من مشكلات أدبنا الحديث
الأدباء قلقون ما في ذلك شك، لا يكاد أحدهم يلقى صاحبه حتى يتحدث إليه بما يجد في نفسه من هذا الإشفاق الذي كان غامضًا أول الأمر، ثم أخذ يظهر شيئًا فشيئًا حتى أصبح واضحًا كل الوضوح، وانتهى بأصحابه إلى شيء من التشاؤم، كان العهد قد بعُدَ به حينًا من الدهر؛ فكثير من الأدباء لا يجدون الوسيلة إلى الإعراب عن ذات أنفسهم، يخطر لهم الخاطر فيملأ عليهم نفوسهم، ويستغرق تفكيرهم، ويثير فيهم الشوق إلى الكتابة، ثم يدفعهم إلى الكتابة دفعًا، فيكتبون.
والأديب حين يكتب مخدوع عن نفسه دائمًا، يزعم أنه لا يحفل بالناس ولا يفكر فيهم، ولا يكتب إلا ليرضي قلبه وعقله وذوقه، وطبعه الذي لا يستطيع أن يمتنع على الإنتاج حين يُدعى إليه، وهو يُخيل إلى نفسه أن الأدب نفحات طبيعية تصدر عن أصحابها لأنها لا بد لها من الصدور، كما أن الضوء يصدر عن الشمس لأنها لا تملك إلا أن تضيء، وكما أن العبير يصدر عن الزهرة لأنها لا تملك إلا أن تنشر العبير، ولا على الشمس ولا على الزهرة ألَّا يُنتفع بما تنشران من ضوء أو شذًى.
كذلك يخدع الأديب نفسه ويُخيِّل إليها، ولكنَّه لا يكاد يكتب، بل لا يكاد يأخذ في الكتابة حتى يحس الحاجة الملحة إلى أن يقرأ الناس ما يكتب. فمن طبيعة نفسه أن يكتب، ومن طبيعة نفسه أن يتصل بالناس ليقرءُوه ويشاركوه في الحس والذوق والشعور.
كلا الأمرين طبيعة فيه؛ يشغله فنه أول الأمر عن غيره من الناس والأشياء، فإذا أتمه لم يسترح حتى يُظهِر الناس عليه وحتى يستمتعوا به أو يزورُّوا عنه وينكروه.
والأديب ليس محتاجًا إلى أن يرضى الناس عنه فحسب، ولكنه محتاج إلى أن يرضوا عنه ويسخطوا عليه، وإلى أن يعرفوا من أدبه وينكروا، وإلى أن يثنوا عليه وينقدوه. هو في حاجة إلى أن يتصل بالناس؛ لأنه يكتب لهم كما أنه يكتب لنفسه. واتصاله بالناس هذا قد أصبح مشكلة معضلة لا يكاد يجد لها حلًّا، ولا يكاد يعرف لها شبيهًا في تاريخ الأدب على طوله واختلاف بيئاته وعصوره.
فقد كان هذا الاتصال فيما مضى من الزمان ميسرًا إلى حد بعيد، لم يكن على الأديب إلا أن ينشئ أدبه ثم يدفعه إلى أحد النُسَّاخ يذيعه مخطوطًا بتلك الوسائل الضئيلة البطيئة التي كانت تتاح للناس قبل أن تنشأ المطبعة وتحدث ما أحدثت من اليسر والعسر جميعًا.
فأما الآن فليس من سبيل إلى أن يكتفي الأديب بهذه الوسيلة، بل ليس من سبيل إلى أن يفكر فيها، فالناس لا يقرءُون الكتب المخطوطة إلا أن يكونوا من العلماء الذين وقفوا أنفسهم وجهودهم على أن يحيوا التراث القديم بالدرس والبحث والتحقيق، والطبع والنشر آخر الأمر.
فليس بد للأديب إذن من أن يثب إلى هذا اليسر العسير الذي نسميه الآن الطبع والنشر. هو يسرٌ حين يتاح للأديب أن يجد من يطبع وينشر، وهو العسر كل العسر، والشقاء كل الشقاء، حين لا يُتاح الطبع والنشر للأديب.
وقد اقتضى يسر الطبع والنشر أن تنشأ المجلات الخاصة، ينشر فيها الأدباء ما يكتبون من هذه الآثار الفنية القصار التي أصبحت لونًا من ألوان الأدب الحديث. واقتضى يسر الطبع والنشر أن تنشأ الصحف السيارة وأن تتنافس فيما بينها وأن تتخذ الأدب وسيلة من وسائل هذا التنافس، فعمد إليها الأدباء ينشرون فيها آثارهم هذه القصار، ومضت أمور الأدب على هذا النحو مسمحة مياسرة، ولكن الأمور تتعقد فجأة، فإذا الطبع والنشر يحتاجان إلى المال، وإلى المال الذي ينفق في كثير من التقدير والاحتياط. والمال يدعو المال، فمنفقه محتاج إلى أن يسترده رابحًا فيه، وهو من أجل ذلك محتاج إلى رضى الذين ينتفعون بإنفاقه ليستزيدوا منه، فيكون أدعى للربح وأسرع إلى الغنى. فليس بد من تملق المستغلين والتماس ما يرضيهم ويلائم حاجتهم ومنافعهم، وإذا احتاج الأديب إلى أن يكون وسيلة لربح الطابع والناشر ووسيلة بعد ذلك أو قبل ذلك لإقامة الأود وإرضاء الحاجة اليومية إلى القوت، فقد تعرَّض الأدب إلى محنته الكبرى، وهي المحنة التي يشقى بها الأدباء عندنا في هذه الأيام.
وكان الأدباء فيما مضى من الزمان يتخذون الأدب فنًّا؛ أي يتخذونه غاية لا وسيلة … ينتجون لأن طبائعهم تضطرهم إلى الإنتاج، ولأنهم لا يملكون إلا أن ينتجوا، ولم يكونوا يعتمدون على الفن ليعيشوا، وإنما كانوا يتخذون إلى العيش وسائل أخرى قلما تتصل بالأدب من قريب أو بعيد. كان منهم الذين يعملون بأيديهم، وكان منهم الذين يتصرفون في التجارة، كانوا على كل حال يضطربون في شئون الحياة كما يضطرب فيها غيرهم من الناس، وربما وجد الأديب أو صاحب الفن من الملوك والأمراء وأصحاب الثراء من يريحهم من هذا العناء، فيفرغون للأدب، ويشترون رضى هؤلاء السادة بما يهدون إليهم من ألوان المدح والثناء. منهم من يختص هؤلاء السادة بأيسر ما عنده فيبيعهم الثناء بالمال، ويؤثر نفسه بخير ما عنده كما كان المتنبي يصنع في كثير من الأحيان، فيهدي أكثر ممدوحيه غُثاء شعره، ويختص نفسه بالغناء الرائع يصور فيه حزنه وألمه وفخره ورضاه وسخطه وما شاء الله من ألوان العواطف والشعور. ومنهم من ينفق أكثر ما عنده في إرضاء سادته أولئك، فيصبح أكثر أدبه ثناءً ومدحًا يُجوِّد فيه ما وسعه التجويد ويقصر فيه عن الغاية حين يضطر إلى التقصير.
ولكن عصر هؤلاء الملوك والأمراء والسادة قد انقضى إلى غير رجعة، وأصبح الأدب مضطرًّا إلى أن يعتمد على نفسه لينشر أولًا، ويقدر بعد ذلك ويقوت أصحابه في كثير من الأحيان إذا لم يضطربوا في الحياة كما كان يضطرب فيها كثير من أسلافهم، وكما يضطرب فيها غيرهم من الناس.
وكان الأدب فخورًا بهذا الاستقلال الذي أتيح له وبأنه قد استطاع أن ينصرف عن هذا الثناء الذي تنطق به الألسنة ولا تعتقده القلوب … ولكنه ينظر الآن فيرى أن له ملوكًا وسادة من طراز جديد، وأنه مضطر إلى إرضاء هؤلاء الملوك والسادة إن أراد أن ينشر ويقدر ويقوت الأدباء. وهؤلاء الملوك والسادة هم القراء الذين يجب أن يشتروا ليرضى الناشر والطابع ويُقبلا على النشر والطبع، فإذا لم يشتروا أو لم يشتروا إلا قليلًا، أعرض الناشر والطابع عن الأدب إلى أشياء أخرى أجدى عليهما وأنفع لهما … ونظر الأديب فإذا أدبه بضاعة بائرة لا سبيل إلى أن تصل إلى أيدي الناس، فضلًا عن أن تصل إلى قلوبهم وأذواقهم وعقولهم.
والملوك الجدد أصعب مراسًا وأعسر إرضاء من الملوك القدماء؛ فقد كان الملك فردًا يحب طائفة من الشعراء أو يستأثر بشاعر واحد، وكان من اليسير أن يعرف الأدباء ما يرضيه وما يسخطه، وأن يتوخوا مواضع الرضى ويتجنبوا مواضع السخط … فأما الآن فهؤلاء الملوك لا يُحصَون؛ لأنهم شعوب، وليس من اليسير أن يتبين الأدباء ما يسوءهم وما يسرهم، وما يرضيهم وما يسخطهم. وقد كان توخي إرضاء الملوك في العصور القديمة مفسدًا للأدب، وإرضاء الجماهير في العصور الحديثة أشد له إفسادًا.
والأديب لا يكره شيئًا كما يكره تملق القراء وتوخي رضائهم. وفي الأدب كثير من الاعتزاز بالنفس والثقة بالفن والإيمان بالجمال، وهو يرى نفسه غاية لا وسيلة، وهو يحب أن يرقى إليه قراؤه حيث هو، ولا يحب أن ينزل إليهم حيث هم، وليس معنى هذا أنه يستعلي عليهم أو يزدريهم أو يزوَرُّ عنهم، وإنما معناه أنه يهبط إليهم فيشتق منهم مادته ويجني منهم حلوهم ومُرَّهم، ويستخلص منهم صفوهم وكدرهم، ثم يعود إلى نفسه فيخلو إليها ويستخرج نتيجة هذا كله رائقة صفوًا يعرضها على الناس في الصورة التي يحبها هو، لا في الصورة التي يحبونها هم.
فهو يعاشرهم ويخالطهم ويمازج حياتهم ممازجة دقيقة كل الدقة، خفية كل الخفاء، عميقة كل العمق، ثم ينفصل عنهم فيعود إلى قمته تلك التي يستحبها ولا يستطيع أن يسوغ نفسه إلا فيها … ثم يعود إليهم بعد ذلك صورة رائقة شائقة يذوقها منهم من تهيأ لذوقها، ويسيغها منهم من أعد نفسه لإساغتها.
ونتيجة هذا كله أن الأدب الصحيح متصل بالناس أشد الاتصال، منفصل عنهم أشد الانفصال … يشتق نفسه من أنفسهم اشتقاقًا، ثم يعود إليهم بعد تكوينه خلقًا جديدًا يجب أن يتهيَّئُوا لقبوله ويعدُّوا أنفسهم للرضى عنه أو السخط عليه.
وكذلك يجد الأدب نفسه في هذا الوطن الغريب: هو من الناس لأنه ذوب نفوسهم وخلاصة حياتهم، وليس هو من الناس لأنه روح الأديب الذي أنتجه، وصورة عقله وقلبه وعصارة طبعه وذوقه، فهو دانٍ ناءٍ وهو قريب بعيد. وهو من أجل ذلك لا يحفل ولا ينبغي أن يحفل برضى الناس عنه أو سخطهم عليه، وإنما شأنه كشأن أبي العلاء حين يقول:
وإذن فالأدب في حاجة إلى أن يستقل، وإلى أن يكون حرًّا لا يتملق ولا يترضى ولا يسعى إلى الناس، وإنما يسعى الناس إليه. والأدب بعد هذا كله، ومن أجل هذا كله، في حاجة إلى أن يستأني ويتمهل ويظهر حين يريد أن يظهر لا حين يريده الناس على الظهور. والأدب لا يبغض شيئًا كما يبغض العجلة، ولا يفسده شيء كما يفسده الإسراع … هو متمهل حين يبحث ويستقصي، وحين يشتق مادته ويستخلص معانيه، وهو متمهل مستأنٍ حين يؤلف ما جمع وما استخلص، ويلائم بين أجزائه. وهو متمهل مستأنٍ حين يصوغ هذا كله، ويضفي عليه الصورة التي يجب أن يضفيها عليه، وهو يحب أن يعيد النظر إلى نفسه مرة ومرة ومرات. وهو يريد أن ينظر إلى نفسه في المرآة، فيصلح هنا ويغير هناك، ويزيد في موضع، وينقص في موضع آخر، ويحاول أن يرضى عن نفسه قبل أن يظهر للناس. وليس شيء أشق عليه من أن يرضى عن نفسه؛ لأنه عسير لا يحب المياسرة، ولأنه ينظر دائمًا إلى مُثُل رفيعة، بعيدة المنال لا يكاد يدنو منها حتى تنأى عنه، ولا يكاد يبلغها حتى تفوته.
ولأمرٍ ما قيل إن بعض شعرائنا الجاهليين كانوا يُنشئون القصيدة ثم يعرضونها على أنفسهم ثم يطيلون النظر فيها والإصلاح لها، لا يُظهرونها للناس إلا بعد أن يفرغوا لها حولًا كاملًا … ولأمر ما قيل إن شاعرًا فرنسيًّا معاصرًا أنشأ قصيدة من قصائده ثم فرغ لتنقيحها وتهذيبها وقتًا طويلًا، حتى اختطفها منه بعض أصحابه اختطافًا فأذاعها في الناس، ولولا ذلك لما أخرجها إليهم، وقد وُجد عنده بعد وفاته مئات من نسخ التجارب لهذه القصيدة.
والأدباء يختلفون بطأً وسرعةً في إنتاج ما ينتجون، لكن البطء والأناة والتحفظ والتمهل هي الخصال الأساسية للأديب الجدير بهذا الاسم.
فليس الأدب إذن من هذه البضائع التي تستجيب في يسر لما تحتاج إليه التجارة من السرعة والانتظام، وهو من أجل ذلك لا يستطيع أن يتوخى إرضاء الذين يستهلكونه، وهو من أجل ذلك مُعرَّض بطبعه للكساد، إلا أن يكثُرَ أَكْفَاؤه من القرَّاء وأن يجدوا الحاجة المُلجِئة والشعور المُلِحَّ والضرورة التي تدفعهم إلى القراءة دفعًا؛ هنالك يستطيع الأدب أن يجد في نفسه ما يحتاج إليه من العزة، وأن يجد من نفسه الاستجابة إلى ما ينبغي له من الأناة والتمهل ليتمكن من التجويد والإتقان.
من أجل هذا كله نفهم في غير مشقة هذا القلق الشائع بين الأدباء والذي يشغلهم عن الإنتاج، ويضطرهم إلى كثير من التساؤل، ويورطهم في كثير من الحيرة.
فالحياة الحديثة تفرض عليهم كثيرًا من المشكلات، وتثير في نفوسهم ألوانًا من العواطف وضروبًا من الشعور. وهم يجدون الحاجة إلى أن يصوروا ما يحسون وما يشعرون.
وقديمًا عرضت الحياة الخاصة والعامة على الأدباء ألوان العواطف وضروب الشعور ووجدوا الحاجة إلى الإنشاء فأنشئُوا، وإلى الغناء فغنوا، وإلى إعلان الرضى والسخط والاكتئاب والابتهاج فأعلنوا من ذلك كله ما أرادوا. لم يكونوا في حاجة إلى أكثر من أن يطلقوا ألسنتهم وأصواتهم بالغناء فيسمع لهم الناس، قبل أن تشيع القراءة، ثم لم يكونوا في حاجة إلا إلى أن يعمدوا إلى القلم والقرطاس ليكتبوا فيقرأ الناس بعد أن شاعت الكتابة والقراءة. فأما الآن فهم يستطيعون أن يطلقوا ألسنتهم وأصواتهم فلن يسمع لهم أحد غير أنفسهم، وهم يستطيعون أن يعمدوا إلى القلم والقرطاس وأن يكتبوا ما يحبون فلن يقرأ لهم غير أنفسهم وغير ذوي خاصتهم من الصديق. هم مضطرون إلى أن يلجئُوا إلى المطبعة وإلى الناشرين، وما أكثر المطابع وما أكثر الناشرين! ولكن الوصول إلى تلك وإلى هؤلاء دونه أهوال لا تقل مشقةً وخطرًا عن تلك الأهوال التي ذكرها أبو العلاء في بيته المشهور:
وقد يخدع الناشر عن نفسه فينشر ما يقدم إليه الأديب ثم يلتمس له القراء فلا يجد إليهم سبيلًا، إما لأنهم لا يحبون أن يقرءُوا، وإما لأنهم لا يستطيعون أن يشتروا ما يعرض عليهم، وإما لأنهم يجهلون ما يُنشر بين حين وحين لأن الناشر لا يملك وسائل الإعلان أو لا يريد أن ينفق ما ينبغي من المال ليتاح له الإعلان.
وإذا نُشِر الكتاب ثم لم يُقرَأ شقي به الأديب الذي أنفق جهده ووقته وحرص على أن ينفع الناس فحيل بينه وبين ما أراد، وشقي به الناشر الذي أنفق في نشره المال وعقد به الآمال فضاع عليه ما أنفق وذهبت آماله مع الريح وكرِهَ أن يُلدَغ من جُحر مرتين.
وكانت القراءة والكتابة — فيما مضى من الزمان — كما كان الأدب والعلم والثقافة، وقفًا على قلة من الناس هم الذين يعنون بذلك ويفرغون له أو يمنحونه أجزاء من أوقاتهم تقصر أو تطول؛ فكان من اليسير على الأديب أن يبلغ طبقة القراء في غير مشقة ولا عسر، وإنما هم نسَّاخ يكتبون وورَّاقون يبيعون، فأما الآن فقد كثر الكتَّاب والقراء وسيزدادون كثرةً من يوم إلى يوم، وشاع الأدب والثقافة والعلم وستزداد شيوعًا من عام إلى عام، وأصبح الوصول إلى طبقات القرَّاء والمثقفين على اختلاف حظوظهم من القراءة والثقافة شاقًّا عسيرًا، يحتاج من الوسائل والأداة إلى ما لا يُتاح إلا بعد الجهد والتكلف.
أضف إلى كل هذا أن الحياة الحديثة تتعقد من يوم إلى يوم وتشغل الإنسان عن نفسه أكثر وقته، فهو في حاجة إلى العمل وجه النهار، وهو في حاجة إلى الراحة بعد العمل. فإذا أخذ قسطه من الراحة، فما أكثر ما يدعوه إلى اللهو ويحبب إليه الفراغ؛ فهذه الأندية التي يلقى فيها الناسَ ليقول لهم ويسمع منهم، وهذه القهوات العامة التي يجلس فيها ليرى الذاهبين والجاثين ويلقي كلمة هنا ويسمع كلمة من هناك، وهذه الدُّور التي تدعوه إلى السينما أو إلى التمثيل أو إلى ما شئت من ألوان العبث … كل ذلك يستغرق من وقته آخر النهار وصدرًا ممتدًّا من الليل. فإذا عاد إلى داره وثابت إليه نفسه كانت حاجته إلى الراحة أشد من حاجته إلى القراءة، فإن وجد من نفسه نشاطًا للقراءة، فإنما هو النشاط للقراءة اليسيرة التي لا تشق ولا تجهد ولا تحتاج إلى روية وتفكير.
والأدب يكره اليسر في الإنتاج وهو يكره اليسر في الاستهلاك أيضًا، وهو يريد من الأديب أن يستأني في الإنشاء، ويريد من القارئ أن يتأنى في القراءة، فهو جهد مشترك يجب أن يحمل عبئه المُنتِج والمستهلك جميعًا. فإذا أُتيحت للرجل المثقف وسائل القراءة اليسيرة أو الثقافة السهلة بعد ما بذل من الجهد والعناء طول النهار وصدرًا من الليل، أحب ذلك ومال إليه. وما هي إلا أن يمد يده ويمس بعض الأزرار فإذا الراديو يغرقه بفنون من الجد والهزل والموسيقى والغناء، وما هي إلا أن يمد يده إلى صحيفة من هذه الصحف الكثيرة التي تعينه في رفق وتسلية على انتظار النوم، أو تدعو إليه النوم فيستجيب لدعائها في سرع سريع.
فأين يقع الكتاب المتقن الممتع الذي بذل فيه منتجه ما بذل من الجهد، واحتمل في تأليفه ما احتمل من العناء، وأَرِق فيه ليله وأنفق فيه صفوة نهاره؟ أين يقع هذا الكتاب من كل هذا اليسر المريح، ومن كل هذا الإغراء الذي يصعب الامتناع عليه؟ هذه بعض المشكلات التي يشقى بها الأدب في هذه الأيام، وهي ليست مقصورة على مصر ولا على البلاد العربية ولكنها شائعة في أقطار الأرض كلها، غير أنها في مصر وفي البلاد العربية أشدُّ شدة وأعنف عنفًا؛ فالقرَّاء في شرقنا العربي — على كثرتهم الآن — ما زالوا قلة قليلة بالقياس إلى شعوب هذا الشرق، والمثقفون منهم ثقافةً تهيِّئهم لقراءة الأدب الصحيح والانتفاع به والاستمتاع بروعته وجماله أقل من القليل كما يقال. فأي غرابة في أن يتردد الناشرون مخافة أن يتعرض مالهم وجهدهم للضياع؟ وأي غرابة في أن يسوء ظن الأديب بالأديب؟ فإذا كان الأمر كذلك في بلاد الغرب على كثرة قرائها وشيوع الثقافة العميقة بينهم، فأجدر أن تكون الشكوى في بلادنا أشد لذعًا وأمض وقعًا منها في تلك البلاد.
والأمر لا يقف عند هذا الحد من الصعوبة والعسر، فقد اختلطت القيم وتشابهت، وعميت حقائقها على الناس في هذه الأيام، وكان حظنا من هذا الاختلاط أعظم من حظ بلاد الغرب لقلة الثقافة العميقة المتينة بين قرائنا، فكثُرَ بيننا أولئك الذين يطلقون الأحكام إطلاقًا ويرسلونها إرسالًا لا يتعمقون ولا يتدبرون؛ لأن وسائل التعمق والتدبر تعوزهم فهم يحتاجون إلى علم بحقائق الأشياء أكثر مما أتيح لهم أن يعلموا ليروا ويفكروا ويستقصوا قبل أن يطلقوا ما يطلقون من الأحكام، وقبل أن يرسلوا ما يرسلون من الأحاديث.
فمنهم من يرى أن الأدب عندنا قد ضعف وتهافت لأنه قديم قد بَعُدَ عليه العهد، ولأن أصحابه الذين ينتجونه يعيشون في عصور جديدة بالقياس إليهم، لم يألفوها، وهي لا تلائم طبائعهم، فهم غرباء في هذه العصور قد طالت عليهم أعمارهم وآن لهم أن يميتوا أنفسهم قبل أن يدركهم الموت، فيأخذوا أنفسهم بالصمت ويصدوها عن الإنتاج الذي لا يلائم البيئة الجديدة التي لا تألفهم ولا يألفونها. ولا يقول هؤلاء الناس لأنفسهم إن هؤلاء الأدباء هم الذين أنشئُوا البيئة الجديدة حين أحدثوا ما أحدثوا في الأدب من تطور عميق واسع بعيد المدى، فهم ليسوا غرباء عن هذه البيئة؛ لأنها بيئتهم التي صنعوها بأيديهم وأرادوها لأنفسهم ولأبنائهم، وإنما تعقدت أمور الحياة في هذه البلاد كما تعقدت في غيرها من أقطار الأرض، فصعب الاتصال بين الأدب وعامة الناس؛ لكثرة ما طرأ من وسائل التيسير على الناس فيما يقرءُون ويسمعون، وفيما يثقفون به أنفسهم من طريق النظر والسمع والقراءة اليسيرة الخاطفة الرخيصة التي لا تكلف الناس من الجهد العقلي ومن فراغ البال ما تكلفهم قراءة الأدب الرفيع. ومنهم من يقول إن الناس جميعًا في حاجة إلى أن يقرءُوا ويفهموا ويذوقوا ويستمتعوا بالجمال الأدبي، فيجب أن يكون الأدب قريب التناول يستطيع كل إنسان أن يذوقه ويستمتع به، وليس كل الناس قد تعمق اللغة وعرف من أسرارها ودقائقها ما يمكنه من إساغة هذا الأدب الذي يحتفظ بجمال الصورة ورونق الأسلوب، ويحرص على أن يتخير المعاني الكريمة ويؤديها بالألفاظ العذبة الرائعة التي يحسن وقعها في السمع وموضعها في القلب.
فينبغي أن يكون الأدب شعبيًّا يفهمه ذو الثقافة الممتازة وذو الثقافة المتوسطة وذو الثقافة الضئيلة، ولا ينسون إلا شيئًا واحدًا هو أن الأدب فن رفيع. والفن الرفيع لا ينزل، وإنما يرقى إليه طلابه ومحبوه. وليس الأدباء مكلفين أن يعلِّموا الناس ويبلغوا بهم من التعليم والثقافة إلى حيث يستطيعون أن يذوقوا الآداب الرفيعة والفنون الجميلة، وإنما يُطلَب ذلك إلى الذين يقومون على شئون التربية وأمور التعليم. وكل ما يُطلَب إلى الأديب ألا يكون أدبه ممعنًا في الغرابة متعمدًا للغموض، وألا يؤدَّى في ألفاظ وأساليب لا تعيش في هذه الأيام، وإنما كانت تعيش في العصور القديمة البعيدة العهد. فلا ينبغي لمن يكتب الآن أن يتكلف مذهب ابن المقفع، أو طريق الجاحظ، أو أسلوب الحريري والبديع الهمذاني، ولا ينبغي له أن يرهق الناس من أمرهم عسرًا فيفرض عليهم الرجوع إلى المعاجم في كل سطر.
فالجمال لا يكون في غرابة اللفظ وخشونته، ولا في خفاء المعنى وغموضه، ولا في التواء الأسلوب وتعقُّده، وإنما الجمال شيء آخر يناقض هذه الخصال كل المناقضة ويخالفها أشد الخلاف. ولا على الأديب إذا أدى أدبه في هذه اللغة اليسيرة في غير ابتذال، السهلة في غير إسفاف، الرصينة في غير إغراب … لا على الأديب ألا يفهمه الذين لم تكمُل أداتهم من المعرفة، ولم يَعظُم حظهم من الثقافة، وإنما على هؤلاء أن يكملوا معرفتهم ويعظموا حظوظهم من الثقافة، شأنهم في ذلك شأن ذلك الذي قال لأبي تمام ذات يوم: لمَ لا تقول ما يُفهَم؟ فأجابه أبو تمام: ولمَ لا تفهم ما يقال؟
ولا تعاب الصورة الرائعة لأن غير المبصرين لا يرونها، ولا تعاب الموسيقى الممتازة لأن الذين فقدوا السمع لا يسمعونها. فكيف بالذين يتعمدون ألا ينظروا ويتعمدون ألا يصغوا، ويريدون أن يُلقَى جمال الفن في أذواقهم وقلوبهم إلقاءً دون أن يتكلفوا الاستمتاع به؟
ويزعمون أن أدب الثورة لم يوجد بعد مع أن الثورة قد شبَّت منذ أكثر من عام، كأن الأدب شيء يكفي أن يقال له كن فيكون، أو أن يقال له تغير فيتغير بعد يوم وليلة. إنما تغير الثورة أول ما تغير نظم الحكم وأوضاع الحياة العامة، وما يحتمل التغيير من الصلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الناس. فأما الطبائع والنفوس والأذواق والعقول فيحتاج تغييرها إلى وقت طويل جدًّا لا يحصى بالعام وبعض العام، وإنما يحصى بالأعوام الطويلة المتتابعة. والذين يقولون هذا الكلام ينسون أو يجهلون أن الأدب يمهد للثورة وينشئها ويشب جذوتها في النفوس بما يلقي في قلوب الناس من الآراء الجديدة، وبما يصور لعقولهم من القيم المستحدثة، وحين ينقل أذواقهم من طور إلى طور، وحين يبغض إليهم القديم من أوضاعهم الاجتماعية ويدفعهم إلى تغيير هذه الأوضاع. فإذا شبت الثورة كان شبوبها دليلًا على أن الأدب قد أدرك النجاح وظفر ببعض غاياته. ثم تعمل الثورة بعد ذلك في الأدب عملًا بطيئًا مستأنيًا متصلًا، فتغيره بعد حين يقصُر أو يطول. ويكفي أن تذكر أن الإسلام لم يغير الشعر العربي الجاهلي تغييرًا خطيرًا إلا بعد ظهوره بنصف قرن، وأن الثورة العباسية كانت نتيجة الأدب الأموي، ولم تُنشِئ أدبها العباسي الخالص إلا بعد أكثر من نصف قرن.
وقل مثل ذلك في الثورة الفرنسية، مهَّد لها أدب القرن الثامن عشر، ولم تُنشِئ أدبها إلا في أواسط القرن التاسع عشر. وقل مثل ذلك فيما شئت من الثورات، فالذين كانوا ينتظرون أن يصبحوا في الخامس والعشرين من شهر يوليو سنة ١٩٥٢ وبين أيديهم أدب جديد يلائم الثورة ويطابقها؛ يخطئون أشد الخطأ وأشنعه. وحسْبُ الأدب أن ينظر فإذا الثورة تلائمه كل الملاءمة وتطابق ما كان يصوِّر للناس من المُثُل العليا في الحياة العامة على اختلاف فروعها. إنما الأدباء قوم يحلمون، والثورة تعبير وتفسير لأحلامهم. وستبعث الثورة في نفوس الأدباء أحلامًا أخرى أجمل من أحلامهم الأولى، وستعبِّرها الثورة وتفسرها بما تحدث من تطور وما تبدع من نظام.
كذلك تمضي حياة الناس، لا سبيل إلى تغيير أسلوبها ولا إلى تغيير ما رسمت الطبيعة لها من طريق، فالذين يذكرون قدم الأدب وغرابته في البيئة الحديثة، والذين يذكرون صعوبة الأدب وارتفاعه على الطبقات القارئة، والذين يعيبون الأدب بأن الثورة لم تنشئه، إنما يقولون بغير تدبر ويرسلون أحكامهم في غير روية ولا أناة ولا تعمق لحقائق الأشياء. وحقائق الأشياء تدل في غير غموض ولا التباس على أن الحياة الإنسانية الحديثة قد أثارت للأدب الإنساني كله على اختلاف مواطنه وبيئته مشكلات كثيرة صوَّرنا بعضها آنفًا وما يزال بعضها الآخر في حاجة إلى التصوير. والأدب يشقى بهذه المشكلات في كل مكان ويلتمس لها الحلول. ونشعر نحن بهذه المشكلات أكثر مما يشعر بها غيرنا من الأوروبيين والأمريكيين؛ لأن أدبنا الحديث ما زال في شبابه، وقد طرأت له هذه المشكلات قبل أن يُمكَّن له في الأرض، ولأن قراءنا قلة، ولأن المثقفين بين هؤلاء القراء أقل من هذه القلة جدًّا، ولأن مصاعب الطبع والنشر ومشكلات السينما والراديو وما يشبههما من الملهيات والمغريات أيسر من الأدب تحصيلًا وأقرب منه منالًا.
فلا تقل إن الأدب الحديث ضعيف، ولا تقل إنه غريب قد نبت به الدار، ولا تقل إنه غير ملائم لطبيعة الذين يقرءُونه، ولكن قُل إنه مُمتحَن بطائفة من المشكلات أكثرها مشترك بينه وبين الآداب الأخرى، وبعضها الآخر عارض لا يلبث أن يزول حين تَصلُح الحياة الاقتصادية ويُنشر التعليم وتصل المعرفة والثقافة إلى أعماق الشعب.
إذا قلت هذا لم تَعْدُ الحق ولم تتجاوز الصواب.