مرآة الغريبة
ذكرها الشاعر العربي القديم ذو الرمة في بيت من شعره أخشى أن أرويه فيراه القراء غريبًا مسرفًا في الغرابة، وإن كنت لا أرى فيه من الغرابة شيئًا، ولكن المثقفين في هذه الأيام قد أَلِفُوا اليسر وآثروا اللين والسهولة وقرب المأخذ في كل ما يقرءُون ويكتبون، وأكثرهم يقرءُون الصحف الجادة والهازلة، وهي تحدثهم بأيسر الألفاظ نطقًا وأقربها معنًى، وقليل منهم يقرءُون الكتب — وأي كتب؟ — الكتب التي تتحدث إليهم بلغة الصحف ولا تكاد تُعنَى بالتحرير ولا بالتخير ولا بالتجويد ولا بالإبعاد في لفظ أو معنًى. قد أَلِفوا ذلك وأحبوه وأصبح من أعسر العسر تحويلهم عنه، فكيف إذا رويت لهم بيتًا من شعر ذلك الشاعر الذي عاش في القرن الأول ومات في أوائل القرن الثاني للهجرة، وكان مع ذلك بدوي الحياة بدوي التفكير والتعبير. وهو يصف في هذا البيت ناقته بأن لها خدًّا واضحًا ناصعًا سهلًا، كأنه مرآة الفتاة الغريبة قد ألمت بقوم لا يحفلون بها ولا يلتفتون إليها ولا ينصحون لها في جمالها ورونقها، فهي لا تعتمد عليهم ولا تطمئن إليهم ولا تستشيرهم فيما تتخذ من زينة أو ما تكون عليه من هيئة، وإنما تعتمد على مرآتها فهي تجلوها دائمًا وتزيل عنها كل ما يعلق بها من صدأ أو غبار، فمرآتها مجلوة أبدًا ناصعة أبدًا، تريها صورتها كأدق ما تكون، فهي مرآة صادقة لا تُخفي على صاحبتها شيئًا من قبح أو جمال ومما ينفِّر العين أو يدعوها.
وقُرَّاؤنا والحمد لله حُرَّاص على السهولة واليسر، يكرهون التكلف ويشفقون من كل ما يجهد أو يكد، وهم جديرون أن يسألوني عن هذه المرآة البدوية الغريبة ما خطبها وما شأنها، وأي صلة بينهم وبينها، وما لي أحدثهم عنها، وأثقل عليهم بذكرها، وأستقصي لهم أخبارها؟
ولكني قد عوَّدت القراء أن أكون معهم عندما أحب أنا لا عندما يحبون هم، ولست أكره لهم أن يتعبوا شيئًا وأن يفكروا قليلًا؛ فقد أحب أن تشعر مصر في هذا العالم الذي تعيش فيه وتقضي بين أهله من حياتها الخالدة الخصبة هذه الأيام الشداد، بأنها غريبة بين الأمم لا ناصح لها في أمرها، فهي خليقة ألا تعتمد على ما يقال لها أو يقال عنها في شرق الأرض وغربها؛ لأن هذا العالم لا يحفل بها إلا من حيث أنها تستطيع أن تنفعه أو تضره، فهو لا يحفل بها لنفسها، وهو من أجل ذلك إن قال لها الحق يومًا فقد يقول لها غير الحق أيامًا، فهي في حاجة إلى أن تتخذ مرآة كهذه المرآة البدوية التي ذكرها ذلك الشاعر القديم، وأن تجلوها دائمًا وتزيل عنها ما قد يصل إليها من صدأ أو غبار، وتنظر فيها حين تصبح وحين تمسي وتنظر فيها بين ذلك؛ لترى نفسها وترى ما يختلف عليها من الأطوار، فتُصلح من أمرها بالزيادة والنقص وبالتغيير والتبديل وبالتقويم والتعديل. وأي شيء يمكن أن تكون هذه المرآة غير ما تنشر الصحف من أحاديث، وما يذيع المؤلفون من كتب، وما يحدث من أصحاب الفن من آثار؟ فهل تستطيع مصر في هذه الأيام أن تقول إن بيدها هذه المرآة النقية الصافية الصادقة التي ترى فيها نفسها كما هي، والتي تحدِّثها عن أمرها كله بالحق الذي لا شك فيه؟
أحقٌّ أن الصحافة المصرية هي مرآة الغريبة التي تنظر فيها مصر حين يُسفر الصبح وحين يُقبل المساء؟ هيهات تحول بينها وبين ذلك نوائب وخطوب، فهي تصور من حياة مصر ظاهرًا، ولكنه ظاهر رقيق جدًّا لا عمق له وهو في الوقت نفسه كثيف جدًّا لا يكشف مما وراءه عن قليل أو كثير. إما أنَّ الصحافة تنقل إلينا أنباء الشرق والغرب، وإما أنها تنقل إلينا أنباء الحكام حين يغدون ويروحون، وأنباء ما يصدرون من أمر ويشرعون من قانون، وأنباء الساسة والقادة حين يقيمون وحين يظعنون، فهذا حق. وإما أن هذا كله يظهرنا على حقائق أنفسنا ودقائق ضمائرنا ويصور لنا ما تدور به أحاديثنا حين يلقى بعضنا بعضًا، وما يخطر لنا حين نقرأ ما يُذاع فينا من الأنباء وما تضطرب به نفوسنا حين نفكر، فهذا هو الذي أشك فيه الشك كله. ما أكثر الصدأ وما أكثف الغبار الذي يغشى مرآة الصحافة! إني لأقرأ صحفًا كثيرة في أول النهار وآخره، وفي أول الأسبوع وآخره، وفيما يكون بين يوم الأحد ويوم السبت من أيام؛ فلا أحس حياة مصر ولا أجد روحها ولا حرارتها، وإنما هي عنوانات أمرُّ بها سريعًا، وموضوعات أُلمُّ بها إلمامًا قصيرًا ثم أتجاوزها إلى ما وراءها، ثم أتركها وأفزع منها إلى كتاب قديم أو حديث فأنسى فيه حياتنا الحاضرة، وما أحب أن أنساها، فهي خليقة أن نقف عندها فنطيل الوقوف، وأن نفكر فيها فنطيل التفكير، وأن نعتبر بأحداثها فنحسن الاعتبار.
وهل تستطيع مصر أن تقول إن ما يُصدر أبناؤها في هذه الأيام من الكتب والأسفار هي هذه المرآة، مرآة الغريبة التي ذكرها الشاعر العربي القديم؟ هيهات، إني لألتمس هذه الكتب والأسفار فلا أجدها، وأكاد أعتقد أن المصريين المعاصرين من الشيوخ والشباب قد صُرفوا عن التأليف والكتابة صرفًا، أتُراهم شُغلوا عن الكتابة والتأليف بأحداث الحياة وخطوبها فهم مشغولون بما ينوب، معنيون بما يلم، لا يكادون يفرغون لأنفسهم، ولا يكادون يخلون إلى فنهم؟ أم تراهم قد صدئت نفوسهم كما صدئت المرآة التي ينظرون فيها فهم لا يجدون ما يكتبون كما أنهم لا يجدون ما يقرءُون؟ أم تراهم يلقون من المصاعب في نشر الكتب وإذاعتها ما يصدهم عن الكتابة والتأليف؟ أم تراهم يكتبون ويؤلفون ولكنهم يدخرون ما يكتبون ويؤلفون وينتظرون به أيامًا خيرًا من هذه الأيام يُتاح فيها النشر وتتاح فيها القراءة؟ لا أدري، ولكني أستطيع أن أقول إن الكتب المصرية الحديثة التي يمكن أن نقف عندها وننظر فيها فنرى حياة مصر المعاصرة من قريب أو من بعيد أقل من أن تُحصى، والمطابع مع ذلك تعمل في الليل والنهار وتخرج كتبًا كثيرة منها القديم الذي يُنشر لأول مرة، والقديم الذي يُعاد نشره، والحديث الذي يُترجم عن هذه اللغة الأجنبية أو تلك. فأما الذي يُعرب عن النفس المصرية المعاصرة ويصور شعورها بالحياة وردها على أحداث الحياة ويصور آمالها وآلامها فهو أقل من أن يُحصى. وهذا الأقل ضعيف لا شك في ضعفه، فاتر لا شك في فتوره، لا تكاد تقبل عليه حتى تنصرف عنه، ولا تكاد تنظر فيه حتى تفزع منه إلى كتاب قديم أو حديث. وأريد بالكتب الحديثة هذه التي يحملها إلينا البريد أو تحملها إلينا التجارة من أوروبا وأمريكا لا من مصر ولا من الشرق العربي.
مصر إذن غريبة في هذا العالم المعاصر ترى نفسها في مرايا غريبة ليست صادقة ولا ناصحة، فهي تعيش في نور أشبه بالظلمة لا تكاد تعرف من أمر نفسها شيئًا. فأي غرابة في أن تأتي من الأعمال ما لا يلائم منفعتها ولا طبيعتها ولا مكانتها ولا ما ينبغي أن يكون للعالم فيها من رأي؟ وأي غرابة في أن ترى الأشياء فلا تحسن العلم بها ولا الحكم عليها ولا الرأي فيها؟ صحافة تسيطر عليها الظروف ولا تسيطر هي على الظروف، بل لا تكاد تُوجه نفسها فضلًا عن أن تُوجه قراءها، وقرائح مجدبة أو موهوبة قد حيل بينها وبين الإنتاج وهي لا تعرف ما يحول بينها وبين الإنتاج، وشعب يُصبح ويُمسي فيقرأ كلامًا لا يغذو عقلًا ولا قلبًا ولا خيالًا، ولا يجلو ذوقًا ولا طبعًا ولا يرهف حسًّا ولا شعورًا، وإنما هو أشبه شيء بهذا الكلام الذي شبهه أبو العلاء برَحى تطحن قرونًا، وإذا طحنت الرَّحى قرونًا فهيهات أن تنتج طحنًا يغني عن الجائع الذي يكاد يهلكه الجوع.
سيقول قائلون إني متشائم مسرف في التشاؤم، وعلم الله ما تشاءمت قط وما كنت إلا متفائلًا، ولكني رجعت إلى الأدب فأردتُ أن أقرأ فلم أر أمامي إلا كتب القدماء وكتب المحدثين من الأمريكيين والأوروبيين. وأردت أن أقرأ كتبًا مصرية فأعدت قراءة كتاب لأديب معاصر نشر منذ سنين. وأردت أن أقرأ في المجلات فأشفقت من إضاعة الوقت، والتمست الروح والراحة والغذاء عند قدماء العرب وعند الكتَّاب الأجانب. أردتُ أن أعرف مصر المعاصرة، أردتُ أن أعرف نفسها التي تُحس وتشعر وتعقل وتفكر فلم أجد إليها سبيلًا. إني لأعلم كما يعلم الناس جميعًا أن في مصر شعبًا يضطرب في شئون الحياة، وأن له حكومة قائمة وعمَّالًا يدبرون مرافقه، وأن له صحفًا تُقرأ وجامعات ومدارس يختلف إليها الطلاب والتلاميذ، ويوشكون أن يهجروها لقرب الامتحانات، وأن هذا الشعب يختلف عليه الليل والنهار كما تختلف عليه الفصول، وتحدث فيه الأحداث وتلم به الخطوب؛ أعرف هذا كله كما يعرفه الناس جميعًا، ولكني أريد أن أعرف الأثر الأدبي والفني والعقلي لهذا كله في نفس هذا الشعب فلا أجد إلى معرفته سبيلًا.
ما أسعد الشعب الذي يملك مرآة الغريبة! هذه المرآة الصادقة الصافية التي ينظر فيها فيرى نفسه كما هي، يراها ثابتة ويراها متجددة، يرى شخصيته الخالدة ويرى ما يختلف عليها من الصور والأشكال. لقد كنت أعيبُ على أدبائنا منذ أكثر من عشرين سنة أنهم يطيلون النظر إلى نفوسهم في المرآة فيتحدثون عنها ويكثرون الحديث، فأصبحت الآن لا أستطيع أن أعيب عليهم حتى نظرهم في مرآتهم الخاصة.
إنهم لا ينظرون في أدبهم ولا يتحدثون عنه كأنهم قد هجروه هجرًا غير جميل. وإذا لم ينظر الأدباء في مرآة أنفسهم ولم ينظروا في مرآة وطنهم ولم يصنعوا لوطنهم هذه المرآة، فماذا يصنعون؟
ما أشقى الشعب الذي ليست له هذه المرآة، مرآة الغريبة التي ذكرها ذلك الشاعر العربي القديم لا لشيء إلا لأن أدباءه قد قنعوا من العيش بأنهم يعيشون!