التمثيل
وهذه خصومة جديدة لست أدري أتقصر أم تطول؟ بل لست أدري أيُعنَى بها الشباب من أدبائنا كما عنوا بالخصومة حول الأدب؟ أيكون في سبيل الحياة أم تكون الحياة في سبيله؟ وحول صورة الأدب أتكون هذا المزاج الذي يمتع القلب والعقل والذوق ويغني النفس بما يثير فيها من الشعور بالجمال والطموح إليه، أم تكون ذلك الكلام اليوناني الذي لا يُقرأ ولا يُفهم لأن أصحابه لم يحسنوا الفهم عن الفيلسوف الإيطالي العظيم بندتو كروتشه، ولم يحسنوا التعبير عما لم يحسنوا فهمه، فقالوا كلامًا يقرؤه الناس فيظنون أنهم يقرءُون تلك الكلمات التي تأتلف منها العزائم والطلسمات والتي يفهمها الجن ولا يجد الناس إلى فهمها سبيلًا؟
أما أنا فأُعنَى بهذه الخصومة الجديدة عناية خاصة؛ لأنها ممتعة في نفسها أولًا، ولأنها تنفع الشباب الذين لم يتورطوا بعد في قراءات غريبة يفهمونها أو لا يفهمونها، ولكنهم في أول حياتهم الأدبية يلتمسون طريقهم ويلتمسون نفوسهم أيضًا ويتهيَّئُون ليظهروا في أثر هذا الجيل من أدبائنا الجدد.
وهذه الخصومة الجديدة أثارها الأستاذ الصديق عزيز أباظة منذ أيام أو أثرتُها أنا منذ عام ونصف عام، والفضل في إثارتها راجع إلى شاعرنا الكبير على كل حال. فقد قدَّمت إلى القراء منذ حين غير قصير قصته الرائعة «غروب الأندلس»، وقلت في تلك المقدمة إني لا أنشط للتمثيل الذي يُعرض على الناس شعرًا في هذه الأيام؛ لأن التمثيل قد شب عن طوق الشعر وتحرر من قيوده وأوزانه، وآثر الحرية الحرة والطلاقة الطليقة اللتين تتاحان في النثر أكثر مما تتاحان في الشعر.
وشاعرنا الكبير صبورٌ حَسَنُ الأناة متئدٌ في كل ما يعمل ومتئدٌ في كل ما يقول، إلى سماحة في الخلق ورجاحة في الحكم وإيثار للعافية وازورار عن المراء. وهو من أجل ذلك تفضل فتقبل المقدمة بقبول حسن وصدَّر بها الطبعة الأولى لقصته الممتعة، ولكنه على ذلك لم يرضَ رأيي في الشعر التمثيلي الحديث، فصبر من هذا الرأي على ما كره وانتظر حتى سكت عنه الغضب، ثم أقبل في الأسبوع الماضي على رأيي ذلك يجادلني فيه ويريد أن يصرفني عنه، ولكنه مع الأسف الشديد، أو مع السرور الشديد، لم يبلغ شيئًا؛ فهو لم يستطع أن يقنعني بأن الشعر عامة والشعر العربي خاصة يلائم التمثيل في هذه الأيام، وأيسر ما ينبغي أن نفكر فيه حين نعرض لهذا الموضوع هو هذه القصص التمثيلية التي لا تكاد تحصى والتي تشغل ملاعب التمثيل في أوروبا وأمريكا في هذه الأيام، والتي تتجدد تجددًا مطردًا من عام إلى عام، كما تقفو أمواج النهر الجاري ما يسبقها من الأمواج، وكما تقفوها أمواج يسعى بعضها في إثر بعض ما دام النهر جاريًا فيما رُسم له من طريق.
ثم نستقصي هذه القصص وكتَّابها لنرى لأيهم تكون الكثرة الكثيرة؛ أللشعر أم للنثر؟
فإن تكن للشعر فقد أخطأت أنا وأصاب شاعرنا الكبير. وأؤكد له أني أبتهج بخطئي إن أكن مخطئًا أكثر مما يبتهج هو بإصابته إن يكن مصيبًا؛ ذلك لأني أُوثِر الشعر على النثر، وأود لو أتيح لي أن تكون قراءتي كلها شعرًا، بل أن تكون حياتي كلها شعرًا؛ لأن الشعر الجيد جمال خالص يجد الإنسان فيه نفسه وقلبه وعقله وذوقه في غير مشقة ولا جهد، وفي غير كدر ولا رفق، وفي غير غرور ولا كبرياء، ولأن الشعر يخلق لقارئه عالمًا كله صفو، وكله سموٌّ، وكله ارتفاع عن النقائص وتنزُّه عن الصغائر، وكله يسر وإسماح.
وما أرى أن أحدًا يكره أن تكون حياته كلها شعرًا، ولكن الناس يريدون والأقدار تقضي لهم ما تريد هي، لا ما يريدون هم.
والأقدار قد قضت على الناس في هذه الأيام أن يكون حظهم من الشعر قليلًا أو أقل جدًّا من القليل. ومن يدري لعلها قضت عليهم أن تقدم لهم هذه الحياة الغليظة الجافية الخشنة المحفوفة بالمكاره لتمتحن بها نفوسهم وتمحص بها قلوبهم، وتهيئ بها الأخيار منهم لحياة كلها شعر، وكلها روعة وجمال ويسر وإسماح وصفاء ونقاء في الجنة التي ادخرها الله لعباده الصالحين. فأما في هذه الدنيا التي نعيش فيها منذ استأثر العلم بعقول الناس وابتكر لهم ما ابتكر في حياتهم المادية والمعنوية جميعًا، فنحن مكرهون أن نقنع بالنثر الذي أتيح لنا، والذي يلائم هذه الحياة التي نحياها ويؤدي عنا أغراضنا فيها كما يستطيع أن يؤديها عنا.
والشعر ليس نادرًا في التمثيل وحده، ولكنه نادر في الأدب كله، والشعر لا يتاح لكل من استطاع أن يشعر أو يفكر وأحسَّ أن عنده شيئًا يستطيع أن يقوله للناس، وإنما يتاح لقلة قليلة جدًّا من الأفذاذ المختارين الذين يختصهم الله بمواهب ممتازة يأتيها امتيازها من أنها نادرة ليست شائعة ولا ميسرة ولا مكتسبة بالمحاولة والمطاولة والمعاناة وحدها، وإنما تحتاج إلى المحاولة والمطاولة والمعاناة بعد أن توهب لبعض الطباع الخاصة التي يؤثرها الله بموهبة الشعر إيثارًا. وآية ذلك أن كل أديب قد حاول الشعر في أول أمره طموحًا منه إلى هذا المثل الأعلى.
ثم رد عنه أكثر الأدباء حين استبان لهم أنهم أقصر باعًا وأضيق ذراعًا من أن يبلغوه؛ لأن الشعر شيء لا يكتسبه الناس اكتسابًا، وإنما يتلقونه فضلًا من الله الذي يؤتي فضله من يشاء من عباده.
ومهما يكن من شيء فإني أدعو شاعرنا الكبير إلى أن يستقصي معي ما يعرض على الناس من التمثيل في العالم الحديث؛ لنرى أتكون كثرته شعرًا أم نثرًا. وما أشك في أنه إن فعل سيعدل عما زعم في مقاله الأخير من أن أسماء الشعراء الممثلين ليست أقل كثيرًا من أسماء الكتَّاب الممثلين، وسيؤمن إيمانًا لا يبلغه شك من أي ناحية من نواحيه بأن التمثيل قد انصرف عن الشعر منذ عهد بعيد، وبأنه يستطيع أن يعد العشرات والمئات من الكتاب الممثلين الذين يقدمون إلى القراء والنظارة عشرات ومئات من القصص التي كتبت نثرًا دون أن يحصي عشرة واحدة من الشعراء الذين يقدمون إلى الناس قصصًا تمثيلية قد نُظمت شعرًا في هذا العصر الذي نعيش فيه.
ويستطيع الأستاذ أن يذهب إلى المدن الكبرى التي تكثر فيها الملاعب ويزدهر فيها التمثيل، وأنا زعيم بأنه لن يجد خمس قصص شعرية تُمثَّل الآن في العالم كله، على حين أنه سيجد مئات من القصص النثرية تُعرض على الناس في كل ليلة فيها الجيد وفيها الرديء وفيها ما هو بين ذلك، ولكنها كلها قد صُبَّت في النثر صبًّا ولم تُصَغ في الشعر. وفي باريس مثلًا عشرات من ملاعب التمثيل الجادة والهازلة وكلها تعرض على الناس الآن تمثيلًا منثورًا، إلا أن يعرض بعضها قصص الفحول من الشعراء القدماء كشكسبير وكورني وراسين ومن إليهم.
وكم أحب أن يراجع الأستاذ نفسه فيما زعم من أمر الشاعر العظيم إليوت، فتمثيله المنثور أكثر من تمثيله الشعري فيما أعلم، وهو بعد ذلك شاعر يُعنَى بالشعر الخالص أكثر مما يُعنَى بالشعر التمثيلي. وقد يعرض له التمثيل من حين إلى حين فيعمد إليه ناثرًا أكثر مما يعمد إليه شاعرًا. وفي فرنسا شاعرها العظيم الذي تؤمن له بالتفوق والنبوغ وتؤمن له بالتفوق والنبوغ بلاد أخرى غير فرنسا وهو كلوديل، وتمثيله مع ذلك على كثرته وروعته وتفوُّقه ليس شعرًا وليس نثرًا بالمعنى المألوف، وإنما هو شيء بين ذلك تحرر من الشعر ومن قيوده، ولم يهبط إلى النثر الذي يصطنعه الناس عامة، وإنما اتخذ لنفسه لونًا خاصًّا من النثر لا يكاد أحد يشاركه فيه.
وقل مثل ذلك بالقياس إلى البلاد الأخرى التي يزدهر فيها التمثيل. وما من شك في أن النثر قد انتصر على الشعر في هذه الموقعة التي أثيرت بينهما وهي موقعة التمثيل، وقد كان الأمر بينهما كذلك في جميع العصور وفي جميع البيئات، وبالقياس إلى كثير من فنون القول لا بالقياس إلى التمثيل وحده، فالعرب مثلًا في جاهليتهم لم يعرفوا من فنون الكلام المنثور إلا أحاديثهم اليومية وأمثالهم السائرة وخطبًا قصارًا كانت تُلقى في بعض المقامات ذهبت عنا ولم يبق لنا منها شيء. كانت كثرتهم تجهل الكتابة، وكان الذين يحسنون الكتابة يصطنعونها في معاملاتهم المادية ولا يحسنون التعبير بها عما يريدون حتى في أيسر معاملاتهم. وفي العصر الإسلامي الأول كانت حياتهم العقلية كلها شعرًا وعرفوا النثر في شئون العلوم الدينية وفي شئون السياسة حين كانوا يختصمون، وفي شئون الوعظ حين كان القُصَّاص يذكرون الناس بأيام الله. ثم جعل النثر يقوى شيئًا فشيئًا حتى بلغ أشده في القرن الثاني، وإذا هو لا يكتفي بميادينه المقسومة له من حياة الناس في العلم والفلسفة والرسائل السياسية وغير السياسية، ولكنه يطمع إلى أن ينازع الشعر في بعض فنونه التي كانت خاصة به مقصورة عليه، وإذا هو ينازع الشعر في المدح وينازعه في الهجاء وينازعه في الوصف وينازعه في الرثاء ويقهره في بعض هذه الفنون، فما أظن أنه استطاع أن يبلغ من الهجاء ما بلغه الجاحظ مثلًا منه في رسالة التربيع والتدوير، ولم يعرف العرب التمثيل لا لأن التمثيل اليوناني كان وثني النزعة، فقد كانت الفلسفة اليونانية أيضًا منحرفة عما أَلِف المسلمون والمسيحيون من أمور الدين وأولئك وهؤلاء قد عرفوها حق معرفتها، ولكن لسبب يسير جدًّا وهو أن العرب لم يجدوا التمثيل عند الذين عاصروهم من الروم، فقد أعرضت المسيحية عن التمثيل ولم تكن آيات التمثيل اليوناني تعرض على النظارة أو تقرأ في الكتب حين اتصل المسلمون بالروم. ومن أجل هذا حاول العرب أن يترجموا كتاب الشعر لأرسطاطاليس فلم يستطيعوا أن يفهموه على وجهه؛ لأنهم لم يعرفوا من أمر التراجيديا والكوميديا شيئًا ذا بال. وحاول ابن سينا أن يلخص كتاب الشعر فلم يصنع شيئًا مع أنه قد وُفِّق إلى تلخيص الخطابة توفيقًا حسنًا. وليس لذلك سبب إلا أن العرب ومن عاصرهم من اليونان كانوا يتحدثون عن التمثيل كما يتحدث الناس عما لا يحققون.
وأمر العرب في هذا كله كأمر غيرهم من الأمم القديمة. كانت حياتها العقلية كلها شعرًا أول الأمر، ثم نشأ فيها النثر فغلب الشعر شيئًا فشيئًا على فنون القول كلها، وحصر الشعر في فن واحد من الفنون وهو الغناء. فقد كان التاريخ مثلًا أو الحديث عما مضى من أمور الناس يكون شعرًا قصصيًّا، ثم غلب النثر على هذا الفن قليلًا قليلًا حتى أقصى الشعر عنه إقصاء، بل كان تسجيل العلم نفسه يكون شعرًا، واذكر إن شئت قصيدة الأعمال والأيام للشاعر اليوناني القديم أسيودوس. ثم جعل تسجيل العلم يكون نثرًا قليلًا قليلًا حتى استأثر النثر به كله، وأصبح نظم العلم شعرًا شيئًا تعمد إليه الأمم المتحضرة عن إرادة وتكلف ورغبة في تيسير الحفظ والاستظهار على الطلاب الناشئين لا طبيعة سائغة ميسرة.
وكذلك استأثر النثر بالحياة العقلية الإنسانية، ولم يبق للشعر إلا اللون الغنائي من هذه الحياة، على أن النثر كثيرًا ما يزاحمه في هذا اللون أيضًا، حتى اضطر الشعر في العصور الحديثة إلى أن يتحرر أحيانًا من قيوده التقليدية، فيطرح القافية، وييسر الوزن ويبعد عن أصله الموروث، ويدنو من النثر دنوًّا شديدًا.
ومن هنا نشأ ما يسميه الناس شعرًا منثورًا وما يسمونه شعرًا حرًّا، وما يسميه بعضهم شعرًا أبيض. كل هذا جاء من تغلب النثر على الشعر، ومن طموح الناس إلى الحرية الحرة التي لا تحب القيود حتى في الأشياء التي ألفت فيها القيود. فاستحالة التمثيل من الشعر إلى النثر ليست شيئًا غريبًا في الظواهر الأدبية لا بالقياس إلى أمة بعينها، بل بالقياس إلى الأمم كلها.
وقد كان التمثيل الأوروبي في أول أمره أيام النهضة شعرًا؛ لأن الأوروبيين ذهبوا به مذهب القدماء من اليونانيين واللاتينيين فنظموه شعرًا، كما كان أولئك يفعلون، بل تخيروا أكثر الموضوعات التي نظموا فيها الشعر التمثيلي بين الموضوعات التي كان القدماء ينظمون فيها شعرهم، فعرضوا لأساطير اليونان والرومان ولبعض الأنباء التاريخية اليونانية والرومانية، وقلما كانوا يعرضون لغير هذه الأساطير والأنباء من الموضوعات.
وتحرر أصحاب الكوميديا من هذا كله، كما كان القدماء من اليونان والرومان يتحررون منه، فاشتقوا موضوعاتهم من حياة الناس الذين كانوا يعاصرونهم كما فعل موليير في أكثر قصصه، وكما فعل أرستوفان من قبله عند اليونان، ولكن القرن الثامن عشر لم يكد يظل الأدب الأوروبي حتى جعل التمثيل يتحرر من هذه القيود كلها، فعمد إلى النثر مكان الشعر عند كثير من الممثلين، وترك الموضوعات القديمة إلى الموضوعات الحديثة، وما زال يمضي في طريقه هذه ثائرًا على مذهب القدماء حتى انتهى إلى حيث نراه الآن، لا يلم بالشعر إلا قليلًا، وإذا ألم به لم يستأثر بالنظارة إلا أن يكون شعرًا ممتازًا حقًّا، كما فعل إدمون روستان في أواخر القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، وكما يحاول بعض الشعراء الآن أن يفعلوا بين حين وحين.
فالتمثيل الشعري الآن طرفة نادرة يطرف بعض الشعراء الممتازين بها الناس وقتًا بعد وقت، ولا يمنعهم ذلك من أن يعمدوا إلى النثر في بعض القصص؛ لأن النثر قد أصبح اللغة الطبيعية للتمثيل منذ وقت غير قصير.
وقد عرف العرب فن التمثيل بآخرةٍ حين اتصلوا بالأوروبيين ورأوا ملاعبهم وشهدوا تمثيلهم وقرءوا أدبهم التمثيلي على اختلاف ألوانه، فحاول بعضهم أن يدخل هذا الفن في الأدب العربي مقلدين أول الأمر ثم مبتكرين بعد ذلك في ظروف قليلة جدًّا، فنقلوا كثيرًا من القصص الفرنسية والإنجليزية نقلًا مقاربًا أول الأمر ونقلًا دقيقًا في بعض الأحيان، وأخذوا يعرضون هذه القصص على النظارة من الشرقيين وأتيح لهم شيء من النجح. فألف الناس الملاعب، وجعلوا يختلفون إليها وجعل الممثلون يستهوونهم بالشعر والغناء وأشياء أخرى غير الشعر والغناء، والناس يستجيبون لهم مستمتعين بما يعرض عليهم. وبعض الشباب يشغفهم هذا الفن ويستأثر بقلوبهم وأهوائهم، ثم يستهوي ملكاتهم قليلًا قليلًا، فيحاولون أن ينشئوا تمثيلًا عربيًّا أصيلًا. وما أرى أن أديبينا العظيمين الأستاذ محمود تيمور والأستاذ توفيق الحكيم قد أحبا هذا الفن وحاولا أن ينتجا فيه إلا متأثرين بما كانا يشهدان من هذا التمثيل في آخر الصبا وأول الشباب، ثم قرآ وتثقفا وتعمقا هذا الفن وأتيح لهما بعد ذلك ما أتيح من الإبداع والإمتاع.
وثورتنا بالإنجليز في أعقاب الحرب العالمية الأولى هي التي أذكت جذوة التمثيل في مصر ما في ذلك شك، فهي قد أذكت شعورنا بأنفسنا وغضبنا لكرامتنا ومطالبتنا بحقوقنا وذودنا عن حريتنا، وكشفت عن كنوز كانت مخبوءة في أعماق ضمائرنا، وفرضت على كل واحد منا أن يعطي خير ما عنده لنفرض نفسنا على خصمنا ولنشعر العالم بآلامنا وآمالنا وسمونا إلى حقنا في الحياة الحرة الكريمة. وهي قد حولت شوقي من القصر إلى الشعب وأمعنت بحافظ في الإقبال على الشعب يؤثره بخلاصة شعره من دون الأغنياء والموسرين. وهي قد اضطرت شوقي إلى أن يشارك في الحياة الجديدة بلون جديد لفنه الشعري العظيم. أكبرَتْ رأيه في نفسه وأكبرَتْ رأيه في أمته وقوة إيمانه بمواطنيه وسمت به إلى أن يذهب مذهب الشعراء الكبار في الأمم الكبرى، فحاول أن يكون له تمثيل كتمثيل شكسبير وكتمثيل كورني وراسين، وكتمثيل فيكتور هوجو؛ فوضع قَصَصه التمثيلي المأثور.
ولكن شوقي كان صاحب غناء لا صاحب تمثيل، وكان مبتدئًا في هذا الفن التمثيلي؛ فلم يُتَح له من الإتقان إلا ما أتيح للمبتدئين النابهين. وكان تمثيله غناء وقد غنى فيه المغنون بالفعل، وعاش جيل من معاصريه مستمتعًا بغناء عبد الوهاب ومنيرة المهدية لبيته المشهور: أنا أنطونيو وأنطونيو أنا.
وأظهر ما يلاحظ في تمثيل شوقي أنه قصد بفنه إلى موضوعات مصرية يرفع بها من شأن وطنه ويميط بها عنه الأذى كما فعل في كليوبترة وفي قمبيز، وقصد به إلى موضوعات عربية يصور بها مجدًا عربيًّا مؤصلًا ثابت الأسس، ينعم الناس في ظله بالسلم والحب والغناء جميعًا آمنين في استمتاعهم بهذا كله لا يصرفهم عنه خوف أو قلق؛ فأنشأ قصة المجنون، وكان الناس يطربون لغناء شوقي في قَصَصه ذاك أكثر مما يعجبون أو يخلبون بتمثيله. وربما خضع شوقي لتأثير بعض الشعراء الأوروبيين الذين كان يحاكيهم خضوعًا ظاهرًا نلمسه بأيدينا إذا حاولنا أن نحلل قَصَصه التمثيلي ذاك.
والشيء المحقق هو أن شوقي أحدث حدثًا أدبيًّا سيحفظه التاريخ حين طوَّع الشعر العربي للتمثيل، ولكن التاريخ سيحفظ هذا الحدث وحده دون أن يحفظ لشوقي فنًّا تمثيليًّا ممتازًا. سيظل شوقي دائمًا شاعر غناء لا شاعر تمثيل.
وذهب شاعرنا الكبير عزيز أباظة مذهب شوقي نفسه لم ينحرف عنه قليلًا أو كثيرًا إلا بمقدار ما يكون بين شاعرين من اختلاف المزاج وافتراق الطبيعة وتفاوت الأهواء. فشاعرنا عزيز أباظة مغنٍّ سواء أراد ذلك أو لم يرده، وحظه من إتقان التمثيل الخالص محدود جدًّا. يؤمن بذلك من يقرأ شعره ومن يشهد قصصه في ملاعب التمثيل. فقراؤه ونظارته يطربون لجزالة لفظه ودقة معانيه ورقة أسلوبه وحسن تأتيه لما يريد، أكثر مما يطربون لما يحسن من تدبير الحركة ولما يتقن من إجراء الحوار. وشعر عزيز أباظة كشعر شوقي يشغلنا بجماله الخالص عن أشخاصه، فنحن حين نقرأ أو نشهد قصة العباسة لا نحفل بالعباسة نفسها، ولا بالرشيد ولا بجعفر، وإنما نحفل بالشعر الذي يجريه الشاعر على ألسنتهم. وقل مثل ذلك بالقياس إلى قصصه الأخرى ومنها غروب الأندلس. فن غنائي رائع ما في ذلك شك، وتمثيل ساذج يسيرٌ ما في ذلك شك أيضًا. ولمَ لا نقول الحق ونقرر في صراحة أنَّ التمثيل عند شاعرينا الكبيرين شوقي وعزيز وسيلة إلى الغناء، على أنه عند الشعراء المجيدين من الأوروبيين الممتازين غاية يتخذ الغناء أحيانًا وسيلة إليه؟ فليس شكسبير ولا راسين مغنِّيَين في تمثيلهما، وإنما هما ممثلان أولًا يغنيان في مواطن الغناء على حين يغني شوقي وعزيز دائمًا ولا يمثلان إلا قليلًا.
ولا على الشاعرين العظيمين المصريين أن يفوتهما التمثيل، فالتمثيل آخر الأمر أقل خطرًا من الغناء وأهون منه شأنًا. قد استأثر به النثر في هذه الأيام ولم يستطع هذا النثر أن يغلب على الغناء ولا أن يشارك فيه مشاركة ذات بال.
وإذا قلت إن النثر قد غلب على التمثيل فأنا لا أريد على أن أقرر حقيقة واقعة، ولا أريد ولا ينبغي لي أن أريد إصدار حكم يجب أن يخضع له الفن، فليس لأحد من الناس أن يصدر مثل هذا الحكم؛ لأن الفن بطبعه أقوى قوةً وأعز عزةً من أن يخضع لأحكام الناس مهما يكونوا ومهما تكن أحكامهم، وإنما الشاعر ينبوع صفو يعطينا ماءه النمير سواء أردنا ذلك أم لم نرده، ولا على الينبوع أن نقول في هذا الماء الصفو ما نقول، فلن يغير قولنا ولن تغير آراؤنا من طبيعته ولا من طبيعة ما يعطينا. هو حر فيما يعطي، ونحن أحرار فيما نصنع بما يهدي إلينا. هو يصدر عن طبيعته في الإعطاء ونحن نصدر عن طبيعتنا في الانتفاع والاستمتاع.
فليفض علينا شاعرنا الكبير من فنه ما تسمح به طبيعته، وليخلِّ بيننا وبين ما نرى في شعره من رأي وما نصدر فيه من حكم، فهو الممتع دائمًا ونحن المدعوون إلى مائدته الكريمة، وأي بأس عليه من أن نرضى أو نسخط حين نستمتع بما يقدم إلينا من الألوان. أترى الشمس تحفل بنا إن رضينا عن نورها الوضاء أو سخطنا عليه؟
لا بأس إذن على شاعرنا الكبير من أن يقول فنرضى نحن أو نسخط، ونعرف نحن أو ننكر، وليذكر قول رؤبة لبعض اللغويين حين أخذ يجادله في بعض رَجَزه: علينا نقول وعليكم تعربون.