. ومعنى هذا كله أن حياة اللغة شيء وجمودها واستعصاءها على التطور شيء آخر. وأصحابنا هؤلاء من أدباء الشباب يتورطون في خطأ آخر ليس أقل من هذا الخطأ نكرًا، فهم قد قرءُوا في بعض الكتب أن اللغة اللاتينية قد كانت حية قوية منتشرة في غرب أوروبا، ثم ماتت ونشأت عنها لغات مختلفة في بلاد كثيرة من أوروبا الغربية هذه. وما أسرع ما يثبون من هذا الذي قرءُوه إلى أن اللغة العربية الفصحى لغة قديمة قد نشأت عنها لهجات عامية، فهي إذن قد ماتت وقامت اللهجات العامية مقامها. وقد قلت ألف مرة ومرة إني لا أشفق على شبابنا من شيء كما أشفق عليهم من التفكير السريع والأحكام الخاطفة، فاللغة اللاتينية لم تمت فجاءة، واللغات الحديثة لم تقم مقامها فجاءة، واللغة اللاتينية لم تمت لأن الشبان من أبنائها قضوا عليها الموت في يوم من الأيام، وقرروا أن تقوم اللهجات العامية مقامها، وإنما ماتت اللغة اللاتينية في بطء بطيء جدًّا بعد خطوب طوال ثقال ليس هنا موضع الحديث عنها. وقد تعرضت اللغة العربية الفصحى لخطوب طوال ثقال أيضًا حفظتها كتب التاريخ، ولكنها انتصرت إلى الآن على هذه الخطوب فلم تمت، ولم يدركها فتور أو قصور، وإنما قاومت وغالبت وأتيح لها الغلب والانتصار؛ فظلت حية قوية متطورة، وظلت اللهجات العامية ضعيفة ضئيلة لا تصلح للأداء الأدبي قليلًا أو كثيرًا، وآية ذلك أننا لا نعرف أثرًا أدبيًّا رائعًا خالدًا، كتب في لهجة من هذه اللهجات إلى الآن. وليس يكفي أن نقرر أن لغة من اللغات قد ماتت لتموت، وليس يكفي أن نقضي الموت على لغة من اللغات ليصبح قضاؤنا ضربة لازم ولتموت هذه اللغة لأننا أردنا لها الموت.
كل هذا عبث من العبث، واضطراب فيما لا ينفع ولا يفيد ولا يغني عن الناس شيئًا، واستجابة للكسل الذي يثبط الهمم ويفل الحد ويميت القلوب. وخير من هذا كله أن نستقبل أمور اللغة العربية الفصحى ومشكلاتها كما نستقبل غيرها من الأمور والمشكلات، فنلتمس لها ما يلائمها من الحلول ولا نستيئس من الظفر بهذه الحلول.
وللغة العربية الفصحى مشكلات خطيرة ليس في ذلك شك، وقد تنبهنا لهذه المشكلات منذ أواخر القرن الماضي، ولكنا لم نجد الشجاعة إلى الآن لحلها في غير تردد ولا تلكؤ، وإنما صانع منا المصانعون، وداور منا المداورون، وتركنا الأمور تمضي كما تستطيع فعرضنا لغتنا وأدبنا لشر عظيم.
ولست أذكر الآن من هذه المشكلات إلا اثنتين كلتاهما خطيرة أشد الخطورة. فأما أولاهما فهي الكتابة العربية التي طالب الناس بإصلاحها منذ أواخر القرن الماضي — فيما أذكر — دون أن يظفروا بشيء. والثانية هي علم النحو الذي حاول الناس إصلاحه منذ أوائل هذا القرن فلم يظفروا بشيء أيضًا.
والأصل الذي يجب أن ينتبه إليه الناس هو أن الكتابة كانت فيما مضى كما كان النحو مقصورة على قلة قليلة من الناس، فأصبحت بحكم النظم الحديثة مفروضة على الشعوب كلها. كانت أرستقراطية فأصبحت ديمقراطية إن صح هذا التعبير. وإذا كانت الأرستقراطية تستتبع الصعوبة والعسر والضيق لأنها تصور الاستئثار والاحتكار وإقامة الحواجز والمصاعب دون ما يستأثر به السادة الممتازون، فإن الديمقراطية تستتبع السهولة واليسر والإسماح وإزالة المصاعب وتذليل العقاب. وإذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع. ونحن نريد أن يكون الشعب كله كاتبًا قارئًا، فلنيسر له الكتابة والقراءة حتى يبلغ حاجته منهما في سعة ودعة، وفي يسر ولين.
ونحن نكتب الآن كما كنا نكتب منذ أكثر من ألف سنة حين كانت الكتابة امتيازًا تستأثر به قلة من الناس. فإذا ألغيت هذا الامتياز فألغ ما كان يقتضيه من ضروب المصاعب والعقاب، ويسِّر الكتابة والقراءة ليستطيع الناس جميعًا أن يكتبوا ويقرءُوا دون أن يضيعوا من الجهد والوقت ما لا يملكون.
ومن الحمق الأحمق والجهالة الجاهلة حقًّا أن تطلب إلى عامة الشعب أن تحسن الفهم لتحسن الكتابة والقراءة، فالأصل أن يكتب الناس ويقرءُوا أولًا وأن يفهموا بعد ذلك، وقل مثل هذا بالقياس إلى النحو؛ فنحن نعلِّم صبيتنا وشبابنا أصول اللغة العربية وخصائصها كما كانت تُعلَّم منذ اثني عشر قرنًا في البصرة والكوفة وبغداد، وقد تغيرت الحياة وتغيرت العقول وأصبح النحو القديم تاريخًا يدرسه الإخصائيون ولم يبق بد من نحو ميسر، قريب لتفهمه هذه الملايين الكثيرة من التلاميذ.
والصبية والشباب يتعلمون اللغات الأوروبية، فلا يجدون مشقة ولا عسرًا في فهم النحو لهذه اللغات؛ لأن نحوها قد تطور حتى لاءم الحياة الجديدة والعقل الجديد.
وأغرب من هذا أن اللاتينية الميتة تدرس للصبية والشباب في أوروبا، ولا يجد الصبية والشباب مشقة ولا عسرًا في فهم النحو اللاتيني؛ لأنه قد يسر حتى لاءم الحياة الجديدة والعقل الجديد، وقل مثل ذلك بالقياس إلى اللغة اليونانية القديمة. فأعجب للغات ميتة يُدرَّس نحوها الآن في يسر أي يسر، وللغة حية هي لغتنا العربية يُدرَّس نحوها في عسر عسير، ولا ينتهي بتلاميذه إلا إلى جهله وبغضه وبغض اللغة العربية كلها من أجله.
وأنا مطمئن كل الاطمئنان إلى أن إصلاح الكتابة العربية وتيسير النحو العربي كفيلان بإراحة الجيل الناشئ من شبابنا من هذا العناء الثقيل الذي ينوء بالكتَّاب المعاصرين من شبابنا الأدباء الذين تعلموا اللغة العربية على أساليب لا تلائم عقولهم وأمزجتهم فلم يحسنوها ولم يطمئنوا إليها، واضطرهم ذلك آخر الأمر إلى ما يشقون به ويشقى به معهم قراؤهم من هذا الإنتاج الأدبي الذي يجمع بين الجمال والقبح والجودة والرداءة في وقت واحد، ومن هذه الشكوى التي لا تنقضي من صعوبة اللغة الفصحى واستعصائها، ومن هذه المطالبة المُمِضَّة بالالتجاء إلى اللهجات العامية وإقامتها مقام اللغة العربية الفصحى التي تشقى بأساتذتها ومعلميها.
وأحب آخر الأمر أن ألفت أدباءنا الذين يطالبون بالالتجاء إلى اللهجات العامية إلى شيء خطير ما أرى أنهم قد فكروا فيه فأحسنوا التفكير، وهو أن العالم العربي الآن وكثيرًا من أهل العالم الشرقي كله يفهم اللغة العربية الفصحى ويتخذها وسيلة للتعبير عن ذات نفسه وللتواصل الصحيح القوي بين أقطاره المتباعدة.
فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية فيمضي كل قطر في لهجته وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتدابر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سوريا ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين وكما يترجم هؤلاء عن الفرنسيين.
ولنسأل أنفسنا آخر الأمر أيهما خير؛ أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى يفهمها أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق، أم أن تكون لهذا العالم لغات بعدد الأقطار التي يأتلف منها، وأن يترجم بعضه عن بعض كما يترجم بعض الأوروبيين عن بعض؟ أما أنا فأُوثِر وحدة اللغة، وأثق كل الثقة كلها بأن لها النصر آخر الأمر، وأرى غير متردد أن وحدة اللغة هذه خليقة بأن يجاهد في سبيلها المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون.