مشكلة
لفتني إليها صديق كريم في كتاب تفضل بكتابته إليَّ بعد أن قرأ الحديث الذي نشرته لي «الجمهورية» في الأسبوع الماضي عن الفصحى والعامية، وأعترف بأني لم أكد أفرغ من قراءة ذلك الكتاب حتى استيقنت أن ذلك الصديق قد صور المشكلة فأحسن تصويرها، وأن هذا الحوار الطويل الذي أسرف الناس فيه حتى ملوا وأملوا حول الفصحى والعامية ليس إلا دورانًا حول المشكلة دون تعمق لها أو إحاطة بها فضلًا عن حلها والتغلب عليها. وقد كان يقال لنا حين كنا طلابًا في الأزهر الشريف إن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وكان يراد بهذا الكلام أن الذين يريدون القول في أمر من الأمور يجب أن يحسنوا العلم به والفهم لدقائقه قبل أن يقولوا فيه وقبل أن يحكموا عليه.
وكنا نتندر في تلك الأيام بشيخ من شيوخنا — رحمه الله — كان يقول في كل شيء دون أن نفهم عنه شيئًا. وكان رحمه الله يتمدح فيقول إنه يستطيع أن يتكلم ساعتين دون أن نفهم نحن عنه شيئًا ودون أن يفهم هو عن نفسه شيئًا، وكان يرى ذلك نعمة أسبغها الله عليه وفضلًا اختصه الله به، والله يؤتي فضله من يشاء … وليس من شك في أن شيخنا — رحمه الله — كان يقول فيكثر القول في الأشياء التي لا يحسن فهمها، وكان كلما أحسَّ منا قصورًا أو عجزًا عن اتباعه أغرق في القول وتأنق في التعبير وعابنا بالغباء، ودعانا بأسماء الحيوان لا يتردد في شيء من ذلك، ولا يصطنع فيه تلطفًا ولا احتشامًا. فإذا تحدث إلينا فيما يحسن من العلم لم يحتج إلى إطالة أو إلى افتنان في التعبير، ولم نحتج نحن إلى سؤاله أو استعادته، ولم نتعرض لنكون حمرًا أو ثِيَرة أو خنازير وبتفخيم الخاء. ومعنى هذا كله أن من فهم شيئًا حق الفهم استطاع أن يعرب عنه حق الإعراب إذا أحسن لغته وملك أداته، ولا خير في فهم لا يؤدي عنه اللسان، ولا خير في لسان لا يؤدي عن القلب والعقل فيحسن الأداء. ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:
والشيء المحقق هو أن الذين يضيقون باللغة الفصحى وينفرون منها ويفزعون إلى ما يسمونه اللغة العامية، لا يعرفون اللغة العربية الفصحى حق معرفتها قبل كل شيء؛ لأنهم لم يتعلموها كما كان ينبغي أن يتعلموها. شقت عليهم في المدرسة ولم يحسن أساتذتهم تحبيبها إليهم فاتخذوا دروسها وسيلة إلى النفوذ من الامتحان لا وسيلة إلى التعبير عن ذات نفوسهم. وانقطعت الصلة بينها وبين قلوبهم وعقولهم فلم يعرفوا إلا لغة الحديث هذه التي يديرون بها ألسنتهم حين يلقون أصحابهم وحين يتحدثون إلى الآباء والأمهات والإخوان والأخوات. وربما نشأ عن هذا شيء خطيرٌ جدًّا وهو أن قصورهم عن العلم باللغة قد اضطرهم إلى القصور عن فهم كثير من العلم الذي كان يُلقَى إليهم في المدارس والمعاهد والجامعات، فهذا العلم كان يُكتب لهم باللغة الفصحى فيما يقرءُون من الكتب ويُلقى إليهم بلغة مختلطة بين الفصحى والعامية، فيفهمون قليلًا ويعجزون عن فهم الكثير، ويحفظون ما في الكتب والمذكرات عن ظهر قلب ليعيدوه حين يُدعَون إلى الامتحان، ولينسوه بعد أن يفرغوا من الامتحان، فهم يمرون بالمدرسة مرًّا فيحفظون منها شيئًا ويجهلون منها ومما يلقى فيها أشياء. فإذا ظفروا بالإجازة المدرسية أو الدرجة الجامعية رأوا أنفسهم علماء بحكم القانون وبشهادة الدولة، ولم ير الناس علمًا عندهم أو شيئًا يشبه العلم؛ لأنهم لم يتعلموا كما تعلم الناس ولم يفهموا كما ينبغي للناس أن يفهموا. وآية ذلك أن العلم في بلادنا لا يكاد يثمر مع أن ذكاء القلوب ونفاذ البصائر وقدرة العقول على الفهم والبحث والاستقصاء كل ذلك لا ينقصنا، وإنما الذي ينقصنا هو تمرين القلوب والبصائر والعقول على الشعور والفهم والبحث والاستقصاء.
والأمر بالقياس إلى اللغة الفصحى لا يعدو أن يكون كما هو بالقياس إلى أي لون من ألوان المعرفة أمر العلم والجهل؛ نحسن العلم فنحسن التعبير ونخطئ العلم فيخطئنا التعبير … وإذا أتيح للتعليم ما ينبغي له من الإصلاح ففهم التلاميذ والطلاب عن أساتذتهم حق الفهم، وامتزج العلم بعقولهم وقلوبهم وأصبح جزءًا من نفوسهم لا شيئًا يستعار اليوم لينطرح غدًا، أتيح للمتعلمين أن يعربوا عما عرفوا من العلم، وأتيح لهم كذلك أن ينتجوا فيما عرفوا من العلم، وأتيح للعلم أن يتوطن في مصر كما يتوطن فيها أبناؤها وأن يستقر فيها استقرار المواطن، ولا يلم بها إلمام الغريب.
وما يقال بالقياس إلى العلم يقال بالقياس إلى الأدب وبالقياس إلى الفن وبالقياس إلى ما شاء الله من ألوان الثقافة وضروب النشاط العقلي على اختلافه، فلأمرٍ ما نفر الفن من مصر على حظ مصر في عصورها القديمة من إتقان الفنون والتفوق فيها.
ولأمرٍ ما ظلت الموسيقى في مصر، كما يقول ذلك الصديق الكريم الذي كتب إليَّ، في طور السجع والجناس والطباق متكلفة لا تصور شيئًا ولا تدل على شيء.
ومن خصائص الأدب أنه لا يخضع لما تخضع له ألوان المعرفة الأخرى من هذه القيود التي تفرض في المدارس والمعاهد والجامعات. فأنت لا تستطيع اصطناع مهنة الطب أو الهندسة إلا إذا أذنت لك الدولة في ذلك بعد أعوام معينة تقضيها في الدرس النظري والعملي، وبعد امتحانات معينة تجوزها في يسر أو في عسر. ولكنك لا تحتاج إلى إذن الدولة لتكون أديبًا، وإنما يكفي أن تحسن تناول القلم وإجراءه على القرطاس بما يمكن أن يقرأه الناس لترى نفسك أديبًا إن شئت، وليراك الناس أديبًا إن أعجبهم ما تذيع فيهم من فنون القول. وقد أتيحت المطبعة وأتيحت الصحافة في هذا العصر الحديث فأصبح من الممكن لكل كاتب أن ينشر ما يكتب في كتاب أو في صحيفة، فإذا رأى كلامه مطبوعًا في كتاب أو منشورًا في صحيفة ظن أنه أديب. فإذا أحس رضى الناس عما يكتب استيقن أنه من قادة الرأي، وإذا أحس إعراضهم عما يكتب لم يشُكَّ في أنه مظلوم مغبون لا يستطيع الناس أن يفهموا عنه أو يقدروا إنتاجه الرفيع، وإذا أحس سخطهم على ما يكتب، لم يتردد في الثقة بأنه قد سبق العصر الذي كان ينبغي أن يعيش فيه وبأن أدبه قد جاء قبل إبَّانه، وبأن الأجيال المقبلة ستقدره خيرًا مما قدرته الأجيال المعاصرة وستفهم عنه خيرًا مما فهم عنه المعاصرون.
ولست أدري أيجرب الأدباء ما أجرب من هذه الصور الكثيرة التي تصبحني وتمسيني في كل يوم، والتي يعرضها عليَّ أصحابها ليعرفوا رأيي فيها وحكمي عليها وهم واثقون قبل عرضها عليَّ أنها جيدة كل الجودة متقنة كل الإتقان. وهم يرضون عني كل الرضى إذا شجعتهم وأثنيت عليهم، ولكنه رضى موقوت لا يلبث أن يستحيل إلى سخط واتهام بالحسد والجحود والعقوق أيضًا، إذا لم أمضِ في الثناء والتشجيع. وهم يسخطون عليَّ أشد السخط إذا رددت إليهم آثارهم متلطفًا ولم أمنحهم من الثناء والتشجيع ما كانوا ينتظرون. يرون ذلك أثرة وبخلًا وإشفاقًا من منافستهم لي وتفوقهم عليَّ.
وكذلك يكثر الكاتبون عن علم وعن غير علم، ويُنشَر من الكلام ما يُقرأ وما لا يُقرأ ولا سبيل إلى أن تتقي هذا، وتصد الناس عنه. فالصحف محتاجة لأن تفيض أنهارها، وما أكثر ما تفيض الأنهار بالغث والسمين! وإذا رأى صاحب الكلام الغث أن كلامه قد نشر إلى جانب الكلام القيم لم يفرق بين هذا وذاك ولم يشك في أنه أحسن وأجاد، ولم يزده هذا إلا غرورًا، وامتلأ بنفسه ثقة بأنه يستطيع أن يخوض في كل شيء وأن يقضي في كل شيء. وويل للذين لا يذعنون لقضائه حين يقضي ولا يؤمنون بقوله حين يقول.
والصحف لا تستطيع أن تطالب كتَّابها بالتجويد الفني؛ لأن نظامها يعجلها ويعجلهم عن ذلك. وليس المهم بالقياس إلى الصحف أن تنشر الأدب الشائق الرائق فحسب وإنما الذي يعنيها قبل كل شيء أن تنشر ما يفهمه الناس منها على اختلاف طبقاتهم، وهي لا تحفل بترقية الذوق ولا بتهذيب الطبع إلا قليلًا، وإنما تحفل بإذاعة الأنباء وإثارة الميل إلى الاستطلاع. فهي أشد حاجة إلى ما يبلغ ذلك من نفوس قرائها منها إلى ما يمتع عقولهم وأذواقهم ويصلح قلوبهم ويهذب طباعهم. ومن الصحف ما لا يعنيها ذلك قليلًا ولا كثيرًا. والذي تقوله في الصحف تستطيع أن تقوله في الإذاعة التي تتجه إلى الكثرة لا إلى القلة وإلى الكافة لا إلى الصفوة. وكذلك تختلط القيم أشد الاختلاط ولا يفرق القراء أو كثرتهم على أقل تقدير بين الأديب والكاتب الصحفي الذي لا حظ له من عناية بالأدب أو مشاركة فيه.
والناس يتناقلون الأخبار والأحاديث بينهم باللغة التي يتكلمونها لا يتأنقون في ذلك ولا يحتفلون له. فلمَ لا تلقي الصحف إليهم أنباءها وأحاديثها بهذه اللغة التي يتكلمونها؟ ذلك أيسر على كتابها حين يكتبون، وأيسر على قرائها حين يقرءُون. فأما التأنق والاحتفال فصناعة الفارغين للأدب، وليس العصر الذي نعيش فيه عصر فراغ للأدب أو عكوف عليه أو أناة في إنتاجه، وإذا كثر نشر الكلام الذي يُكتب في يسر ويُفهم في يسر ولا يحتاج كاتبه إلى أناة في كتابته لأن الصحيفة تعجله عن الأناة، ولا يحتاج قارئه إلى الأناة في قراءته لأن أعباء الحياة تعجله عن الأناة، إذا كثر نشر هذا الكلام السهل وكثرت معه القراءة السهلة، أَلِفَ الناس هذه السهولة وضاقوا بالمشقة وكرهوا الجهد واحتمال العناء، وأصبح الكسل لهم طبيعة، وزهدوا في الفن وما يكلف أصحابه من إنفاق الوقت والقوة واحتمال المشقة الشاقة والعناء المرهق. وماذا يصنع الطالب والتلميذ بين دروسٍ تُلقَى إليه إلقاءً مهملًا، وصحفٍ تلقي إليه الأخبار والأحاديث إلقاءً مهملًا، وإذاعة تصبحه بالكلام الكثير المختلف الذي يُلقَى إليه إلقاءً مهملًا أيضًا؟ لمَ لا تصبح حياته كلها إهمالًا في التفكير، وإهمالًا في التعبير، وإهمالًا في البحث والاستقصاء، وإهمالًا في الحكم على الأشياء وفي تقدير الأشياء بينه وبين نفسه؟
ويزيد في خطورة هذه الظواهر كلها أن الحياة العقلية جديدة بالقياس إلى هذه الكثرة التي أخذت تشارك فيها فئة معينة وانتصر التعليم واستيقظ الضمير العام بينها، فعلمنا الحديث وأدبنا الحديث وثقافتنا الحديثة كل ذلك لا يعتمد على سُنَّة موروثة ولا عادات يتلقاها الأبناء عن آبائهم، وإنما هو شيء طارئ بعد أن لم يكن، وهو طارئ بالقياس إلى فريق من الناس دون فريق.
فالمتعلم غريب بين الذين لم يتعلموا، والأبناء الذين يختلفون إلى المدارس والمعاهد والجامعات غرباء حين يروحون إلى بيوتهم ويتحدثون إلى آبائهم وأمهاتهم، بل هم غرباء حين ينصرفون عن مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم.
وهم بحكم هذه الغربة معرضون لكثير من الشر، معرضون لهذا الجهل الذي يغمرهم ويأخذهم من جميع أقطارهم. والاستسلام أيسر من المقاومة والكسل أيسر من العناء. فما لهم لا يعيشون في بيئاتهم إذن، وما لهم لا يحيون حياتين مختلفتين، إحداهما عسيرة يحيونها في معاهد العلم، والأخرى يسيرة يحيونها في الشوارع والأندية والملاعب والدور؟ وكذلك يكون حظ الجهل من حياة الشباب أكثر من حظ العلم، وأثر الجهل في نفوسهم أشد من أثر العلم والأدب والفن … أشياء يتكلفها الشباب تكلفًا ولا تستجيب لها طباعهم وعقولهم وقلوبهم إلا قليلًا. والنتيجة الطبيعية لهذا كله لو استقامت العقول وصح تقديرنا للأشياء وحُكمنا عليها أن نقاوم الجهل وتأثيره في نفوس الشباب ما استطعنا إلى مقاومته سبيلًا، وأن نُكرِّه إلى شبابنا هذه السهولة التي يألفونها والتي تغريهم بالكسل وترغبهم فيه، ونحبب إليهم الجهد، ونزينه في قلوبهم، ونغريهم بصعاب الأمور، وندعوهم إلى الدخول من الأبواب الضيقة لا من الأبواب الواسعة التي لا تكلف الداخلين منها مشقة ولا جهدًا. والذي أعرفه ويعرفه كثير من الناس أن في الأرض بلادًا أخرى كثيرة غير بلادنا يحيا فيها الشباب حياة تدفعهم دفعًا إلى الاستزادة من العلم والمعرفة في كل لحظة من لحظات النهار والليل، وتدفعهم دفعًا إلى محاولة الجهد واحتمال المشقة وعدم الاستسلام لهذا الكسل الذي يميت القلوب ويخمد جذوة العقول. وهم من أجل ذلك لا يضيقون بلغاتهم؛ لأن العلم بها يدعوهم إلى شيء من الجهد الكثير أو القليل. وهم من أجل ذلك لا يفرضون لغة الشارع على أدبائهم وشعرائهم، وإنما يرفعون أنفسهم بين حين وحين ساعة أو ساعات في كل يوم من حياة الشارع هذه إلى حياة الكتاب والشعراء في كتبهم ودواوينهم وإلى حياة العلماء في كتبهم ومعاملهم، وإلى حياة الفنانين مستمتعين بما ينتجون من ضروب الفن الجميل على اختلافها، لا يمنعهم ذلك من النهوض بأعباء الحياة اليومية، بل يشجعهم على احتمال هذه الأعباء، يقبلون عليها ويشقون بها مطمئنين إلى أنهم سيتخففون منها آخر النهار بقراءة الشعر أو النثر وبالاستماع إلى آيات الموسيقى، وسيتخففون منها يوم الراحة بالاختلاف إلى المتاحف يستمتعون بما فيها من روائع الفن القديم والحديث، وبالتنزه في الحدائق والرياض ينعمون فيها بجمال الطبيعة وسحرها. وهم بذلك يحيون حياة الإنسان الجدير بهذا الاسم يؤدون للجسم حقه ولملكاتهم العقلية والشعورية حقها. في تلك البلاد يحاول بعض الكتَّاب أن يكتبوا بلغة الشارع، فلا يتاح لهم إلا الإخفاق؛ لأن الناس ينفقون أكثر وقتهم في التحدث بلغة الشارع والاستماع لها، ويريدون أن يستريحوا منها إلى لغة الكتاب والشعر والتصوير والموسيقى وإلى لغة الطبيعة التي لا تتحدث إليَّ وحدها وإنما تتحدث إلى نفوسهم بغير واسطة.
ما أشد حاجتنا إلى أن نفهم حياتنا التي نحياها حق فهمها، ونعلم أننا أشبه شيء بالغريق الذي يقاوم النهر؛ لأنه إن استسلم له أدركه الموت. ونحن نسبح في بحر لا في نهر من الجهل والغفلة ومن الابتذال والإسفاف، فمن الحق علينا لأنفسنا ولوطننا وللأجيال المقبلة من أبنائنا وأحفادنا أن نقاوم هذه الأمواج الجاهلة التي توشك أن تطغى علينا وتضطر نفوسنا إلى الموت وتتركنا أجسامًا تحيا حياة الأنعام لا حياة الناس.
ما أشد حاجتنا إلى أن نبذل أقصى ما نستطيع من الجهد لتصبح حياتنا العقلية كلها تعليمًا لا تجهيلًا!