الحياة في سبيل الأدب
نعم، الحياة في سبيل الأدب، ما خطبها؟ أتستحق أو لا تستحق أن يُعنَى بها الكتَّاب، ويخصصوا لها من حين إلى حين فصولًا طوالًا أو قصارًا يعرضون فيها لخطوبها العظام، وأهوالها الجسام، ومشاكلها التي لا تحصى؟
فقد شبعنا من الأدب في سبيل الحياة حتى أدركتنا الكظة أو كادت تدركنا، وإن كنت أنا لم أُومِن بعد بهذا المذهب الذي نُقل إلى مصر نقلًا في غير تثبت ولا تمحيص.
وآن لنا فيما يظهر أن نعرض للحياة في سبيل الأدب، فقد نجد فيها ما يلذ ويمتع، وقد نجد فيها ما يسلي الهم ويعزي قليلًا أو كثيرًا عن هذه المحن الكثيرة المتصلة التي تصيب الأدباء في ذات نفوسهم، وفي أكرم الأشياء عليهم وآثرها عندهم، والتي قد تعرضهم للأخطار التي لا سبيل إلى وصفها ولا إلى تقديرها؛ لأنها قد تنتهي أحيانًا بالأديب إلى المحنة الكبرى التي لا علاج لها ولا انصراف عنها، وهي الموت في سبيل الرأي أو في سبيل كلمة تقال وليس من قولها بد.
ولأمر ما قال الشاعر القديم:
وعثرة اللسان هذه قد يكون مصدرها الحمق وقد يكون مصدرها حب الحق والحرص على النصح للناس وإن كرهوا النصح والناصحين. والمحن لا تعرض للأدباء وحدهم لأنهم يقولون ما لا يرضي الناس، ولكنها تعرض للفلاسفة، وتعرض للمصلحين، وتعرض للذين يحاولون أن يلقوا في روع الناس ما لم يألفوا وما لم يحبوا، ويريدون أن يحملوهم على منهج جديد من مناهج الحياة مخالف للمناهج التي آثروها بالحب ووصلوا بها قلوبهم وعقولهم وصلًا، وكرهوا أن يزعجهم الناس عنها بعد أن طال اطمئنانهم إليها.
وهذه المحن إنما تعرض للأدباء والفلاسفة والمصلحين لأنهم لم يملكوا ألسنتهم ولا أقلامهم، وإنما ملكتهم ألسنتهم وأقلامهم فاستجابوا لها، ولم يمتنعوا عليها؛ لأن هذه الأقلام وتلك الألسنة إنما كانت تترجم عن قلوبهم وعقولهم وعما ملأها من الخواطر والعواطف، وعما ملكها من المذاهب والآراء.
لم يكن سقراط معروفًا بقول الشعر ولم يكن معروفًا بكتابة النثر، بل يحدثنا مؤرخوه بأنه لم يترك أثرًا مكتوبًا نظمًا أو نثرًا، وإنما أنكر كثيرًا من حياة معاصريه في نفسه، ثم ملأ عليه هذا الإنكار عقله وقلبه، ثم فاض هذا الإنكار على لسانه، فانطلق يتحدث به إلى الناس في أنديتهم وملاعبهم، وفي حوانيتهم ومتاجرهم حتى ضاق به من ضاق، فرفعوا أمره إلى القضاء الذي قضى عليه الموت بعد أن سمع لخصمه وسمع له ورأى أنه لا ينكر من آرائه ولا من مذاهبه شيئًا.
فلسان سقراط هو الذي قضى عليه الموت إذن؛ لأن سقراط لم يحسن إمساكه في فمه، ولم يمنعه من أن يترجم عما كان يضطرب في نفسه من الخواطر والآراء.
والأدباء والفلاسفة الذين قضت عليهم ألسنتهم وأقلامهم بالعذاب ثم بالموت والذين عرَّضتهم ألسنتهم وأقلامهم لكثير من الخطوب الثقال، أكثر من أن أحاول إحصاءهم في هذا الحديث، وهم بعد ذلك معروفون لا يجهلهم المثقفون الذين يعنون بتطور الإنسان وتنقله بين هذه الأطوار المختلفة من الحياة حتى انتهى إلى هذا الطور الحديث الذي يعيش فيه.
وأدبنا العربي قد عرف هذه الألوان من المحن، وكان له ضحاياه الذين جرَّت ألسنتهم الموت على بعضهم، والعذاب على بعضهم الآخر، والحرمان على كثير منهم.
وكثير من أدبائنا الذين قضى عليهم الموت بتهمة الزندقة في بعض العصور إنما قتلتهم ألسنتهم؛ لأنها مكلتهم ولم يملكوها، ولأنها أعربت عن ذات نفوسهم وكان من الممكن أن تمسك عن هذا الإعراب. ولست أدري أقُتل بشار لأنه كان زنديقًا أو لأنه كان أشد انحرافًا عن حقائق الدين من الذين قتلوه، أم قُتل لأنه لم يملك لسانه فهجا وزيرًا من وزراء الخليفة الذي أمر بضربه حتى الموت؟
وليس من شك في أن المتنبي قد قتله لسانه حين انحرف به عن العروبة إلى مدح الفرس والثناء عليهم، وكان لسانه خليقًا أن يقتله في غير موقف من مواقفه من أولئك الملوك والأمراء الذين أثنى عليهم ثم انحرف عنهم.
وتحضرني وأنا أملي هذا الكلام قصة ذلك العالم اللغوي الذي كان يؤدب أبناء المتوكل إن صدقتني الفكرة، والذي علَّمهم فيما علَّمهم ذات صباحٍ ذلك البيت الذي رويته آنفًا:
فلما حضر الغداء من ذلك اليوم جلس الأستاذ مع تلاميذه إلى مائدة الخليفة وكان الخليفة قد سُعي إليه بهذا الأستاذ واتُّهِم عنده بالتشيع، فسأله أثناء الغداء كالمداعب: أأبنائي أحب إليك أم أبناء علي؟! وأجابه الأستاذ بما لم يرضه لأنه لم يملك لسانه، فأمر الخليفة به فقُتل على نحو بشع شنيع.
والأدباء الذين تعرضوا للفقر والبؤس والحرمان لا لشيء إلا لأنهم أحبوا الأدب وكَلِفوا به ووقفوا حياتهم عليه أكثر من أن يبلغهم الإحصاء، وهم ليسوا مقصورين على أمة بعينها، ولا على جيل دون جيل. وما زال في كثير من أقطار الأرض أدباء يسعدون بأدبهم فيما بينهم وبين أنفسهم، ويشقون بأدبهم فيما بينهم وبين الناس، ويتعرضون بأدبهم لصروف كثيرة؛ فمنهم من يتعرض للحرمان أو ما يشبه الحرمان، ومنهم من يتعرض لغضب السلطان سواء أكان هذا السلطان فردًا مستأثرًا بالحكم، أم برلمانًا يدير أمره على الشورى ويقيم حياة شعبه على الحرية والديمقراطية.
وحياة هؤلاء الأدباء، من يمتحن منهم بالشر وهم الأكثرون ومن يتاح لهم الخير وهم الأقلون، جديرة بشيء من العناية وجديرة بشيء من الرعاية أيضًا. فقد ينبغي للإنسانية بعد أن بلغت ما بلغت من الرقي وعرفت ما عرفت من الحقوق أن تعصم الذين يحيون في سبيل الأدب من التعرض للمحنة والبلاء؛ ذلك لأنهم حين يحيون في سبيل الأدب إنما يحيون في سبيل الذين يقرءُون أدبهم من الأجيال المعاصرة ومن الأجيال التي تأتي بعدهم إن أتيح لأدبهم البقاء. وما أكثر ما يتبين الناس بآخرة بعد فوات الوقت حين لا يتاح لهم تدارك ما فاتهم أنهم قصروا في ذات هذا الأديب أو ذاك، وأنهم جَنَوا على هذا الأديب أو ذاك! وخير من ذلك بالطبع أن يعصم الناس أنفسهم من هذا التقصير وأن يكفلوا لهؤلاء الأدباء ولغيرهم من الذين يحيون لعقولهم من الفلاسفة والعلماء وأصحاب الفن حياة كريمة تنأى بهم عما يهينهم في أنفسهم، وعما يشقيهم بحياتهم، وعما يعرضهم للخطر بسبب آرائهم التي تملك عليهم نفوسهم وألسنتهم وأقلامهم التي لا تحسن السكوت ولا السكون.
ولم يخطئ العباس بن الأحنف حين شبَّه نفسه بالذُّبالة التي نُصبت تضيء للناس وهي تحترق. فليس الأديب والفيلسوف والعالم وصاحب الفن إلا سراجًا يضيء لكثير أو قليل من الناس سبيلهم في الحياة التي يحيونها، وهو يعطيهم من ذات نفسه ويمنحهم خير ما عنده، وهو يشقى ليسعدوا ويبتئس لينعموا ويخاف ليأمنوا، فلا أقل من أن يمنحوه من ذات أنفسهم مثل ما يمنحهم من ذات نفسه، ومن أن يردوا عليه بعض ما يهدي إليهم من السعادة والمتعة والنعيم والأمن وراحة البال.
وأول ما ينبغي أن تكفله الجماعة المتحضرة للأديب هو الحرية، وأريد الحرية الحرة التي يأمن معها الغوائل ولا يتعرض معها لشر أو كيد أو هوان. فالأديب الحق حر بطبعه لا ينتظر أن تهدى إليه الحرية من أحد غيره، وإنما تولد معه حريته يوم يولد، وتنمو معه حين ينمو، وتصحبه منذ يدخل الحياة إلى أن يخرج منها. وهو لا يُؤْثر في الدنيا شيئًا كما يُؤْثر الأدب الحر، وهو يزدري أدبه أشد الازدراء ويضيق به أعظم الضيق إن فقد حريته في يوم من الأيام، وهذه الحرية التي يجب أن تكفل للأديب وللذين يعملون بعقولهم لا تطلب إلى الحكومات وحدها، وإنما تطلب إلى الحكومات وإلى الشعوب أيضًا. وربما كانت الحكومات في هذا العصر أقل خطرًا على حرية الأدباء والفلاسفة والعلماء وأصحاب الفن من الجماعات. فالحكومات آخر الأمر لا تحكم لنفسها في الأمم المتحضرة، وهي من أجل ذلك لا تطلب إلى الذين يعملون بعقولهم أكثر مما تطلب إلى غيرهم من الناس، وهي من أجل ذلك لا تستطيع أن تختص الذين يعملون بعقولهم بالشر أو الأذى أو الاضطهاد، وهي حتى حين تفرض الرقابة التي أمقتها أشد المقت لا تفرضها بالقياس إلى هذه الطوائف من دون غيرها من الناس، وإنما تفرضها بالقياس إلى الناس جميعًا لظروف موقوتة. وهذه الرقابة تزول بزوال هذه الظروف، وقد تخطئ الحكومات حين لا تختص هؤلاء العاملين بعقولهم بألوان من الرعاية تحتاج إليها طبيعة عملهم، ولكنها على كل حال ليست أشد خطرًا عليهم من الجماعات التي تضيق بهم أحيانًا وتشق عليهم أحيانًا، وتنتظر منهم أكثر مما تعطيهم، وتسرف عليهم في اللوم إن أسخطوها، وتبخل عليهم بالتشجيع إن أرضوها، وهي أشبه شيء بالقطط فيما يقول العامة تأكل وتنكر وتأخذ وتمنع. وهي ساخطة دائمًا بخيلة دائمًا، تلوم الأدباء إذا لم ينتجوا، وتستغل إنتاجهم حين ينتجون، ولا تكره أن يحرق الأدباء نفوسهم ليضيئوا لها سبلها، وتكره أشد الكره أن تتيح لهؤلاء الأدباء من الحياة ما يمكنهم من إحراق أنفسهم دون أن يحسوا ألم هذا الحريق الذي يصلَوْن حرَّه في الليل والنهار.
الأدب في سبيل الحياة كلمة تقال وتكتب ولا يكاد الذين يقولونها ويكتبونها يحققون معناها ولا يكادون يحققون نتائجها أيضًا. فما عسى أن تكون هذه الحياة التي يريدون أن يجعلوا الأدب وسيلة لها؟ أهي حياة الأجسام أم حياة القلوب والعقول؟ فإن تكن حياة الأجسام، فما أهون الغاية وما أخطر الوسيلة! وقد عاشت أجيال الإنسانية إلى الآن على أن الأجسام وسائل إلى إرضاء العقول لا على أن العقول وسائل إلى إرضاء الأجسام.
وإن كانت حياة العقول والقلوب والأذواق وملكات النفس الإنسانية كافة، فالأدب والفن والفلسفة والعلم لا غاية لها إلا إرضاء هذه الملكات وتمكينها من النمو والرقي والسمو إلى الكمال بمقدار ما يتاح للناس أن يسموا إلى الكمال. أهي حياة الأفراد أم حياة الشعوب؟ فإن تكن حياة الأفراد فما أهون الغاية وما أخطر الوسيلة، وويل لأدب لا ينشأ إلا لينعم به هذا الفرد أو ذاك!
وأنا بعد هذا لا أعرف هذا الأدب الفردي ولا أعلم أنه قد وُجد في وقت من الأوقات؛ فالأدب اجتماعي بطبعه كالإنسان الذي وصفه أرسطاطاليس بهذا الوصف منذ أربعة وعشرين قرنًا. ولا ينبغي أن تقف عند هذه السخافة التي كثر تكرارها، والتي تعيب على الأدب القديم أنه كان يتجه ببعض فنونه إلى الملوك والأمراء وأصحاب السعة من الأغنياء؛ فهذا الأدب الذي كان يوجَّه إلى هؤلاء الناس قلة ضئيلة بالقياس إلى الأدب الذي كان يوجَّه إلى الإنسان من حيث هو إنسان، وهو على رغم اتجاهه إلى هؤلاء الأفراد أدب اجتماعي وكثير منه إنساني لا يجادل في ذلك إلا المحمقون.
ونحن نقرأ الآن وستقرأ الأجيال غدًا وبعد غد أدبًا وُجِّه إلى هؤلاء الملوك والأمراء وأصحاب الثراء منذ القرون الطوال أشد الطول، فلمَ بقي إلى الآن ولمَ يبقى إلى غد وبعد غد، ولمَ لَمْ يمت مع قائليه ومع الذين وُجِّه إليهم من الأقوياء والأغنياء؟ أكان بقاؤه ممكنًا لو لم يكن فيه هذا العنصر الاجتماعي الإنساني الذي أتاح له البقاء وأتاح للأجيال المتعاقبة أن تفزع إليه تلتمس فيه اللذة والمتاع ونعيم النفس وغبطة القلب ورضى الضمير؟
الأدب إذن اجتماعي بطبعه، وهو موجه بطبعه في سبيل الحياة بأقوم معانيها وأبقاها وأرقاها … حياة العقول والقلوب التي لا تموت ولا يدركها البلى، لا حياة الأجسام التي تُخلق من تراب وتصير إلى تراب.
والذين يقولون ويكتبون هذه العبارة النابية — الأدب في سبيل الحياة — لا يحققون نتائج ما يقولون ويكتبون كما أنهم لا يحققون معناه، كما رأيت. فكلمة الحياة هذه كلمة عامة تطلق في غير تحفُّظ ولا تثبُّت ولا تجديد إلا عند العلماء الذين يدلون بها على معنى بعينه يعرفونه أحسن المعرفة ويحددونه أدق التحديد، ولا يكاد يخطر للذين يرسلون هذه الكلمة فيما يكتبون من الفصول وفيما يديرون بينهم من الحديث على بال.
وإنما الحياة عند هؤلاء كلمة مهملة مرسلة تدل على أشياء ليست بذات حدود واضحة مبينة؛ فالطعام والشراب حياة، والنوم واليقظة حياة، والجد واللعب حياة. وللحياة بعد ذلك معنى آخر يحبه الناس؛ لأنهم لا يحققونه ولا يحددونه ولأنه يغمرهم من جميع أقطارهم. فالحياة بهذا المعنى كل شيء أي أنها ليست شيئًا؛ لأن كل شيء هذه كلمة يراد بها الإحصاء والحصر مع أن الأشياء لا سبيل إلى إحصائها ولا حصرها. والأدب الحق لا يكره شيئًا كما يكره هذا العموم الفارغ من كل معنى دقيق، فأي معنى من معاني الحياة هذه يراد الأدب على أن يكون وسيلة إليها؟ أهي حياة العلماء الذين يعملون في معاملهم أم هي حياة اللاعبين، أم هي حياة الجادين؟ أم هي حياة هؤلاء الذين يريدون أشياء لا يعرفونها ولا تحققها عقولهم؟ أم هي كل هذه المعاني جميعًا؟
كلام يقال ولا يحصِّل شيئًا. وأكبر الظن، بل الحق الذي ليس فيه شك، هو أن أصحاب الأدب في سبيل الحياة إذا سألتهم عن هذه الحياة التي يريدونها لم تجد عندهم جوابًا مقنعًا، وإنما هي كلمة جاءتهم في بعض ما يقرءُون من الكتب والصحف والمجلات فأخذوها على علاتها واستعملوها على غير تحقيق لها ولا تثبت منها. فليحذروا أن تُفهم عنهم على وجه لم يريدوه ولم يقصدوا إليه، فقد يفهم منها العامة وأشباه العامة أن الأدب يجب أن يُسخر في سبيل الطعام والشراب، وما يشبه الطعام والشراب من هذه الحاجات المادية القريبة. وقد يفهم منها بعض المثقفين أن الأدب يجب أن يسخَّر لمذهب بعينه من مذاهب الإنسانية الحديثة في السياسة والفلسفة والاجتماع، وهو أن الأدب يجب أن يكون مسخرًا لإقناع العامة وأشباههم بأن الحياة مادة ليس غير، وبأن الروح وما يتصل به من العقل والقلب والملكات المختلفة، أساطير هام بها القدماء وهي لا تغني عن الناس شيئًا.
وما أظن أن أكثر الذين يرددون عبارة الأدب في سبيل الحياة يريدون هذا المذهب أو يفكرون فيه. فلنتفق إذن، إن كان من الممكن أن نتفق، على أن الحياة التي ينبغي أن يتجه إليها الأدب والتي يتجه إليها بالفعل، كما يتجه إليها العلم والفن والفلسفة، إنما هي حياة الجماعات الإنسانية من حيث إنها جماعات طامحة بطبعها إلى الرقي والسمو إلى الكمال بقدر الطاقة في جميع فروع النشاط الذي تبذل فيه جهودها على اختلافها.
وإذا اتفقنا على ذلك فإني أتحدى أصحاب الأدب في سبيل الحياة وأسألهم أن يدلوني على أدب قديم أو حديث لم يتجه إلى إرضاء هذه الحاجة الإنسانية … إلى ترقية الحياة الاجتماعية وتكميلها ونقلها من طور إلى طور. وقد يذكرون أدب الذين يريدون الفن للفن، ولكني أنصح لهم بأن يحتاطوا، فالذين يريدون الفن للفن لا يرتفعون بأنفسهم عن الجماعات الإنسانية، ولا يجعلون أنفسهم ملائكة، ولا يعيشون في السحاب، ولا يلتزمون هذه الخرافة التي تسمى البرج العاجي، ولكنهم يرون للجماعات الإنسانية نفسها كما يرون لأنفسهم أن تخلص بعض وقتها وبعض نشاطها وبعض ملكاتها للجمال من حيث هو الجمال، ولأداة الجمال التي هي الفن الرفيع أدبًا كان أو تصويرًا أو موسيقى أو ما شئت من الفنون الجميلة، ويريدون للجماعات الإنسانية كما يريدون لأنفسهم الارتفاع بين حين وحين عما يتصل بالمنافع العاجلة القريبة إلى ما هو أبقى منها وأرقى، يرون ذلك حقًّا على كل إنسان لنفسه لأنه أذكى للعقول، وأصفى للقلوب، وأنقى للأذواق، وأظهر للطباع، وأجدر بعد ذلك كله أن يتيح للإنسان حين يعود إلى حياته العملية أن يكون أخصب نشاطًا، وأكثر إنتاجًا، وأكرم على نفسه من الذين يقفون جهودهم كلها على إرضاء الحاجات وتحقيق المنافع وقضاء المآرب … وقد يصيب أصحاب هذا المذهب وقد يخطئون، ولكنهم على كل حال يرون الخير لأنفسهم وللناس فيما يذهبون إليه، فلا جناح عليهم إذن ما داموا لا يؤثرون أنفسهم بالخير من دون غيرهم، ولا جناح على غيرهم أن يخالفهم إلى مذهب غير الذي ذهبوا إليه، والمحقق أن الأدب الذي لا يتوخى إصلاح الجماعات الإنسانية من بعض وجوهها لم يوجد بعد. وأن الأدب منذ كان كالفن منذ كان، وكالعلم والفلسفة منذ كانا، ظواهر اجتماعية لا تستطيع أن تبرأ من ذلك حتى حين تحاوله، ولا يستطيع إنسان عاقل أن يجادل في ذلك أو يشك فيه.
وقد يرى أصحاب الأدب في سبيل الحياة أن أدباءهم المصريين الذين سبقوهم إلى الإنتاج لم يحققوا ما كان الناس ينتظرون منهم، ولم يعرضوا لمشكلات الجماعة المصرية كما كان ينبغي أن يعرضوا لها، فليطمئنوا فالأدب الذي يحقق كل ما كان ينتظر منه لم يوجد بعد، وما أرى أنه سيوجد في يوم من الأيام؛ لأن الكمال لا سبيل إليه، ولأن الجماعة الإنسانية تحيا في تطور متصل، ومعنى التطور الانتقال من حال إلى حال، ومعناه أيضًا أن تضيف الأجيال إلى ما أنتجت الأجيال السابقة، ولا ينبغي أن يلام جيل سابق لأنه لم يحقق ما يريد جيل لاحق.
وأنت لا تنتظر من أدباء القرن التاسع عشر في أي بلد من البلاد أن يحققوا ما يريده القرن الذي نعيش فيه، والعلماء الذين يعيشون الآن ويستكشفون من قوانين العلم ما لم تستكشفه أجيال العلماء التي سبقتهم لا يعيبون هذه الأجيال ولا ينكرون جهدها، وإنما يحمدون لها ما بذلت من جهد، ويقدرون ما استكشفت من العلم، ويضيفون إليه ما يستكشفون. وقل مثل ذلك في الذين يستغلون قوانين العلم للاختراع والابتكار.
والأدباء الذين يُدعَون شيوخًا الآن لا يُلامون لأن أدبهم قد لا يُرضي نزعات الشباب، ولا يلامون لأنهم لم يبلغوا ما يطمح إليه الشباب من الكمال الفني، وإنما ينبغي أن يعرف لهم الشباب ما أضافوا إلى أدب الأجيال التي سبقتهم وما جددوا بالقياس إلى أدب تلك الأجيال.
وقد ينبغي لأصحاب الأدب في سبيل الحياة من الشباب أن ينصفوا أنفسهم وألا يجوروا بها عن القصد وألا يورطوها في هذه الأحكام المخطئة الخاطئة.
فليس من الحق في شيء أن الشيوخ من أدبائنا قد أهملوا حياة الجماعة أو قصروا في علاج مشكلاتها أو صرفوا أنفسهم عنها عامدين، أو غير عامدين. وإنما الحق الذي ليس فيه شك والذي لا يجادل فيه إلا المحمقون والجاحدون، هو أن هؤلاء الشيوخ من الأدباء قد خاضوا مشكلات الحياة المصرية في شجاعة وجراءة وإقدام أتمنى مخلصًا أن تتاح لهؤلاء الشباب الذين يطلقون فيهم ألسنتهم بغير حساب.
وقِف عند أي شيخ من هؤلاء الشيوخ وقفة المنصف لنفسه ولغيره أيضًا، فسترى أنه لم ينفق حياته لاهيًا ولا ساهيًا ولم يضيِّعها عابثًا ولا لاعبًا، وإنما أنفقها جادًّا كادًّا وصابرًا مصابرًا، ومقاومًا لما رأى أنه الباطل أشد المقاومة وأقساها، ومدافعًا عما رأى أنه الحق أعنف الدفاع وأقواه، ومعالجًا من المشكلات الاجتماعية والإنسانية ما أتاح له علمه ودرايته وطبعه وتجاربه أن يعالجه.
وحدثني عن شيخ من هؤلاء الشيوخ ألَّف كتابًا أو نشر فصلًا لا يريد بتأليفه أو نشره إلا اللهو والعبث، ولا يقصد بتأليفه أو نشره إلا إيثار نفسه بالمتاع … بهذا المتاع الباطل الذي يخطر لبعض الكتَّاب من الشباب أن الأدباء قد يؤثرون به أنفسهم أحيانًا وإن كنت لا أعرف أنا واحدًا من هؤلاء الأدباء.
قف عند المازني — رحمه الله — وحدثني عن كتبه التي قرأها الناس أثناء حياته وهم يقرءُونها الآن بعد وفاته، وحدثني أي كتاب من هذه الكتب تستطيع أن تصفه بأنه لغو من القول لا ينفع قراءه حين يقرءُونه. وإن كتبه كلها تضطرب بين كتب تعليمية كتلك التي تناولت النقد الأدبي للقدماء والمحدثين الشرقيين منهم والغربيين، وكتب أخرى صوَّر فيها تجاربه ومشكلاته التي تعرض لكثير من أمثاله في أطوار الشباب والكهولة والشيخوخة وبيَّن فيها كيف لقي هذه التجارب وكيف نفذ منها، وكيف واجه هذه المشكلات وكيف قهرها واقتحم عقابها، وهو في تصوير هذه التجارب والمشكلات وفي تصوير ما وجد لها من حلول يفتح لقرائه أبوابًا من التفكير، ويعرض لهم وسائل تتيح لهم لقاء التجارب كرامًا والخروج منها كرامًا، وتتيح لهم مواجهة المشكلات مبصرين لما يأتون من الأمر وما يدعون.
وهو يخطئ مرة ويصيب مرات، شأنه في ذلك شأن الناس جميعًا، لم يفرض الخطأ على أحدهم ضربة لازم، ولم تُكتب العصمة لأحدهم في اللوح المحفوظ، وإنما هم معرَّضون للضعف الذي يورطهم في الخطأ وللقوة التي تتيح لهم الصواب. والشيء الذي لا يريد بعض الناس عندنا أن يفهموه ولا أن يقبلوه هو أن الخطأ حق من حقوق الإنسان لا ينبغي أن يلام عليه أو يدان به أو يعاقب على التورط فيه، وإنما ينبغي أن يُدل عليه في رفق وأن ينبه إليه في ود ووفاء. والله الذي هو أقدر القادرين وأعدل الحاكمين لا يعاقب الناس على خطئهم كما لا يعاقبهم على نسيانهم، وإنما يتجاوز لهم عن الخطأ والنسيان، وهو قد علَّمهم أن يبتهلوا إليه فيسألوه ألا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئُوا، وهو قد أنبأهم بأنه كتب على نفسه الرحمة، وبأن مغفرته ميسرة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من بعد ذلك ويصلحون.
فما بال قوم منا لا يعترفون للإنسان بحقه في الخطأ، وما بالهم يتبعون في ذلك مذاهب الجامحين من أصحاب الدكتاتوريات الطاغية التي لا تعفو لأحد عن خطأ، ولا تتجاوز لأحد عن نسيان.
ودع المازني إلى من شئت غيره من شيوخ الأدب مَن سبق منهم إلى جوار ربه ومن لا يزال منهم مجاورًا للناس، وحدثني عن كتبهم التي يقرؤها الناس والتي أعرض الناس عن قراءتها، أكُتبت لغوًا وعبثًا أم كُتبت تعليمًا وإرشادًا، وتوجيهًا وعلاجًا لأمور رآها الكتَّاب الشيوخ من المشكلات في حياة الناس، وأرادوا أن يدرسوها ويبينوا للناس مصادرها ومواردها، وطريق الخروج منها والتغلب عليها؟
فما عسى أن يكون الأدب في سبيل الحياة إذن إذا لم يكن أدب هؤلاء الشيوخ في سبيل الحياة؟
كل ما بين أصحاب الأدب في سبيل الحياة وبيني من خلاف هو أن الأدب بطبعه لا يمكن أن يكون إلا في سبيل الحياة. فعبارتهم هذه لا تدل على شيء ولا تجدد شيئًا ولا تدعو إلى شيء، كذلك أرى أنا. أما هم فيرون أنهم قد استكشفوا عظيمًا وجددوه تجديدًا خطيرًا، فإذا سألتهم عن هذا الشيء العظيم الذي استكشفوه وعن هذا التجديد الخطير الذي استحدثوه، لم تجد عندهم ردًّا مقنعًا، وإنما هو كلام عام عموم هذه الحياة التي يريدون أن يسخِّروا الأدب لها، مع أن الأدب مُسخَّر لها بطبعه قبل أن يريدوه على ذلك بل قبل أن يعرفوه ويشاركوا فيه.
وأنا بعد ذلك لا أرى لأحد كائنًا من يكون فردًا أو جماعة أن يكلف الأديب أن يوجه أدبه هذه الوجهة أو تلك، وإنما الأديب حر يكتب ما يشاء ويكتب كيف يشاء، والقرَّاء أحرار يقرءُون إن شاءوا، ويُعرِضون إن أحبوا، ويسخطون إن أثار فيهم الأدب سخطًا، ويرضون إن أثار فيهم الأدب رضًى، وليس بين الأدب وبينهم إلا هذا. ليس لهم على الأديب حق أن يكتب لهم ما يشاءون، وليس للأديب عليهم حق أن يرضوا عن كل ما يكتب، وإن لم يعجبهم ولم يقع منهم موقع الرضى.
هذا كلام قلته ألف مرة ومرة ولن أملَّ تكراره وإن غاظ بعض الناس وأحرج الصدور؛ لأن تكرار الحق لا ينبغي أن يمل.
وأعود إلى الحياة في سبيل الأدب فأسأل: أيريد الناس الذي يذوقون الأدب ويحبونه أن يُقدَّم إليهم هذا الأدب بين حين وحين أم لا يريدون؟ فإن تكن الأولى فأيسرها يوجب عليهم أن يُخلُّوا بين الأدباء وبين حريتهم في حياتهم هذه التي يفنونها على الأدب وقتًا، وأن ييسِّروا لهم هذه الحياة ويكفلوا لهم هذه الحرية الخصبة إن كان فيهم فضل من خير وبقية من حب لأنفسهم، فهم ينعمون بأدب الأدباء أكثر مما ينعم به الأدباء أنفسهم. وإن كانت الثانية فلا عليهم أن يكتب الأدباء أو لا يكتبوا، ولا عليهم إن كتب الأدباء لهم ما يحبون أو ما لا يحبون، فقد ينبغي إذا بخلوا بالخير على الأدباء ألا يجودوا عليهم بالشر.
ليصدقني القرَّاء أن شيوخ الأدباء في هذا العصر الحديث وقدماء الأدباء في العصور التي سبقت هذا العصر كانوا أعلم منهم بما للأدب عليهم من حق، وأفقه منهم بما للحياة الاجتماعية نفسها عليهم من حق؛ فلم يضيعوا وقتهم وجهدهم وقوتهم في البحث عن الأدب أيكون في سبيل الحياة أم في سبيل الموت، وإنما أنفقوا وقتهم وجهدهم ونشاطهم في قراءة الأدب وفهمه وذوقه وتمثُّله، وفي درس هذه الحياة الخصبة الممتعة المليئة بما يسوء وما يسر وبما يحزن وما يلذ، والتي كُتِب على الأدباء أن يحيوها، ووجدوا في هذا كله متاعًا لأنفسهم وللناس ونفعًا لأنفسهم وللناس. وأنا بعد ذلك لا أريد من الأدباء وحدهم أن يحيوا في سبيل الأدب لأنهم ليسوا في حاجة إلى أن أريدهم على ذلك، فهم مُيسَّرون في طبعهم لهذه الحياة، وإنما أريد من شباب الأدباء أن يعرفوا كيف يخلصون نفوسهم وقلوبهم للحياة في سبيل الأدب لا للأدب في سبيل الحياة.
وأريد آخر الأمر من القراء جميعًا أن يخلصوا جزءًا من نفوسهم وجزءًا من وقتهم وجزءًا من نشاطهم للحياة في سبيل الأدب، وأن يأخذوا أنفسهم ساعة من نهار أو ساعة من ليل تقصُر أو تطول ليفرغوا فيها للقراءة والذوق، يقرءُون ويفهمون ويذوقون، لا ليقضوا الوقت ولا ليلتمسوا من القراءة والفهم والذوق منفعة مادية عملية قريبة أو بعيدة، بل ليغذوا عقولهم وقلوبهم ويمتعوا نفوسهم وأذواقهم، وليشعر كل واحد منهم بأن له ساعة يؤثرها على ساعات النهار والليل كلها؛ لأنها تشعره وتسعده بأنه إنسان بالمعنى الصحيح الدقيق الرفيع لكلمة الإنسان.
وإذا أنفق القارئ أكثر يومه حيوانًا يجد ويكد ليعيش هذه المعيشة الدنيا التي يحتاج إليها الجسم، فلا أقل من أن ينفق ساعة يعود فيها إلى نفسه، ويرتفع فيها على حيوانيته، ويصير فيها إلى إنسانيته الرفيعة، ويؤمن فيها بأن حياته الحيوانية لم تذهب عبثًا، وإنما أتاحت له أن يكون إنسانًا لحظات مهما تكن قصارًا فإنها عذبة نافعة جديرة بأن تُنفَق الحياة في سبيلها.