الأدب والحياة أيضًا
وكذلك غضب الغاضبون، وثار الثائرون، وتساءل المتسائلون؛ منهم من أعلن ذلك في الفصول الطوال والقصار، ومنهم من استخفى بذلك يتحدث به إلى الرفيق والصديق، ومنهم من كتب إليَّ في بعض ذلك الكتب ومن سألني عن بعض ذلك في التليفون، وهذا كله ليس شيئًا يسيرًا مما أردت إليه حين تحدثت عن الأدب والحياة، فقد أردت إلى أن يستيقظ النائم، ويتنبه الغافل، ويخرج الهادئ من هدوئه، ويزعج المطمئن الراضي عن اطمئنانه ورضاه … فما أعرف شيئًا أضرَّ بالحياة العقلية وأدفعَ لها إلى البلادة والجدب من هذا الذي كاد شبابنا وشيوخنا من الأدباء والمثقفين يتورطون فيه من الجمود والخمود والركود، والرضى بما كان، والاطمئنان إلى ما هو كائن، والاستخفاف بما يمكن أن يكون …
وقد تعودت دائمًا أن أُوثر سخط العقول على رضاها، وأن أحب لها القلق وأكره لها ما يمكن أن تضطر إليه من هذا الأمن المخيف الذي ينتهي بها إلى الفتور وإيثار الدعة، والاطمئنان الذي يحبب إليها الراحة ويغريها الكسل ويزين لها الاستسلام والتسليم أيضًا.
وما أعرف أني رضيت عن شيء منذ سنين كما رضيت في هذا الأسبوع عن بعض الأحاديث التي انتهت إليَّ بالتليفون، والأسئلة التي وصلت إليَّ في الرسائل، والأسئلة التي وُجِّهت إليَّ في الصحف وفي «الجمهورية» خاصة … فكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن في حياتنا العقلية شيئًا من أمل لم يفتر بعد ولا ينبغي أن يدركه الفتور.
كان هذا بعض ما أردت إليه، لا كل ما أردت إليه. فإني لا أقنع بالأمل ولا أكتفي بالرجاء، فالآمال تكذب وتصدق والرجاء ينجح ويخيب، وإنما أريد أن ينتهي الأمل إلى عمل، وأن يؤدي الرجاء إلى الجهد والعناء، وإلى الجد والكد، وإلى تجديد الأدب بالمعنى الدقيق الصحيح لهذه الكلمة، بالمعنى الذي لا يقوم على إرسال الأحكام الغامضة وإطلاق الكلام الذي لا محصول له ولا تحقيق فيه.
وأحب أن يطمئن الأساتذة الذين يضعون أنفسهم موضع الريبة ويظنون أني أردتهم أو أردت بعضهم حين كتبت ما كتبت، فإني لم أتحدث عن كاتب بعينه، ولم أفكر في هذا الكاتب أو ذاك، وإنما أردت إلى هذه النزعة المبهمة العامة التي أخذت تظهر وتشيع منذ حين، والتي تدعو إلى أشياء لا تحققها ولا تعرف لها حدودًا، وإنما تصور شعورًا غامضًا بالضيق وطموحًا غامضًا إلى شيء من السعة والإسماح، فتتعجل وتقضي قبل أن تحقق، وتقطع في الأمور قبل أن تستبين حقائقها، وتدعو فيما تدعو إليه إلى أن يكون الأدب في سبيل الحياة دون أن تحقق معنى هذا الكلام. فالأدب ليس وسيلة ولا ينبغي أن يكون وسيلة، والأديب لا ينشئ أدبه ليحقق هذا الغرض أو ذاك ولا ليبلغ هذه الغاية أو تلك، وإنما الأدب غاية نفسه والأديب يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب.
فأما أن يُسخَّر الأدب ليكون وسيلة من وسائل الإصلاح أو سبيلًا من سبل التغيير في حياة الشعوب، فهذا تفكير لا ينبغي أن نساق إليه ولا أن نتورط فيه. وليس معنى هذا أن الأدب بطبعه عقيم، وأن الأديب أثِرٌ بطبعه، ولكن معناه أن الإصلاح والتغيير وتحسين حال الشعوب وترقية شئون الإنسانية أشياء تصدر عن الأدب صدورًا طبيعيًّا كما يصدر الضوء عن الشمس، وكما يصدر العبير عن الزهرة، وكما تثير الروضة في نفسك ما تثير من الشعور بالجمال؛ فضوء الشمس لا يصدر عنها لتحقيق الأغراض وبلوغ الغايات التي تحققها أنت وتبلغها به، وإنما يصدر عنها بطبيعته وتنتفع أنت به، وتستمتع به أيضًا، وتحقق به أغراضك، وتبلغ به غاياتك، وتوجهه من هذا كله إلى ما تريد وإلى ما تستطيع؛ لأنك تجده يغمرك ويتاح لك، ويهديك ويتيح لك ما تجد فيه من النفع.
والزهرة لا تنشر عَرْفها وشذاها لتتملق منك هذا الحس الذي رُكِّب في غريزتك.
وهي لا تتألق بجمالها ونضرتها وروائها وبهجتها لتتملق فيك حسًّا آخر رُكِّب في طبيعتك.
بل هي لا تعرفك وعسى ألا تعرف نفسها، فهي أجدر ألا تريد لنفسها عطرًا أو جمالًا أو رواءً، فضلًا عن أن تريدك بهذا كله أو بعضه.
وقل مثل ذلك في أشياء كثيرة في هذه الطبيعة يخيِّل غرور الإنسان للإنسان، وحرص الإنسان على منفعته، وتهالكه على ما يرضيه وإشفاقه مما يسوءه أنها تؤدي إليه ما تؤدي خدمةً له وإرضاءً لحاجاته وتحقيقًا لمنافعه.
مع أنها تجهله كل الجهل، وما أرى أنه سيتاح لها في يوم من الأيام أن تعرفه أو تفرض له وجودًا.
وماذا تريد من الإنسان الذي استقر في نفسه على اتصال القرون وتعاقب الأجيال أنه سيد، وأنه لا بد له من مسود، وأن أغراضه وغاياته ومنافعه ينبغي أن يذلل لها الكون؟ وإذا كان هذا رأيه في الطبيعة، وإذا كان استغلاله للطبيعة قد خيل له أنه سيدها ومالكها وأنها خادمته بل أَمَته، يتصرف فيها كما يتصرف السيد الملك، وأتاح له عقله بما اهتدى إليه من استكشاف واستغلال لبعض موارد الطبيعة أن يزداد إمعانًا في هذا الغرور وأن يفتن بنفسه فتونًا لا حد له، حتى يلقى في روعها أنه يستطيع بعد أن أتيح له استغلال الطبيعة أن يستغل الإنسان أيضًا ويسخِّره لأغراضه وغاياته ما صلح منها وما لم يصلح، ما كان منها مستقيمًا وما كان منها معوجًّا شديد الاعوجاج، ورحم الله أبا العلاء الذي أنفق حياته يدعو الإنسان إلى شيء من التواضع والقصد، ويذكِّره إن نفعته الذكرى بأن الطبيعة ليست ملكه وبأنه ليس فيها إلا شيئًا ضئيلًا، بل يذكره بأن النحل لا تنتج العسل له، ولا تفكِّر فيه حين تنتج العسل، وإنما تنتجه لنفسها ولأنها لا تجد من إنتاجه بدًّا.
غرور الإنسان وامتلاؤه بنفسه واعتداده بقوته خيَّل إليه أن لكل شيء غاية إنسانية يجب أن يبلغها الإنسان، ثم لم يلبث هذا الخيال أن أصبح في نفسه حقيقة وأن ملأه إعجابًا وتيهًا.
فسخَّر من حياته هو كل شيء لتحقيق أغراضه وإرضاء حاجاته كما سخَّر الطبيعة لإرضاء هذه الحاجات وتحقيق تلك الأغراض، فلا قيمة للأدب إلا إن حقق نفعًا، ولا قيمة للعلم إلا إن أرضى حاجة. ثم تجاوز الغرور به كل طور فظن أن النفع والغاية يجب أن يكونا في تيسير شئونه المادية وتطويع حياته التي يحياها كل يوم، فالأدب يجب أن يقصد به إلى الإصلاح وإلى الترقية وإلى تغيير حياة الناس ونقلها من طور إلى طور.
والعلم يجب أن ينتهي إلى الإنتاج المادي الذي يخرج ما في هذا العلم من ثمرات تجعل العيش يسيرًا وثيرًا. لكل شيء ثمن، وثمن مادي يجب أن تأخذه الأيدي وأن تتناوله الأفواه وأن تحتويه الجيوب. هذه قيم أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها وليدة الغرور وسوء التحقيق للأشياء، وأنها تنتهي بالإنسان إلى مادية منكرة توشك آخر الأمر أن تجعله أداة إنتاج لا أكثر ولا أقل.
وكذلك يجب على الأديب أن ينشئ من الأدب ما يذلل الحياة وييسِّر وسائلها ويتيح للجائع أن يشبع، وللعاري أن يكتسي، وللمريض أن يصح، وللظمآن أن يجد الري، ويصبح الأدب إذن أداة من أدوات وزارة الشئون الاجتماعية تستعين بها على تحقيق ما أُنشئت له من الأغراض.
والتعليم كله يجب أن يكون أدوات للإنتاج الذي يملأ الأرض مالًا وخصبًا وثراءً بعد أن مُلئت عدمًا وجدبًا وفقرًا.
والغريب أن الأدب في نفسه يحقق للناس كثيرًا من منافعهم ويرضي كثيرًا من حاجاتهم ويلائم دائمًا — كما قلت من قبل — حياة الناس؛ لأنه صورتها التي تشتق منها وتعود إليها. ولكن الناس في هذه الأيام يتعجلون الأمور ويملأ عليهم الشبع والري وامتلاء الأيدي ويُسر الحياة نفوسهم وعقولهم وقلوبهم فيطلبون إلى الأدب منافعهم في إلحاح مزعج مريب مع أنه يحقق لهم هذه المنافع كما حققها لهم دائمًا، ولكنه يحققها عفوًا على غير تعمد لها ولا قصد إليها. وهؤلاء الذي يلحون على الأدب في أن يكون سبيلًا إلى تيسير الحياة هم أشبه بمن يلح على الشمس في أن تجعل ضوءها أكثر نفعًا وأعم فائدة، إلا أن الشمس لا تحفل بمن يلح عليها في ذلك إن وجد؛ لأنها لا تسمعه ولا تعقله، على حين أن الأدب أو الأديب على الأقل يسمع ويعقل ويقدر الأمور ويفسد عليه هذا الإلحاح أمره ويوشك أن يغلَّه ويرده إلى الجدب ويمنعه من الإنتاج.
فالأدب لا يكره شيئًا كما يكره أن يكون وسيلة، والأدباء لا يكرهون شيئًا كما يكرهون أن يكونوا أدوات تُستغَل وتستذل وتُبتغى بها المنافع والحاجات.
وقد قلت في الحديث الماضي إن المادحين من الشعراء والكتَّاب أيضًا في العصور القديمة لم يكونوا يتخذون الأدب وسائل إلى السادة، وإنما كانوا يتخذون السادة وسائل إلى الإنتاج الأدبي ينتفعون بشوقهم إلى المدح ورغبتهم فيه وبذلهم المال للظفر به. والشيء المحقق أن أبا نواس من شعراء العرب وبندار من شعراء اليونان وهوراس من شعراء الرومان وراسين أو شكسبير من شعراء الفرنسيين والإنجليز لم يكونوا هم وأمثالهم يتخذون الملوك والسادة غايات لأدبهم، وإنما كانوا يطلبون عندهم المال والعون لينفقوهما فيما تتيح لهم الحياة التي كانوا يحيونها وكانت تيسر لهم الإنتاج الأدبي الذي نجد فيه الآن وستجد فيه الأجيال المقبلة غذاء القلوب والأذواق والعقول.
كل ما يؤخذ به هؤلاء السادة الذين يدعون إلى أن ينشأ الأدب في سبيل الحياة هو أنهم يريدون أن ينزلوا بالأدب فيجعلوه وسيلة بعد أن كان غاية، وينكرون أن يكون الأدب أول ما يكون وقبل كل شيء غذاء للأرواح، توشك المادية الحديثة الجامحة أن تضطرهم إلى جعل الإنسان كله أداة وأن تضطرهم إلى أن ينكروا ما في الإنسان من روح، من حقه أيضًا أن يقدم له الغذاء الذي يلائمه.
ليست الحياة شبعًا بعد جوع، وسعة بعد ضيق، وغنًى بعد فقر فحسب، ولكنَّ فيها شيئًا آخر أرقى من هذا كله وأقوم من هذا كله؛ هو هذا الروح الذي يحب الخير لأنه الخير ويحب الجمال لأنه الجمال، والذي ينبغي أن يكون الشبع والري والفن وسائل تمكِّنه من أن يجد غذاءه الفني الرفيع. إن الذين يتخذون المادة غاية، أو يتعرضون لاتخاذها غاية يهدرون ما في الإنسان من كرامة، وسيهبطون به إلى لون من ألوان الضعة لا ينبغي أن يهبط إليه.
ولست أسمي أحدًا بعينه ولا أفكر في أحد بعينه، وإنما أذكر هذه النزعة التي أخذت تعُم وتشيع والتي أشرت إليها منذ حين. وهذه النزعة لم تأتنا من غير مصدر، ولم تثُرْ في نفوس أصحابها عبثًا أو فجاءة، ولكنها نزعة معروفة قد أصبحت رسمية في غير موطن من مواطن الأرض، وكثر الدعاء إليها في غير مواطنها حتى أصاب كثيرًا من الأمم شيء من شررها.
وكل ما أتمناه هو ألا تتأصل فينا هذه النزعة التي لا يقوم عليها أدب صحيح، بل لا يقوم عليها علم صحيح أيضًا. فلم يكن العلم وسيلة قبل هذه الظروف الأخيرة التي لابست حياة الناس في هذا القرن، وإنما العلم معرفة تغني النفوس وترفع الإنسان عما حوله من الأشياء والأحياء لا غاية له إلا هذا ولا بأس بأن ينشأ عنه ما نشأ من هذه الاختراعات الكثيرة الخصبة التي يسرت حياة الناس وأتاحت للعلم نفسه أن يرقى، فالرقي يدعو إلى الرقي والفوز بالاستزادة من الفوز. إنما العلم والأدب غذاء للعقول والأذواق قبل كل شيء، وإذا أخذت العقول والقلوب والأذواق حاجتها من هذا الغذاء كانت خليقة أن تملأ الدنيا من حولها خيرًا ويسرًا وبهجة وجمالًا.
إنما الشيء الذي أفهمه وأطلبه وألح فيه وأرجو أن يشاركني الشيوخ والشباب في فهمه وطلبه والإلحاح فيه هو ألا يجمد الأديب ولا تخمد جذوته، ولا يكون صدًى للماضي ليس غير، وإنما يمضي مع الدنيا من حوله فيتطور معها ويصورها في حاضر الأمر ومستقبله كما صورها في ماضيه. ولست أخشى من هذا كله شيئًا مع إلحاحي في الدعاء إلى التطور، فأدبنا قد تطور تطورًا خطيرًا في هذا العصر الحديث لا يشك في ذلك إلا المبطلون والذين في قلوبهم مرض. كان أدبنا في هذا العصر ملائمًا عن بعد لما كان يملأ الدنيا حوله من الأحداث، ولما كانت تدفع الدنيا إليه من التطور حين ثار العقاد والمازني وشكري وطه حسين بشوقي وحافظ والمنفلوطي والمويلحي وأمثالهم.
وكان هذا الأدب ملائمًا لما حوله من التطور عن قرب أي قرب، حين ثارت مصر في أعقاب الحرب الأولى، تريد أن تتحرر من الإنجليز. وهو من غير شك سيلائم حياتنا الجديدة في عهدنا الجديد كما لاءم حياتنا من قبل وكما مهد لهذا العهد الجديد، وخلق له مُثُله العليا، ولكن حياتنا في العهد الجديد لم تكد تتحقق، ولم تكد أعلامها تستبين، فما زال العهد الجديد يريد أن يحقق نفسه ويبين معالمها. قد أنشأ أشياء وهو في سبيل إتمامها، والذي يريد أن ينشئه أكثر من الذي أنشأه بالفعل. وتطور الأدب محققٌ ولكنه يتم في أناة وريث، ويحتاج إلى الوقت ليظهر واضحًا جليًّا.
وما ينبغي أن نظن أن الأدب كالثروة يمكن أن يتغير نظامها بصدور القانون الذي ألغى الملكيات الكبيرة، وأعدَّ لتوزيع الثروة توزيعًا قوامه العدل.
فليس الأدب أرضًا، وليس الأدب مالًا، وليس الأدب مادة، وإنما الأدب روح، والروح يرى وينظر ويلح في الرؤيا والنظر، ثم يسيغ ثم يتمثل ثم ينتج بعد ذلك في مهل ما أساغ وما تمثل. فالذين يتعجلون تطور الأدب يشتطون على أنفسهم وعلى الأدب في وقت واحد، ولو قد كان الأدب يتطور بالقوانين أو يتحقق بمجرد الرغبة فيه لكنت أسرع الناس إلى أن أطلب إلى الثورة إصدار قانون يقضي بهذا التطور وينظمه كما أخذت في تنظيم الاقتصاد وشئون الحكم. ولكن تأثير القوانين في الأدب بطيء لا يظهر إلا حين تتأثر الحياة كلها بهذه القوانين. فليطالب دعاة التجديد بتطور الأدب كما أطالب به، وليوجهوا هذا التجديد توجيهًا صحيحًا مستقيمًا لا إسراف فيه ولا شطط ولا جموح.
ويسألني الأستاذ لويس عوض عن هؤلاء الذين أرادوا هدم الأهرام والمساجد وتحريق الكتب والدواوين لأنها قديمة أنشئت في ظل الملوك والإقطاع. وليسمح لي الأستاذ بأن أعتب عليه عتبًا مرًّا كما عودته دائمًا وكما عودت زميله الأستاذ عبد الحميد يونس وغيرهما من الذين تفضلوا فاستمعوا لي.
فهذا السؤال الذي وجهه إليَّ ليس له موضوع، وإنما أخطأ الأستاذ قراءة ما كتبت أو قرأه قراءة خاطفة كما تعود كثير من الشباب في هذه الأيام أن يخطفوا القراءة والكتابة أيضًا لا يستأنون بهما ولا يتمهلون فيهما، تعجلهم عن ذلك هذه السرعة التي تقتضيها الحياة الحديثة والتي يجب على الأدب أن يقاومها ويخلص منها. فالسرعة لا تنتج أدبًا وإنما تنتج كلامًا، كما أن السرعة لا تنتج علمًا صحيحًا. ولا أعرف عالمًا تعجله الحياة الحديثة عن أن يستأني ببحثه وتجاربه ليستكشف ما يستكشف العلماء من القوانين والظواهر.
لم أقل إذن إن أحدًا أراد هدم الأهرام والمساجد وتحريق الكتب والدواوين، بل قلت في عبارة صريحة واضحة للذين يستأنون بالقراءة ولا يخطفونها: ما أظن هؤلاء السادة يريدون هدم الأهرام والمساجد إلى آخره.
فأنا كما يرى الأستاذ لم أتهمه ولم أتهم زميليه الكريمين ولم أتهم أحدًا غيرهم بمحاولة هذا الإثم العظيم، بل نزَّهت طلاب التجديد عنه تنزيهًا، وأردت أن أبين لهم بعض ما في دعوتهم من الإسراف، فضربت لهم هذه الأمثال التي روَّعتهم والتي ضاقوا بها ضيقًا شديدًا. ويسألني كذلك الأستاذ لويس عوض: من هم الذين يتقربون إلى الثورة ويتملقونها على حساب الأدب وفي غير روية ولا اعتدال؟ وأجيبه في صراحة ووضوح أيضًا بأنهم هم هؤلاء الذين يكتبون إليه في كل يوم، والذين يلقي ما يكتبون إليه في سلة المهملات كما يقول. فلم أُبعد إذن حين خشيت من هذا التقرب السخيف الذي لا يراد به إلا التملق وابتغاء الحظوة.
وكم أتمنى للأستاذ وزملائه من الشباب مع ما أتمناه لهم من الأناة والريث ألا يسرعوا إلى سوء الظن، فإن بعض الظن إثم، وألا يقدروا أن كل ما يقال يمكن أن يتجه إليهم هم دون غيرهم من الناس، فليس هم الناس جميعًا، وفي الأرض قوم غيرهم كثير، يفكرون ويكتبون ويخوضون فيما يعرفون وما لا يعرفون.
ولست أذكر أن بين الأستاذ إسماعيل مظهر وبيني خصومة أو لجاجًا؛ لأني لا أعد الاختلاف في رأي من الآراء الأدبية والثقافية مصدرًا من مصادر الخصومة واللجاج.
لم أُرِد إذن أحدًا من هؤلاء الثلاثة الكرام الذين يكتبون في الجمهورية، بل لم أرد أحدًا بعينه كما قلت، وإنما أردت هذه النزعة الجامحة التي تحتاج إلى أن نردها إلى شيء من القصد والاعتدال.
وأخرى لا أريد أن أدع هذا الحديث دون أن ألمَّ بها إلمامًا سريعًا، وأنا في هذا الإلمام أريد شخصًا بعينه، وهو يعرف نفسه وقد يعرفه كثير من الناس دون أن أحتاج إلى تسميته. وهذا الموضوع الذي أريد أن ألمَّ به هو هذه الشعوبية الحديثة التي أخذت تمعن في هذه الأيام في لون من العنف لا أعرف له موضعًا ولا موضوعًا، فالأدب العربي عند هذا الأستاذ الكريم هباء كله لا يغني عن الناس شيئًا؛ لأن ألف سنة تحول بيننا وبين أعلامه والأفذاذ من رجاله، فصلتنا بهذا الأدب مقطوعة أو كالمقطوعة، والطلاب في المعاهد والجامعات أشد حاجة إلى أن يدرسوا فولتير وروسو وبرنارد شو ومن إليهم من أعلام الأدب الحديث، منهم إلى أن يدرسوا أدبنا العربي ذاك الذي بعُد به العهد وطالت عليه القرون. في هذا الكلام سرفٌ يضر كثيرًا ولا يجدي على قائله ولا على غيره من قارئيه شيئًا، وإنما هو يحفظ ويسوء ويغري بما لا ينبغي أن يُغرَى به الناس في هذه الأيام؛ لأنه ينقل الخصومة من تجديد الأدب إلى الأدب العربي القديم كله أقيِّم هو أم سخيف؟ أندرسه أم لا ندرسه؟ أننتفع بدرسه أم نضيع ما ننفق فيه من الوقت والجهد؟ وهذه الخصومة كما ترى سخفٌ كلها لا تغني عن أحد شيئًا، فلن يضير الأدب العربي ولن يغض منه أن يرضى عنه فلان أو يسخط عليه، وقد عملت أجيال كثيرة من الناس في قرون طويلة من الدهر على أن تغض من هذا الأدب فلم تضيِّع شيئًا. لم يغض منه تسلط الترك ولا غارات التتار ولا الحروب الصليبية، وإنما قاوم هذا كله مقاومة رائعة وانتصر على هذا كله انتصارًا رائعًا، واستأنف من الحياة والقوة والخصب ما يملأ الأرض به جمالًا ونورًا.
ولم يدعُ أحد إلى إهمال الأدب الحديث، ولم تقصِّر جامعة من جامعاتنا المدنية في درسه لطلابنا وهي لم تبلغ الكمال في هذا الدرس، كما أنها لم تبلغ الكمال في درس الأدب العربي؛ لأن الكمال شيء لا يُبلغ وإنما يسعى الناس إليه وينتفعون بسعيهم إليه. وما أعرف أن جامعاتنا قصرت في هذا السعي أو نكلت عنه. ومن السخف كل السخف أن يُحكَم في سهولة ويسر بالعقم على أدب عاشت عليه الإنسانية المتحضرة قرونًا وأتاح لهذا الأدب الحديث ما يمتاز به من قوة وخصب، من روعة وجمال. وإنه لمن المؤلم الممض حقًّا أن نقرأ بمصر في هذه الأيام كهذا الذي نقرؤه بين حين وحين، وأن نقرأ في الوقت نفسه كتبًا تُؤلَّف ومقالات تُنشر في تمجيد هذا الأدب والإشادة به في أوروبا هذه التي يُفتن بها بعضنا فتونًا.
والأستاذ الذي كتب هذا الكلام يعرف حق المعرفة أني لن أُتَّهم بالغض من الأدب الأوروبي الحديث، وقد كنت من أشد الناس ترغيبًا فيه ومشاركة في نشره وتقريبه إلى العقول العربية، فإذا ضقت بهذا الكلام الذي يذيعه في غير روية ولا أناة فلا يدفعني إلى هذا تعصب للقديم أو تعصب على الحديث، وإنما يدفعني إليه إيثار القصد والاعتدال على الإسراف والجموح. وقد قامت حياتنا الحديثة على إحياء الأدب العربي ودرس الآداب الأوروبية الحديثة، وستقوم دائمًا على هذين العنصرين من عناصر الحياة الخصيبة. وعلى هذين العنصرين نفسهما، قامت حياة العرب القدماء أو قل حياة الأمة الإسلامية القديمة على إحياء الأدب العربي، ودرس الثقافات الأجنبية التي عرفتها في تلك العصور. فنحن نسلك نفس الطريق التي سلكها القدماء، نقيم حضارتنا الحديثة على ما أقام القدماء عليه حضارتهم تلك المزدهرة.
ما أشد حاجة الأستاذ إلى القصد في هذه الأقوال التي لا تدل على شيء!
والأستاذ نفسه يسرف ويجمح مرة أخرى حين يزعم أن أدبنا الحديث لم يعرف الثورة ولم يدعُ إليها لأنه قام على الخوف، ولأن الذين أنتجوه كانوا خائفين، وهو لا يسوء الأدباء؛ لأن أحدًا لا يسمع له ولا يصدقه، بل هو لا يسوء نفسه وإن أراد بإسرافه أن يسوءها، فهو من شيوخ الأدباء الذين دعوا إلى التجديد وشاركوا فيه ومهدوا للثورة فأحسنوا التمهيد.
وخلاصة هذا كله أن حياتنا الأدبية الحديثة إذا احتاجت إلى شيء في هذه الأيام فإنما تحتاج أول ما تحتاج إلى الاعتدال في الحكم وحسن التقدير للأمور والتأني والاستبصار قبل الإقدام على الكتابة والإذاعة، ذلك أجدر أن يتيح لأدبنا الحديث من النهوض والرقي والخصب وتصوير الحياة والتعبير عنها بعض ما يطمع فيه ويطمح إليه.