صورة الأدب
أما اليوم فإني أريد أن أثير خلافًا جديدًا بين الأدباء، بعد ذلك الخلاف القديم الذي لم ينقضِ بعد، وما أرى أنه سينقضي اليوم أو غدًا، بل ما أرى أنه سينقضي قبل أن ترضى حاجات الناس من حياتهم إن أتيح لحاجات الناس أن ترضى في يوم من الأيام.
فقد تعلمنا فيما تعلمنا أن الجنة التي وعد الله عباده المتقين هي التي سترضى فيها حاجات الناس إلى أقصى ما يمكن أن يبلغ الرضى؛ لأن فيها كل ما يمكن أن يُشتهَى وكل ما يمكن أن يلذ وما لا يخطر على قلوب الناس.
وقد صور أبو العلاء في رسالة الغفران طرفًا من هذا الرضى الذي سيتاح لأهل الجنة من المتقين فأحسن التصوير وجوَّد فيه، سواء أكان قد قصد به إلى الجد أم قصد به إلى الدعابة والفكاهة. والمهم هو أن حاجات الناس في هذه الدنيا لن تنقضي؛ لأن حاجة من عاش لا تنقضي كما قال الشاعر القديم.
وإذن فسيكون بين الناس دائمًا قوم يريدون الأدب على أن يكون وسيلة إلى إرضاء الحاجات وطريقًا في بلوغ المآرب، وسيكون بينهم قوم آخرون يرتفعون بهذه الحاجات عن الأغراض والأعراض التي يبتغي الناس في حياتهم اليومية المادية، إلى أغراض أخرى تبتغيها القلوب والعقول والأذواق. ولن يكره هؤلاء للأدب أن يصوِّر بؤس البائس، وجوع الجائع، وحرمان المحروم بشرط ألا يُفرض ذلك عليه فرضًا ولا يأخذه بذلك قانون أو مرسوم أو مذهب سياسي محتوم.
سيختلف الناس إذن دائمًا في معنى الحياة التي ينبغي أن يكون الأدب وسيلة إليها أهي حياة الجسم، أم حياة الروح، أم حياة الجسم والروح معًا؟
وكم أحب للأستاذ مظهر وله خاصة أن يتفكر في هذا في أناة وروية، وأن يخلو به إلى نفسه ساعة من نهار أو ساعة من ليل، فقد يتغير رأيه شيئًا وقد يحتاج إلى أن يحتاط ويستأني، فما أعرف أنه من الذين يريدون أن ينزلوا بالأدب إلى حيث يكون وسيلة إلى إرضاء الحاجات المادية للناس في حياتهم هذه التي يحيونها، وإني لأقرأ له بين حين وحين أحاديث تروقني وترضيني، وهي مع ذلك لا تطعم جائعًا، ولا تسقي صاديًا، ولا تكسو عاريًا، ولكنها تسلي البائس عن بؤسه والمحروم عن حرمانه إن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لأنها تمس مسائل تعني الروح وحده ولا تعني الجسم من قريب أو بعيد، تسمو إلى ما بعد الطبيعة وتنأى عن الطبيعة نفسها نأيًا شديدًا.
ليفكر الأستاذ في هذا كله، فقد يأخذ أمر الأدب على طبيعته كما ينبغي أن يؤخذ، وقد يراه فنًّا يلتمس الجمال حيثما وجد إليه سبيلًا، يأخذه من بؤس البائس وسعادة السعيد، ويأخذه من المادة المظلمة ومن الروح المشرق، ويأخذه من الأرض إن وجده في الأرض ومن السماء إن وجده في السماء، ويخترعه اختراعًا من أعماق نفسه إن لم يجده هنا أو هناك.
لنختلف إذن في الأدب أوسيلة هو أم غاية؟ وإذا كان وسيلة فإلى أي شيء نتوسل به؟ ولكني أريد أن أثير اختلافًا آخر، فما أحب للأدباء أن يطمئنوا ولا أن تستقر نفوسهم في الوسائل والغايات، وإنما أحب لهم أن يختصموا وأن يختصموا دائمًا؛ لأني أجد في خصومتهم رضًى ومتاعًا، وعسى أن يكون في خصومتهم للناس مثل ما أجد فيها من الرضى والمتاع. فما عسى أن تكون صورة هذا الأدب الذي يريده بعضنا على أن يكون وسيلة طيعة، ويريده بعضنا الآخر أن يكون غاية سامية نبيلة؟ أتكون هذه الصورة شيئًا نأخذه كما نجده ونقول فيه مثل ما قال ذلك التاجر العامي للجاحظ في بعض عروض التجارة: كما تجيء يكون.
أو نأخذه كما يقول العامة في هذه الأيام حيثما اتفق. أم تكون شيئًا آخر نستأني به ونتلطف له ولا نخرجه للناس إلا شائقًا رائقًا حسن الموقع في الأذن والقلب والعقل والذوق جميعًا؟
هذه هي القضية التي أريد أن أعرف فيها رأي الشباب من أدبائنا؛ لأني أعرف فيها رأي الشيوخ.
أيريد شبابنا أن يأخذوا الأدب كما يجيء، وأن يقولوا لنا كما يقول بعضهم لبعض وكما كان يقول ذلك التاجر القديم: كما يجيء يكون؟ أم يريدون أن يكون الأدب جميلًا في مادته وصورته جميعًا؟ والجمال لا يأتي عفوًا إلا في القليل النادر، وهو يحتاج أكثر الأحيان إلى فنون من الجهد وصنوف من العناء وإلى كثير من الوقت وكثير من المحاولة والمزاولة والمطاولة. وما أحب أن يظن الشباب من الأدباء أني أثيرهم رغبة في إثارتهم، أو تلهِّيًا بما يكون من أمرهم حين يثورون؛ فإني أجد في ذلك شيئًا من الرضى والمتاع من غير شك، ولكن الرضى والمتاع وحدهما ليسا هما اللذين يدفعانني إلى إثارة هذه القضية، وإنما يدفعني إليها ما أراه من ميل الشباب إلى التهاون في التعبير كما يتهاونون في التفكير أحيانًا. تخطر لكثير منهم القضية فيُسرع إلى تسجيلها ثم يُسرع إلى إخراجها للناس، لا يحقق معناها ولا يستأني به حتى يتم نضجه، ولا يتأنق في صورتها ولا يجدُّ في تسويتها حتى تخرج نقية رضية تستهوي النفوس ويحسن موقعها في القلوب.
وأنا أعلم أننا نعيش في عصر السرعة وأن وقتنا يعدل الأضعاف المضاعفة من وقت القدماء، فيومنا يعدل شهورًا من شهورهم، وشهرنا يعدل أعوامًا من أعوامهم، وعامنا يعدل من أعوامهم عشرات.
أعلم هذا وأعلم أن حاجاتنا كثيرة، وأنها عاجلة، وأنها تزدحم وتختصم، وتتدافع ويصدم بعضها بعضًا، ويناقض بعضها بعضًا، في كثير من الأحيان، وهي بذلك تستغرق من وقتنا أكثره ومن جهدنا أعظمه، وتوشك ألا تترك لنا شيئًا من الوقت لنستأني بالتفكير أو سمِّه شيئًا من الجهد لنتأنق في التعبير. وأعلم بعد هذا كله أن كثيرًا منا يكتبون أدبهم لينشر في الصحف، وللصحف ضروراتها التي تقتضيها السرعة والدقة والنظام. فالكاتب رهن بكل هذه الضرورات، ولكني مع ذلك، بل على رغم ذلك، أريد للأدب أن يكون عصيًّا أبيًّا لا يُكتب ليُنشر في الصحف، بل يُنشر في الصحف لأنه كُتب. وأنا أريد أكثر من هذا، أريد ألا يكتب الأدب لينشر في الكتب، وإنما ينشر في الكتب لأنه قد أنتج وأصبح نشره يسيرًا.
ومعنى هذا كله أني أريد للأدب أن يكون قبل كل شيء وعلى رغم كل شيء مقاومة بأدق ما لهذه الكلمة من معنى، مقاومة للنفس التي قد تكره الجهد وتضيق بالعناء وتنوء بالمشقات. ولا بد للأديب من أن يروضها، ويسوسها حتى تألف الجهد والعناء والمشقة وترى أنها أيسر ما يجب لإنتاج الأدب الرفيع الذي يستحق وحده أن يسمى أدبًا، ومقاومة للحاجات الكثيرة العاجلة المزدحمة. فما ينبغي أن يكتب الأدب ليتيح إرضاء حاجاته مهما تكن هذه الحاجات، بل ينبغي أن يكتب لأنه ألح على الأديب واشتد في الإلحاح حتى شغله عن حاجاته وألهاه عن منافعه، وأنساه أنه في حاجة إلى الطعام والشراب وغير الطعام والشراب من حاجاته الملحة. ومقاومة بعد هذا كله لمرض السرعة الذي تفرضه حياتنا الجديدة؛ فليس الأديب محتاجًا إلى أن يسرع في الإنتاج لأن الدنيا من حوله تجري حتى توشك أن تنقطع أنفاسها، وإنما الأديب محتاج إلى أن يستأني ويستأني، وإلى أن يجدَّ ويكدَّ ويحتمل صنوف العناء؛ ليخرج أدبه كما ينبغي أن يكون، لا ليجيء أدبه كما يمكن أن يكون. ومقاومة بعد هذا وذاك لضرورات الصحف والمطابع، فلا على الأديب أن تفوته صحيفته إذا لم يتح له أن يمدها بما تنتظر منه، ولا على الأديب أن يغضب أصحاب المطبعة إن أبطأ به الإنتاج عما ضربوا له من موعد. ذلك كله خير له من أن يتعجل فيرضي الصحيفة والمطبعة ويسخط الفن ويفسد أدبه وقد يفسد معه ذوق كثير من القراء.
وهنا تنكر الصحف وتثور، فهي لا تستطيع أن تنتظر الأدب حتى يتم نضجه ويصبح نشره شيئًا لا حرج فيه. فمن أراد أن يكتب لها على شرطها فليفعل، ومن أبى ألا يكتب على شرط الأدب فليلتمس لنفسه مذهبًا آخر من مذاهب النشر، وطريقًا أخرى من طرق الكسب. وهذه مشكلة عرضت للأدب منذ كانت الصحف. وكلت نفسها بنفسها فنشأ لها فن بين ذلك ليس هو بالكلام السوقة الذي لا قيمة له، ولا بالأدب الرفيع الذي يكلف صاحبه الكدَّ والجدَّ والعناء، وإنما هو فن وسط يحتل منزلة بين المنزلتين، في أكثره من الأدب روح وفيه مع ذلك من اليسر والسهولة واللين والمؤاتاة ما يلائم السرعة والانتظام.
والخطر كل الخطر الذي يتورط فيه كثير من الناس وقد تورط فيه جيلنا هذا الذي نعيش فيه إلا قومًا يُحصَون؛ هو أن نكتفي بهذا الفن الوسط فنراه الأدب كل الأدب، ونقنع به لنرضي حاجة نفوسنا إلى الجمال الرفيع، وحاجة قلوبنا وأذواقنا إلى الغذاء الممتاز.
شتان ما بين أدب يكلف صاحبه جد النهار وأرق الليل قبل أن يظفر منه بما يبتغي وبما يرضي ذوقه أن يقدمه إلى الناس، وكلام آخر يُكتب لأن الحاجة والصحيفة والمطبعة اقتضت أن يُكتب ويُقدَّم ويُنشر في أوقات معينة وفي موضوعات لعلها لم تكن تخطر للكاتب على بال، ولعل كثيرًا منها أن يكون قد فجأ الكاتب على غير توقع له، ولعل بعضها أن تُفرَض الكتابة فيه على الكاتب فرضًا. ولست أدري أي كُتَّابنا القدماء ذاك الذي أعجب الناس ببراعته ومهارته وأراد بعض الأمراء أن يختبر طبعه وقدرته على الاستجابة لدعوة الفن، فطلب إليه أن يكتب لساعته بعض ما تعود من فصوله الجميلة الرائعة، فأقبل على دواته وقرطاسه وانتظر وأطال الانتظار وجدَّ وكلف نفسه من الجد ما لم تتعود، ولكنه لم يصنع شيئًا وسخر الناس منه ولم يكن من حقهم أن يسخروا.
فالأدب لا يستجيب لكل دعوة ولا يطيع كل أمر، وهو لا يجيب الأديب نفسه كلما دعاه، وإنما الأديب هو الذي ينبغي أن يكون على أهبة لإجابة الأدب حين يدعوه. ولأمر ما قال ذلك المعلم القديم من شيوخ المعتزلة لبعض الطلاب: خذ من وقتك ساعة نشاطك وفراغ بالك. وساعة النشاط وفراغ البال هذه لا تأتي حين تريدها الصحيفة أو المطبعة ولا حين يريدها الأديب نفسه، وإنما تأتي حين تريد هي أن تأتي. والأدب بعد ذلك يستطيع أن يؤاتي الأديب في هذه الساعة كما يستطيع أن يُعرِض عنه إعراضًا.
وبين الأدب والأديب فنون من الخصام والعناد يعرفها الأدباء المطبوعون، فما أكثر ما يشعر الأديب بالحاجة إلى الكتابة وبالميل إليها والرغبة الشديدة فيها، فيتهيأ لها ويدعوها بما ألف من وسائل الدعاء، ولكنها لا تحفل به ولا تستجيب له، فيشغل نفسه بما شاء الله من ألوان العمل. وما أكثر ما يكون الأديب ماضيًا فيما يمضي الناس فيه من أمور الحياة، لا يفكر في نثر ولا في شعر، ولا في شيء يشبه الشعر أو النثر من قريب أو بعيد، ولكن داعي الكتابة يدعوه ويلح عليه ثم يملك عليه نفسه، وإذا هو ينصرف عما كان ماضيًا فيه إلى الكتابة والإنشاء. وربما كان من أخص خصائص الأدب أنه هكذا عصيٌّ أبيٌّ متمنعٌ متشددٌ في التمنع حين يُراد على نفسه، ثم هو بعد ذلك رضيٌّ سمحٌ طيعٌ حين لا يدعوه داعٍ ولا يفكر فيه مفكر.
والأدباء يعرفون هذا كما يعرفون أنفسهم، ولهم في سياسة الأدب ورياضته وتذليله وتدليله فنون ومذاهب يمكن أن يطول فيها القول الذي لا يخلو من طرافة ولا يتعرض لسآمة أو إملال.
وإذن فكيف ينبغي أن يكون هذا الأدب العصيُّ الأبيُّ حين يخرج للناس ليهدي إليهم الراحة والروح، ويرفعهم إلى حيث يستمتعون بالجمال الصفو الذي تأنس إليه وتنعم به كرام النفوس؟
يجب أن يكون جميلًا ما في ذلك شك. وما رأيك في شيء تقرؤه فيشعرك بالجمال الذي لا يلبث أن يملأ نفسك وقلبك، وأن يأخذ عليك حياتك من جميع أقطارها مع أنه قد يريد إلى أن يصور لك القبح القبيح؟ واقرأ شعر بودلير فسترى من ذلك الأعاجيب. وقد ذكرت بودلير وفي ذهني آخرون من معاصريه أو الذين جاءوا بعده من الفرنسيين والإنجليز. ذكرت هؤلاء متعمدًا ولم أرد أن أذكر القدماء من شعرائنا، فقد ينبو كثير من شبابنا عن هؤلاء القدماء لأسباب منها ما يقال ومنها ما لا يقال. يجب إذن أن يكون الأدب جميلًا، ولكن أين يكون جماله؟ أيكون في معانيه أم يكون في ألفاظه، أم يكون في نظامه وأسلوبه، أم يكون في هذا كله أجمع؟
في هذا يختلف النقاد اختلافًا شديدًا منذ أقدم العصور التي فكر فيها الناس في الأدب وتحدثوا عنه، فقد كره كثير من قدمائنا شعر أبي تمام لأنه احتفل لمعانيه وأكره الألفاظ على أن تذعن لهذه المعاني، وذهب في جمال الألفاظ والمعاني مذهبًا لم يألفه الشعراء الأقدمون، فقالوا إنه أسرف في الاستعارة والمجاز ودفع إلى كثير من الإغراب وأتى الناس بما لم يألفوا، وانحرف عن السنة الموروثة وعنُف باللغة حتى كلفها شططًا.
وقوم آخرون أحبوا أبا تمام لهذه الخصال نفسها. رأوا أنه قد مال بهم عن الطرق المطروقة والمذاهب المألوفة، وأطرفهم بأشياء جديدة شغلتهم عما كان القدماء يبدءُون فيه ويعيدون. ولم يتجه إلى آذانهم وحدها ولا إلى قلوبهم وأذواقهم وحدها، وإنما اتجه إليها وإلى العقول فاضطرها إلى أن تُعنَى بالشعر وأن تقف عنده فتطيل الوقوف، وأن تستخرج مكنونه وتنعم بنتيجة ما تكلفت من جهد وما احتملت من عناء، وتشعر كلما فهمت بيتًا أو ذاقت قصيدة أنها قد استخرجت كنزًا من أعماق الأرض أو لؤلؤًا من أغوار البحر، ولم تصل إلى استخراجه إلا بعد المشقة الشاقة والعسر العسير. وقوم ضاقوا بمسلم بن الوليد لأنه احتفل بالألفاظ أكثر من احتفاله بالمعاني، وجعل يتكلف بينها نعوتًا من الموسيقى التي تأتي من المطابقة والجناس وما إليهما من هذه المحسنات المختلفة التي تزين اللفظ في الأذن وتخضع المعنى لهذه الزينة، فتجعله تابعًا ومن حقه أن يكون متبوعًا. وآخرون كَلِفوا بمسلم لهذه الصفات نفسها؛ فهم قد ألفوا الاستمتاع بالموسيقى وأحبوا أن يجدوا هذه الموسيقى في كل ما يرون ويسمعون.
وليس المحدثون من الأوروبيين أقل اختلافًا في ذلك من القدماء، فمنهم من يؤثر جمال اللفظ والمعنى على أن يكون هذا الجمال قريبًا داني القطوف، لا تجد العقول والأذواق والقلوب جهدًا ولا مشقة في فهمه وذوقه والاستمتاع به. ومنهم من ينأون عن هذا كله وينهون عنه ويضيقون بالحياة كما يحياها الناس، وبكل هذه الأشياء التي ألفها الناس مصبحين وممسين، ويلتمسون الجمال الأدبي في حياة يبتكرونها هم ويخترعونها اختراعًا وهم يأتون في ذلك بالأعاجيب التي أقرؤها أنا ويقرؤها كثير غيري فلا نفهم منها شيئًا، ولا نذوق منها شيئًا، وربما دفعتنا إلى الإغراق في الضحك المتصل.
والذين درسوا الآداب الأجنبية يعرفون من هذا الاختلاف شيئًا كثيرًا، ولعل منهم من حاول أن يصنع في أدبنا العربي مثلما صنع بعض المحدثين من الأوروبيين في آدابهم.
وقد حدَّثت في أعقاب الحرب الأخيرة بأن فتى رومانيًّا أقبل ذات يوم إلى باريس وله مذهب في الفن الأدبي طريف أراد أن يُقنِع به شيوخ الأدب فلم يجد عندهم شيئًا، وحاول أن يفتن به الشباب فاستجاب له بعضهم وقتًا قصيرًا ثم انصرفوا عنه ولم يعودوا إليه. ولست أدري إلامَ صار أمر هذا الفتى، وأكبر الظن أنه عاد إلى حظيرة الأدباء المألوفة أو التمس وجهًا آخر من وجوه الحياة. وكان مذهبه يسيرًا جدًّا ولكنه سخيف جدًّا، فهو قد ضاق بالحياة التي يحياها الناس وضاق بالأدب الذي يألفونه وباللغات التي يتكلمونها، وأراد أن يحدث الموسيقى الأدبية بالملاءمة لا بين الألفاظ التي تأتلف منها اللغات، بل بين الحروف التي تتكون منها الألفاظ. وتستطيع أنت أن تتصور هذا النوع من الهوس وأن تقطع بأنه قد انتهى إلى ما لم يكن بد من أن ينتهي إليه.
الأدباء إذن يختلفون منذ أقدم العصور في جمال الأدب أين يكون؛ أيكون في ألفاظه أم يكون في معانيه؟ أم يكون في الألفاظ والمعاني جميعًا؟ وقد رأيت بعض الشعراء المعاصرين من الفرنسيين من كان يقول ويكتب في غير كتاب من كتبه أن بين الشعر والنثر فرقًا خطيرًا، فالنثر يُقتل بمجرد أن يُفهم، فأنت لا تكاد تقرأ نثرًا في كتاب أو مقالة وتفهمه إلا قتلته واستللت روحه واستأثرت بها، وأصبح الكتاب أو المقالة شيئًا هامدًا لا حياة فيه بالقياس إليك، فهو كدَنِّ أبي نواس حيث يقول:
ذلك شأن النثر. فأما الشعر فله شأن آخر؛ لأن جماله لا يأتي من فهم معانيه فلا سبيل إلى قتله ولا إلى استلال روحه، وإنما يأتي جماله من ألفاظه وصوره وهذه الأخيلة التي تثيرها ألفاظه وصوره في نفسك، والتي لا سبيل إلى أن تُستل منه أو تُفصل عنه، كما أنه لا سبيل إلى أن تُجرِّد الشعر من ألفاظه أو تنتزع منه صورته انتزاعًا.
فالشعر باقٍ؛ لأنه أقوى وأشد امتناعًا من أن يفهم، ومن أجل ذلك فهو أقوى وأشد امتناعًا من أن يدركه الفناء.
كذلك كان يقول بول فاليري، وكذلك كان يكتب في كثير من كتبه ورسائله.
وأظن هذا كله يكفي لبيان ما أردت إلى تبيينه من اختلاف الأدباء في جميع العصور حول الجمال الأدبي؛ أين يكون؟ ومن أين يأتي؟ ولكنهم متفقون دائمًا على أن الأدب لا يكون إلا جميلًا؛ لأن طبيعته تقتضي ذلك، وهو لم يوجد إلا للسمو بالنفس إلى حيث تشهد المشاهد الرفيعة من الجمال، شأنه في ذلك شأن غيره من الفنون الجميلة، فأنت لا تدري من أين يأتي جمال الصورة التي تعجبك وتروقك؛ أيأتي من اللون، أم يأتي من شيء آخر وراء اللون؟ وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ وأنت تعلم حق العلم أنك قد ترى شخصًا من الأشخاص فلا يروقك ولا يشوقك ولا يقع من نفسك موقعًا ذا بال، ولكنك ترى لهذا الشخص نفسه صورة قد أتقن المصور تصويرها فتقف عندها وتطيل الوقوف ولا تكره أن تعود إليها لتراها حينًا بعد حين.
وأنت تدري ما مصدر الجمال الذي يروقك ويبهرك حين ترى تمثالًا رائعًا، أهو مادة التمثال؟ هيهات، إنك ترى هذه المادة على أصلها فلا تثير في نفسك شيئًا، أهو موضوع التمثال؟ هيهات، إن أمر موضوع التمثال كأمر موضوع الصورة، فما أكثر ما يصور المصورون ويمثل المثَّالون معاني لا تُرى وقيمًا تحسها النفوس والعقول. وأنت حين تسمع لحنًا رائعًا فيسحرك ويخطف نفسك فيسمو بها إلى حيث لم تكن تقدر أن تبلغ، لا تستطيع أن تحدد هذا الجمال ولا أن تعرف معرفة دقيقة من أين يأتي.
فخذ الأدب إذن كما تأخذ الموسيقى والنحت والرسم والتصوير. خذه على أنه متعة لروحك وغذاء لقلبك وعقلك، وليكن جمال الأدب حيث يمكن أن يكون، ليكن في الألفاظ أو في المعاني أو في النظم والأسلوب أو في هذا كله. والأدب آخر الأمر فن من الموسيقى يأتلف من هذه الأشياء كلها، من الألفاظ والمعاني والأساليب وما يعرض من صور وما يثير من عواطف وما يبعث من شعور. فليكن جماله شيئًا شائعًا لا يستطيع أحد أن يقول إنه ينحصر في اللفظ أو في المعنى أو في الأسلوب.
وإنما الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الكلام لا يكون أدبًا حتى يوجد فيه هذا الجمال الذي تجده فيما تنتجه الفنون الجميلة الأخرى. وليكن موضوع الأدب بعد ذلك ما يكون؛ ليكن في الأرض أو في الجو أو في نفس الإنسان، وأعماق الضمير. ليكن موضوعه جميلًا أو قبيحًا، محببًا أو بغيضًا، فليس يعنيني من الأدب إلا أن يُحدِث في نفسي ما يحدثه الأثر الفني من هذا الشعور الرفيع بالجمال. فأين نحن من هذا كله حين نستحضر الأدب وحين نفكر فيه أو نتحدث عنه؟ أترانا نستحضر كل هذه المعاني، أم ترانا لا نستحضر إلا حاجاتنا ومآربنا والوسائل التي تبلغنا هذه الحاجات وهذه المآرب؟ وكذلك نعود إلى حيث ابتدأنا، مع أني لم أفكر قط في أن أعود إلى حيث ابتدأت، ولا في أن أتحدث عن الأدب، أوسيلة هو أم غاية؟ وإنما أردت أن أتحدث عن صورة الأدب. وقد استبان لك كما استبان لي أن من أعسر العسر أن تفصل بين صورة الأدب ومادته؛ فالأدب يوشك ألا يخضع لهذا النوع من التحليل الذي يعمد إليه العلماء وأصحاب الكيمياء منهم خاصة، فإذا عمد النقاد إلى تحليله فهم يقاربون ولا يحققون. وآية ذلك أنهم لا يتفقون ولا سبيل إلى أن يتفقوا على حقائق مقررة للنقد كتلك الحقائق المقررة في الطبيعة والكيمياء وغيرها من العلوم. ومن هذه الحقائق المقاربة التي يتحدث فيها النقاد فيكثرون فيها الحديث أن اللغة هي صورة الأدب وأن المعاني هي مادته، وهذا كلام مقارب لا تحقيق فيه. فكثير من النقاد القدماء خاصة تصوروا أن المعاني تشبه الأجسام، وأن الألفاظ تشبه الثياب، وأن المعنى الجميل كالجسم الجميل يجب أن يُختار له الزي الرائق الذي يظهر فيه. وهذا كلام إذا حاولنا تحقيقه لم نجد وراءه شيئًا، فنحن نعرف الأجسام قبل أن تلبس الثياب، ونعرف الثياب قبل أن تسبغ على الأجسام، ونستطيع أن نحقق الفصل بينها. ولكننا لا نعرف المعاني المجردة التي لم تتخذ ثيابها من الألفاظ، ولا نعرف الألفاظ الفارغة التي تنتظر المعاني لتلبسها، وإنما نعرف الألفاظ والمعاني ممتزجة متحدة لا تستطيع أن تنفصل ولا أن تفترق، وما أعلم أننا نستطيع أن نتبادل المعاني مجردة دون ما يدل عليها من لفظ أو صورة أو رمز، وما أعلم أننا نستطيع أن نتبادل الألفاظ الجوف التي لا تدل على شيء؛ فليس ذلك من شأن العقلاء وإنما هو شيء قد يعرض للمحمومين والمجانين.
وإذن فصورة الأدب ومادته شيئان لا يفترقان أو هما شيء واحد إذا شئت، وأضف إليهما عنصرًا ثالثًا إن صح أن يُستعمل العدد في مثل هذا الموضع. وهذا العنصر يلزمهما لزومًا لا فكاك منه وهو عنصر الجمال، فالناس يتحدثون بالألفاظ التي تدل على المعاني، وهم يتبادلون ما يدور في رءوسهم من الخواطر، ويحققون بهذه الألفاظ ذوات المعاني ما يحتاجون إليه من الأغراض والآداب، ولكنهم في أحاديثهم وفي قضاء أغراضهم وآرابهم لا ينشئون أدبًا، إلا أن يتعمدوا ذلك ويستأنوا به ويقصدوا إليه حين يكتب أحدهم إلى صاحبه رسالة يضع فيها خلاصة نفسه، في هذه الصورة الجميلة الرائعة التي نسميها أدبًا. وحين يكتب أحدهم لخاصة الناس أو عامتهم رسالة يتهيأ لها ويتأنق فيها ويريد أن تبلغ قلوبهم وأن تثير فيها ما يريد أن يثير من العواطف والشعور.
وقل مثل ذلك في التحدث إلى الأفراد والجماعات وفي الأسفار التي تكتب ويراد ببعضها إلى الفن الرفيع وببعضها الآخر إلى أداء ما يمكن أن يحتاج الناس إلى أدائه من المعاني، حيثما وجد الجمال في الكلام كان الأدب، وحيثما خلا الكلام من هذا الجمال كان ما شئت أن يكون!
كذلك فكر الأدباء منذ أقدم العصور. وما أرى إلا أنهم سيفكرون على هذا النحو ما أتيحت لهم الحضارة، وما أرى أننا نستطيع أن نتصور أمة بادية أو حاضرة تعيش وتتخذ الكلام لغة دون أن يكون لها من هذا الكلام أدب على هذا النحو، ودون أن يكون لها من هذا الكلام صور تحمل الجمال إلى القلوب والأذواق والعقول.
وما أدري أيفهم أدباء الشباب هنا الأدب على هذا النحو، أم لهم فيه مذهب آخر؟ فإن تكن الأولى فعند الصباح يحمد القوم السرى كما يقول المثل القديم، وإن تكن الثانية فما أشد حاجتي إلى أن أقرأ وأفهم عنهم، وما أشك في أني سأنتفع وسأستمتع بما يكتبون.