جِدُّ أبي نواس
كنت أكتب عن أبي نواس منذ أكثر من ربع قرن، فضاق كثير من المحافظين بما كنت أكتب عنه وعن أصحابه وبما كنت أصور من حياتهم تلك التي أسرفوا بها على أنفسهم وعلى الناس، لكثرة ما أمعنوا فيه من العبث واللهو ومن الدعابة والفكاهة ومن الاستهتار بالإثم والمجون.
ضاقوا بذلك وأشفقوا منه على أخلاق الشباب في ذلك الوقت، وظنوه جديرًا أن يغري الشباب بالخلاعة، ويجنح بهم إلى ما يفسد المروءة، ويفل الحد، ويصرف عن الجد والعمل والارتفاع عن الصغائر والعناية بالمهم من الأمر، حتى اضطررت في تلك الأيام البعيدة إلى أن أبين لأولئك المحافظين أن أبا نواس على لهوه وعبثه ومجونه كان رجلًا عظيم الخطر في عصره الذي عاش فيه، يسمع لأصحاب الجد من العلماء ويروي عنه أصحاب الجد من العلماء أيضًا. فقد اختلف إلى رجال الحديث فسمع منهم ما شاء الله أن يسمع، واختلف إليه رجال الحديث فسمعوا منه ما شاء الله أن يسمعوا كذلك. وكان الشافعي — رحمه الله — أحد الذين لقوه من هؤلاء ورَوَوْا عنه الحديث كما رَوَوا عنه الشعر. واختلف أبو نواس إلى الفقهاء فسمع منهم وقال لهم، وجالس أصحاب الكلام، وشاركهم في علمهم بالإلهيات ومقالاتهم في أصول الدين، وكان بينه وبين المعتزلة وأبي إسحاق النظام منهم خاصة خصومات وخطوب. ثم جلس إلى علماء اللغة ورواة الشعر ونظر في النحو فأحسن النظر وأكثر الرواية للقدماء. وأثر هذا كله في فنه الشعري حتى قال كثير من أئمة اللغة: لولا إغراق أبي نواس في المجون واستهتاره بالإثم لاستشهدنا بشعره على صحة اللغة والنحو جميعًا، ثم هو بعد ذلك قد اتصل برجال السياسة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم فلقي الخلفاء والأمراء من العباسيين واشتد اتصاله بالرشيد والأمين منهم خاصة ولقي الوزراء والكتاب ورجال القصر على اختلافهم.
وعرف هذه الطبقات كلها من الناس وظفر عندها بالإكبار والإجلال كما تعرَّض عندها لشيء من السخط غير قليل، فقد كره البرامكة وكرهه البرامكة، ونال جوائز الرشيد وذاق سجنه، ونادم الأمين وذاق سجنه كذلك، ورحل بشعره إلى أمراء الأقاليم في شرق الدولة وغربها فمدح أمراء العراق، ومدح أميرًا من أمراء مصر، فلم يكن إذن بالرجل الذي فرغ للإثم والمجون والعبث، بل لم يستغرق الإثم والمجون والعبث أكثر وقته، وإنما كان للجد من حياته نصيب أي نصيب.
ولكن الناس في عصره وفي العصور التي جاءت بعد عصره شغفوا بعبثه أكثر مما شغفوا بجده وصرامته. وليس كل الناس كالشافعي — رحمه الله — يلقى أبا نواس فيأخذ منه خير جده، ويُعرِض عما أسرف فيه على نفسه وعلى الناس.
والناس أبدًا شغوفون بما يسرهم ويلهيهم، معنيون بما يفكِّههم ويسرِّي عنهم، مدفوعون إلى الإغراق في ذلك والتزيد منه والإضافة إليه والمبالغة والإسراف فيما يضيفون، فهم قد تكثروا على أبي نواس فحمَّلوه من الكلام ما لم يقل، وحمَّلوه من الأعمال ما لم يعمل، واخترعوا أشياء يكفي أن ننظر فيها لنسخر منها ثم نقف عندها بعد ذلك، لا لأنها تصور لنا أبا نواس، بل لأنها تصور لنا ناحية من نواحي النفس الإنسانية وهي ناحية الإغراق والغلو، واتخاذ الأحاديث المخترعة وسيلة لا إلى التسلية والتسرية فحسب، بل إلى ما هو أبعد مدى من التسرية والتسلية، إلى شيء من التعبير عن ذات الأنفس والتستر بالأسماء المعروفة عما يضطرب فيها من الخواطر والمعاني والعواطف التي يتحرج الإنسان من أن يجهر بها أو يضيفها إلى نفسه.
فكثير من الناس تمنوا فيما بينهم وبين أنفسهم ألوانًا من الإثم وفنونًا من اللهو لم يتح لهم أن يقارفوها، ولكن نفوسهم تعلقت بها وغلت في مداعبتها، فسروا عنها بهذه الأحاديث التي اخترعوها من عند أنفسهم وأضافوها إلى أبي نواس، وغيره من معاصريه أولئك الماجنين العابثين.
وانظر إلى ما رواه بعض الرواة عن أبي نواس حين وفد على الخصيب في مصر، فقد زعموا فيما زعموا أنه أحب فتى من فتيان القبط والتمس عنده الرضى، فاشترط عليه ذلك الفتى أن يتنصر، ففعل وشارك النصارى في عباداتهم وحفلاتهم، وكرهه من أجل ذلك المتشددون في الدين من أهل مصر فلهج به بعضهم وتعرض لهجائه.
وهذا سخف من السخف ما في ذلك شك، فلم يأتِ أبو نواس إلى مصر تاجرًا ولا عابثًا ولا مبتغيًا للذة السياحة، وإنما وفد على أمير من أمرائها ليمدحه ويأخذ جوائزه، وكان ضيفًا عند هذا الأمير، فلو قد انحرف عن الدين هذا الانحراف الخطير وخرج منه ليدخل في دين آخر، لما وجد الأمير بُدًّا من أن يُجري فيه حكم الإسلام ويعاقبه عقوبة من كفر بعد إيمان.
ولكن أبا نواس قال كثيرًا من الشعر العابث الماجن حين كان بمصر، كما كان يقول ذلك حين كان ببغداد أو بالبصرة أو بغيرها من مدن العراق والحجاز، فتكثر بعض حاسديه ورووا عنه هذا الإثم العظيم، وأكبر الظن أن الحسد هو الذي حملهم على رواية ما رووا، وأن أبا نواس ظفر عند الخصيب بما لم يظفروا به، ونال منه ما لم يطمعوا فيه فضاقوا بمكانه، وقالوا فيه ما قالوا. وما أكثر ما سعى الوشاة بأبي نواس عند الرشيد والأمين وعند وزرائهما واتهموه بالزندقة، فلم يبلغوا مما أرادوا شيئًا؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يقيموا البينة على ما زعموا، ولأن الرشيد والأمين كانا لا يتشددان في طلب الزنادقة وأخذ الناس بالشبهات كما فعل المهدي فأراق كثيرًا من الدماء بغير حقها.
كان الحديث عن أبي نواس إذن في رأي المحافظين منذ ربع قرن أو أكثر من ربع قرن خطرًا على الأخلاق يُخشَى منه على الشباب أن يتورطوا فيما لا ينبغي أن يتورطوا فيه، فأما الآن فقد تعقد أمر أبي نواس تعقدًا شديدًا حقًّا؛ ففيه أو في الحديث عنه خطر على الأخلاق عند بعض الذين لا يتهمون بالمحافظة ولا يحبون أن يتهموا بها، بل يكرهون ذلك أشد الكره وينفرون منه أعظم النفور؛ لأن حياتهم العقلية والأدبية كلها تأباه إباءً شديدًا.
فالأستاذ سلامة موسى مثلًا ليس محافظًا، ولم يعرف بالمحافظة في يوم من الأيام، وإنما كان في طليعة المجددين، ولقي كثيرًا من العنت في سبيل هذا التجديد، وهو مع ذلك يشفق من أبي نواس على أخلاق الشباب وعقولهم؛ لأنه — فيما يرى الأستاذ سلامة موسى — قد استنفد شعره في المجون وفي هذا المجون المنحرف عما يلائم الطبيعة وما ألف الناس من أمورها. ثم يحاول الأستاذ أن يعلل شذوذ أبي نواس هذا فيرده إلى الانفصال في عصره بين الرجل والمرأة. وواضح أن أيسر ما يقال في هذا الرأي أن صاحبه لم يقرأ شعر أبي نواس؛ لأن أبا نواس لم يستنفد شعره في المجون، وإنما قال في فنون الجد أكثر مما قال في فنون الهزل، كما لاحظ الأستاذ العقاد ذلك منذ أيام؛ لأنه قرأ شعر أبي نواس قراءة المستوعب المستقصي، فلأبي نواس في الزهد شعر حسده عليه أبو العتاهية وغيره من أصحاب الزهد، ولأبي نواس في الصيد شعر ما أحسب أن أحدًا من الشعراء سبقه إليه ولحقه فيه، ولأبي نواس بعد ذلك شعره في المدح وشعره في الوصف وشعره في الغزل النقي الملائم للطبيعة وما ألف الناس من أمرها، وله كذلك شعره في الهجاء الذي لا إثم فيه ولا انحراف، وأبو نواس يشارك القدماء والمعاصرين له، والذين جاءوا بعده في وصف الخمر والمضي في التغني بها إلى أبعد الحدود.
وكل هذه الفنون من جد أبي نواس ودعابته ليست خطرًا على الشباب، لا تفسد أخلاقهم ولا عقولهم، وليس يكفي أن يقرأ الشاب وصف الخمر ليفتن بها أو يعكف عليها، وما أكثر الذين يعكفون على الخمر وهم يجهلون قول أبي نواس وغيره فيها من الشعراء أشد الجهل وأبعده مدى! ولعلهم لا يحفظون فيها بيتًا واحدًا قديمًا أو حديثًا شرقيًّا أو غربيًّا. والناس يقرءُون الغزل منذ كان الغزل، فلا يدفعهم ذلك إلى الهيام بالحب أو الفتون بالنساء. والناس يقرءُون المدح فلا يتكلفون أن يمدحوا، ويقرءُون الهجاء فلا يتكلفون أن يهجوا، ويقرءُون الزهد فلا يزهدون، وما أكثر ما قرأ الناس القرآن وسمعوه فلم يصبحوا نُسَّاكًا ولم يخلصوا نفوسهم للدين! وما أكثر ما قرأ المسيحيون الإنجيل فلم يصبحوا قسيسين ولا رهبانًا!
والناس يتغنون بشعر الصوفية من المسلمين والمسيحيين، ويستمتعون بهذا الشعر دون أن يتصوفوا أو يجردوا أنفسهم من الحياة المادية وأثقالها وأوضارها.
وأخرى لم يوفق فيها الأستاذ سلامة موسى، وهي تفسيره شذوذ أبي نواس بما يسميه بالانفصال بين الجنسين، فلم يكن أبو نواس شاذًّا في عصره منفردًا بهذا الشذوذ، وإنما كان واحدًا من كثيرين لا يبلغهم الإحصاء في القرن الثاني والثالث على أقل تقدير، ولم يكن الانفصال بين الجنسين من الخطورة بحيث يظن الأستاذ في ذلك العصر، فما كان أيسر اللقاء بينهما في ظروف الجد والهزل جميعًا! وإذا كان الحرائر في ذلك الوقت أو بعض الحرائر يتشددن في الحجاب أو يُشدَّد عليهن فيه، فقد كانت هناك أجيال من الإماء وأنصاف الحرائر لا يرين في لقاء الرجال حرجًا، ولا يلقين فيه جناحًا.
وربما كان هذا الشذوذ ظاهرة من ظواهر تلك الحضارة المختلطة التي التقى فيها العرب بأجيال من الناس لم يكن لهم بهم عهد فيما مضى من أيامهم، والذي تحررت فيه الأمم المغلوبة من السلطان العربي الخالص، وظفرت فيه بالمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية، فأسكرها الظفر وأبطرها ما أتيح لها من الحرية، وأبطر الأغنياء والمترفين خاصة ما أتيح لهم من الترف والنعيم فتجاوزوا كثيرًا من الحدود التي لم يكونوا يستطيعون أن يتجاوزوها جهرة حين كان السلطان عربيًّا خالصًا. وليس أدل على ذلك من أنك تقرأ شعر الفحول من شعراء العرب أيام بني أمية فلا تراهم يجهرون بوصف الخمر ويتجاوزون الحدود في ذكرها، لا نستثني منهم إلا الشعراء الذين لم يتخذوا الإسلام دينًا والذين لم يعرض لهم المسلمون فيما كان دينهم يبيح لهم من شرب الخمر ووصفها. فالأخطل مثلًا يشرب الخمر ويصفها وينشد وصفها بين يدي الخلفاء والأمراء لا يتحرج من ذلك ولا يرى الخلفاء والأمراء عليه بأسًا فيه؛ لأنه كان مسيحيًّا، تبيح له مسيحيته أن يشرب الخمر ويصفها.
فأما الفرزدق وجرير وأمثالهما فما أشك في أنهم كانوا يشربون الخمر سرًّا حين يتاح لهم شربها. فأما وصفها والإفراط فيه والجهر به فشيء لم يكن يرخص لهم به. وهذا الشذوذ الذي نلاحظه عند أبي نواس وأصحابه من الشعراء والكتَّاب ومن الوزراء وبعض رجال السياسة لم يظهر إلا بعد هذه الثورة التي حررت الأمم المغلوبة، وسوَّت بينها وبين العرب في الحقوق السياسية والاجتماعية. فأما قبل ذلك فلا أعرف أن شاعرًا عربيًّا جاهليًّا أو إسلاميًّا انحرف عما ألف الناس في سيرته أو قوله، ولا نعرف أن خليفة أو أميرًا أو رجلًا من رجال السياسية والحكم تورط في شيء من هذا الإثم أو دفع إليه، هي إذن آفة طرأت بعد الثورة العباسية لا قبلها. وقد بدأت دلائل الاستهتار بشرب الخمر ووصفها تظهر في أواخر العصر الأموي حين استهتر الوليد بن يزيد أثناء ولايته للعهد وأثناء خلافته القصيرة باللهو وجهر بالمجون، وتغنى بذلك في شعره خارجًا عما أَلِف بنو أمية وعما أَلِف العرب من الجد والوقار. وقد أدى الوليد ثمن هذا الاستهتار وكان دمه هو هذا الثمن.
فأما الشذوذ الذي نراه عند أبي نواس ومعاصريه فلم يظهر، ولم يجهر به أحد إلا بعد أن قامت دولة بني العباس وتغلب العنصر الأجنبي على كثير من أمور السلطان.
وظاهرة أخرى ليس من ملاحظتها بُد وهي أن الشعراء الذين استهتروا بالمجون واللهو وجهروا بالخلاعة والإثم كانوا جميعًا من غير العرب. كانوا من الفرس أو من أشباه الفرس، من أولئك الموالي الذين أتقنوا اللغة العربية وبرعوا فيها وتفوقوا في فنون الأدب العربي على العرب أنفسهم. ولم يكونوا سكارى بهذا الظفر الذي أتيح لهم حين سوِّي بينهم وبين العرب فحسب، بل كانوا سكارى بتفوقهم على العرب في أخص ما امتازوا به وهو الشعر. وماذا تقول في عصر ينبه فيه بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد؟ فإذا ظهر بين هؤلاء شاعر ينتمي للعرب فنسبه مغمور وعروبته مطعون فيها.
فقد كان هذا الشذوذ إذن دخيلًا في الحياة العربية لأسباب كثيرة أشرت إلى بعضها، ولا أطيل باستقصائها الآن. وأخص ما امتاز به هذا العصر هو هذا التحرر الذي يتجاوز به أصحابه حدود الحرية المألوفة، فبشار مثلًا لم يكن شاذًّا كأبي نواس وأصحابه ولكنه كان مستهترًا بالعبث والمجون مغرقًا في شرب الخمر ووصفها مستخفًّا بالحرمات حتى خيفت منه الفتنة على النساء. وهو في الاستهتار بالغزل المؤنث كأبي نواس وأصحابه في الاستهتار بالغزل الشاذ والمذكر كما كان القدماء يقولون.
ونتيجة هذا كله تقتضينا أن نرد هذا الغلو في المجون والاستهتار باللذات لا إلى أسباب تتصل بأشخاص الشعراء والماجنين المستهترين، فهم لم ينفردوا بشيء من ذلك، ولا إلى أسباب تتصل بالاختلاط والانفصال بين الجنسين؛ بل إلى أسباب تتصل بالسياسة قبل كل شيء، تتصل بهذه الحرية التي أتيحت لأمم سبقت العرب إلى الحضارة وإلى الحضارة المترفة التي بلغت قبل انتصار العرب درجة من الضعف والتهالك والانحطاط لم تعرفها في أيامها الأولى. فلما انتصر العرب وفرضوا سلطانهم ونظامهم الديني الصارم على هذه الأمم المتحضرة التي ضعفت سياستها وأدرك أخلاقها ونُظُمها الاجتماعية الفساد والانحلال، خضعت هذه الأمم للسلطان الجديد وأسرَّت غيظها وبغضها وأسرَّت مع الغيظ والبغض فساد أخلاقها وانحلال نظمها الاجتماعية. حتى إذا كانت الثورة العباسية وانتصر المغلوبون تحققت المساواة بينهم وبين الغالبين، وانطوى العرب على أنفسهم، واستقر كثير منهم في الجزيرة العربية والأمصار الإسلامية مغلوبين بعد أن كانوا غالبين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، أظهرت هذه الأمم ما أسرَّت، وأعلنت ما أخفت، وجهرت بما كانت تجمجم به ولا تكاد تبين عنه من بغض العرب والخروج على ما جاءوا به من نظام وسياسة ودين أيضًا.
وكذلك ظهرت الشعوبية وظهرت معها عقدها الكثيرة والتواءاتها المختلفة، واستأنفت الأمم المغلوبة حياتها تلك المنحلة التي مازجها الفساد. وهذا هو الذي يفسر شعوبية بشار ومعاصريه واستهتارهم بالخروج على النظام والانحراف عن الدين، يجهرون بذلك ولا يخفونه ويتعرضون بذلك لسخط السلطان وبطشه، ويفسر كل ما نراه عند أبي نواس، وحماد عجرد، ومطيع، ومسلم، والرقاشي، وأمثالهم من الشعراء والكتَّاب ومن الوزراء ورجال السياسة، وقد احتاجت هذه الثورة الجامحة إلى وقت غير قصير لتثوب إلى شيء من الرشد، وتئُوب من جموحها الذي جار بها عن القصد، وتصير إلى شيء من الاستقرار والالتئام والانسجام — إن صح هذا التعبير — بين القديم والجديد أو بين ما جاء به العرب وما كان مخبوءًا في نفوس هذه الأمم من الخير والشر جميعًا. وكان القرن الثالث أو أكثره على الأقل هو العهد الذي تحقق فيه هذا الاستقرار.
مهما يكن من شيء فقد كان أبو نواس شاعرًا كغيره من الشعراء الذين عاصروه، أتيح له التفوق والامتياز فكلف به الناس وافتنوا في فهمه وتفسيره وحملوا عليه ما حملوه، وأضافوا إليه ما أضافوا، وجعلوا منه شخصية أشبه بشخصيات الأساطير منها بأي شيء آخر، فليس شعر أبي نواس أشد خطرًا على أخلاق الشباب إذن من شعر بشار أو شعر مطيع لو أتيح لشعر بشار وشعر مطيع أن يُحفَظا ويشيعا كما حُفظ شعر أبي نواس وأشيع. وليس شذوذ أبي نواس بدعًا من شذوذ أمثاله من المترفين في ذلك العصر وفي غيره من العصور، وينبغي أن يرد هذا الشذوذ إلى الإسراف في الترف، وإلى الأسباب الاجتماعية التي تأتي من ضعف الأخلاق وانحلال النظم أكثر من رده إلى الأسباب التي تتصل بالأفراد. ثم أصبح أبو نواس بعد ذلك خطرًا على التفكير العالمي نفسه لهذه الأسباب التي أشرت إليها من جهة ولما بينته في حديث الأسبوع الماضي من جهة أخرى ولأننا بعد ذلك ألفنا أن ندرس الشعراء والأدباء فنبحث عن أشخاصهم، وربما ألهانا ذلك عن ألوان أخرى من البحث هي أعظم خطرًا من أشخاص الشعراء وهي ظروف البيئة التي يعيشون فيها.
فالشاعر أو الكاتب لا يستمد أدبه من شخصه وحده، ولو استطعت لقلت إنه لا يستمد شخصيته من شخصه وحده، وإنما يستمد أكثر فنه وأكثر شخصيته من أشياء أخرى ليس له حيلة فيها، وليس لطبيعته ومزاجه وفرديته فيها كل ما نظن من التأثير. وأكاد أقول مع القائلين إن الفرد نفسه ظاهرة اجتماعية، فهو لم يأتِ من لا شيء وإنما جاء من أسرته أولًا، ولم يكد يرى النور حتى تلقته الحياة الاجتماعية فصورته في صورتها وصاغته على مثالها وأخضعته لمؤثراتها التي لا تحصى، فعنصر الفردية فيه ضئيل لا يكاد يُحَسُّ إلا أن يمتاز هذا الفرد، وامتيازه نفسه يرد في كثير من الأحيان إلى الحياة الاجتماعية التي أنشأته.
كل هذا يُظهِر في وضوح وجلاء أن التفسير النفسي لأبي نواس وغير أبي نواس من القدماء الذين لم يبقَ لنا منهم إلا فنونهم، فيه كثير من الشطط وهو إلى الظن والفرض أقرب منه إلى اليقين والتحقيق.
وانظر مثلًا إلى هذه القصة التي يرويها القدماء عن أبي نواس حين جلس مع جماعة من أصحابه وأخذوا في بعض لهوهم، فذكر أصحابه انحرافهم بهذا اللهو عن الدين وإسرافهم على أنفسهم، وأبو نواس ساكت لا يقول شيئًا، فلما سألوه عن سكوته أنشد هذين البيتين:
فضاق أصحابه بهذا الشعر ولاموه عليه أشد اللوم وأعنفه وأنذروه بالقطيعة فأظهر الندم وقال:
فأول شيء ألاحظه في هذه القصة هذا الانتقال المفاجئ بين هذين الفنين من الشعر. فأبو نواس في البيتين الأولين يائس من البعث والنشور لا يرجو ثوابًا ولا يخاف عقابًا، لم يصح عنده من أمر الدين شيء، بل لم يصح عنده من عاقبة الحياة إلا الموت والقبر. ثم هو في الأبيات الأخرى مؤمن ممعن في الإيمان يلوم المتهاون في أمر دينه ويحبب إليه الطاعة والتقوى، ويقطع بالثواب والعقاب، ويذكر الجنة والحور العين والطريق إلى الظفر بنعيم الآخرة، ثم يجزم في البيت الأخير بأن الدين صحيح كله.
وأكبر الظن أن الشعر صحيح قاله أبو نواس، ولكن القصة صنعت وتكلفها صانعوها تكلفًا ليظهروا أن مجون أبي نواس كان يدفعه إلى الشطط، وأنه كان يرجع إلى نفسه فيردها إلى القصد والاعتدال، وأكبر ظني أن أبا نواس قال البيتين الأولين في ساعة من ساعات لهوه وعبثه أو في ساعة من ساعات ضيقه وسأمه، وقال الأبيات الأخرى في ساعة من ساعات رجوعه إلى نفسه وشعوره بالحاجة إلى شيء من الندم والتوبة والاعتذار.
وأكاد أقطع بأن شعر أبي نواس كله إنما كان شعرًا تمليه عليه حياته كما كان يحياها، تضعف نفسه وتنقاد لأهوائه فيلهو ويسرف في اللهو ويزيِّنه لنفسه وللناس، ثم يثوب إلى رشده ويكره من نفسه ضعفها وتقصيرها وقصورها عن الجد فيندم وييأس ويزين الندم والتوبة لنفسه وللناس. وربما قال الشعر في المجون واللهو لمجرد الاستجابة للفن، فأتقن ما أراد أن يقول وصدَّق الناس ما قال من ذلك. ثم ربما قال الشعر في الزهد مستجيبًا للفن أيضًا لا لنزعة دينية خاصة ولا لرغبة في التوبة ولا لطمع في الثواب، بل لأنه شاعر ليس غير.
وصدق الله العظيم حين وصف الشعراء بأنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. والعبرة التي استخلصتُها من شعر أبي نواس حين درسته أيام الشباب، وما زلت أستخلصها منه إلى الآن هي أن شعر أبي نواس إن صور شيئًا فإنما يصور استخفافًا بالحياة وسخطًا عليها وجنوحًا إلى التشاؤم يذهب بتشاؤمه مذهب الاستمتاع بالحياة ما أتيح له الاستمتاع؛ لأنها أهون عليه من أن يأخذها على أنها جد.
والناس يذهبون في التشاؤم — كما تعلم — مذهبين: مذهب الاستخفاف والاستهانة والاستعانة على الحياة بما فيها من الطيبات، ومذهب البغض والخوف والضيق والاستعانة على الحياة بالزهد فيها والانصراف عنها والارتفاع عن نقائصها. فأبو نواس عندي متشائم ولكن تشاؤمه باسمٌ، وأبو العلاء متشائم ولكن تشاؤمه عابسٌ، أو قل أبو نواس متشائم يقيم تشاؤمه على الاستخفاف والعبث، وأبو العلاء متشائم يقيم تشاؤمه على الجد والحذر، وكلاهما يحيا الحياة كما ينبغي أن يحياها الناس، وكلاهما يسرف على نفسه وعلى الناس في الهزل أو في الجد، وخير الأمور أوساطها.