أصداء
تصل إليَّ بين حين وحين في هذه العزلة التي أويت إليها وقتًا ما، أصداء ضئيلة نحيلة لخصومات أدبية تثار في مصر.
وأحب أن أشكر قبل كل شيء أجمل الشكر وأخلصه لبعض أدباء الشباب ما يتفضلون به عليَّ أثناء غيابي عن مصر من هذه التحيات الكريمة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنهم يذكرونني ولا ينسونني. ولا عليَّ بعد ذلك أن تكون هذه التحيات ثناء أو هجاء، فكلا الأمرين عندي سواء.
وأحب أن يعلم هؤلاء الأدباء من شبابنا أني لم أتلقَّ قط ما يُهدَى إليَّ من الثناء إلا في كثير جدًّا من التحفظ والشك، ولم أتلقَّ قط ما يُهدَى إليَّ من الهجاء إلا في كثير جدًّا من الغبطة والرضى. ذلك أني أعرف من مواضع النقص في نفسي أشياء قد لا يعرفها الذين يثنون عليَّ، ولو قد عرفوها لضنُّوا بثنائهم أو اقتصدوا فيه.
وأعرف أيضًا من مواضع النقص أكثر مما يعرف الذين يهدون إليَّ الهجاء، فإذا قرأت هجاءهم انتفعت به أولًا وحمدت الله على العافية بعد ذلك.
وقد وصلت إليَّ أصداء حملة رقيقة أو عنيفة نهض بها بعض الكتَّاب ليثبتوا أني لا أُحسِن كتابة القصة، بل ليثبتوا أني لا أُحسِن الكتابة في القصة ولا في غيرها. وهذا كله حق لا شك فيه؛ فما زعمت في يوم من الأيام أني قاصٌّ أجيد فن القصص أو أقارب إجادته. ومن أين لي إتقان هذا الفن أو مقاربة إتقانه وأنا لم أدرسه في مدرسة ولم أتلقَّ أصوله عن أستاذ من أساتذة النقد، ولم أحفظ هذه الشروط العشرة أو العشرين أو التي هي أقل أو أكثر من العشرة أو العشرين، والتي ليس من حفظها بد، وليس من رعايتها بد أيضًا، ليكون الكاتب قاصًّا متقنًا لفنه، ولتكون القصة التي ينتجها رائعة بارعة تستحق أن تسمى قصة وتستحق أن يقرأها القراء، وتستحق بعد ذلك أن يتخذها القُصَّاص الناشئون نموذجًا ومثالًا.
لم أزعم قط أني قاص؛ لأني لم أتعلم فن القصة، ولست أدري أين يستطيع الناس أن يتعلموه، ولم يرزقني الله هذه الموهبة فأتقن فن القصة دون أن أتعلم أصوله.
وأحب أن أرضي هؤلاء الأدباء الكرام من شبابنا فأؤكد لهم مخلصًا أني لم أعتقد قط أني كاتب مُجِيد، ولم أصدق قط أني أديب ممتاز، ولم أفهم قط هذا اللقب الذي أُهدِيَ إليَّ فجأة ومن غير وجه، وعلى غير تواطؤ من الذين أهدوه إليَّ فسمَّوني عميد الأدب العربي.
كل هذه الصفات أهداها إليَّ القراء دون أن أطلب إليهم إهداءها، ودون أن أُومِن لهم بالحق في إهدائها إليَّ دون غيري من الأدباء، ودون أن أطمئن إليها حين أهديت إليَّ. والذين يعرفونني من الخاصة والأصدقاء يشهدون من غير شك أني لم أسمع قط ثناءً عليَّ ولا تقريظًا لي إلا رفعت كتفي وهززت رأسي ساخرًا من نفسي ومُعرِضًا عن الثناء والتقريظ.
فليطمئن الأدباء من شبابنا وليعلموا أنهم حين يسيئون الظن بأدبي وبإتقاني لفن القصة أو غيره من الفنون، لا يبلغون من سوء الظن بعض ما أبلغ أنا حين أنظر إلى نفسي وحين أنظر إلى ما أنتج من الآثار.
وأنا أريد أن أزيدهم رضى إلى رضى واطمئنانًا إلى اطمئنان، فأؤكد لهم مرة أخرى أن سوء الظن بنفسي وأدبي لا يقف عند هذا الحد الذي صورته لهم، وإنما يتجاوزه إلى أشياء أخرى لست أدري كيف لم تخطر لهم إلى الآن؛ فبعضهم مثلًا يراني أزهريًّا، وقد نشأت في الأزهر ما في ذلك شك، ولكن ما رأيهم في أن الأزهريين قد لفظوني منذ زمن بعيد؟ أقصوني عن الأزهر حينًا ما، ثم ردوني إليه بعد ذلك. فلما تقدمت لامتحانهم نهائيًّا وظننت أني سأظفر بإجازته الأخيرة ردوني عن هذه الإجازة أعنف رد، فحمدت الله على السلامة، وقنعت من الغنيمة بالإياب. أنا إذن أزهري عند بعض الناس وغير أزهري عند الأزهريين أنفسهم، فأنا ساقط بين كرسيين كما يقول الفرنسيون؛ يرفضني الأزهريون لأنهم لم يمنحوني إجازتهم، ويرفضني المثقفون ثقافة أجنبية لأني أزهري لا أعرف من ثقافتهم هذه الأجنبية إلا القشور. والغريب أن كلمة القشور هذه كُتِبت عليَّ منذ أول الشباب، فقد كان شيوخنا في الأزهر يعيبون عليَّ طلب الأدب الذي كانوا يرونه قشورًا، والتقصير في طلب اللباب الذي هو العلم الأزهري الخالص.
كنت طالبًا للقشور عند الأزهريين، وأنا متعلق من الثقافات الأجنبية بالقشور عند المتأصلين في هذه الثقافات، فأنا صاحب القشور شابًّا وصاحب القشور شيخًا، قد كُتب عليَّ ألا أعرف من كل شيء إلا قشوره. ورحم الله لبيدًا فقد أحسن لي ولأمثالي النصيحة حين قال:
وأذكر أني حين كنت أستاذًا في الجامعة كنت أصدر بعض الكتب كما يصدر الأساتذة الجامعيون بعض الكتب، فكان الناقدون لهذه الكتب يقولون: ما لهذا الرجل وللبحث العلمي والأدبي مع أنه ليس منهما في شيء؟ هلا أنفق جهده في هذا الأدب الخالص الذي يحسنه، وفي هذه الفصول الأدبية التي يتقنها وتنشرها له الصحف راضية ويقرؤها القراء مشغوفين بها؟ فإذا أصدرتُ كتابًا من كتب الأدب الخالص قال الأدباء الخالصون المخلَصون: ما لهذا الرجل وللأدب يخوض فيه وليس منه في شيء، وإنما هو صاحب بحث أدبي وعلمي فما له لا يقصر جهده على ما يحسن؟ وما له لا يعيش جامعيًّا كما أراد الله له أن يعيش؟ وما له يقحم نفسه فيما لا علم له به ولا غناء له فيه؟ أنكرني الجامعيون إذن في بعض الوقت وأنكرني غير الجامعيين من الأدباء في بعض الوقت أيضًا.
وكذلك كنت دائمًا ضائعًا؛ يأبى الأزهر أن أكون أزهريًّا، ويأبى غير الأزهريين إلا أن أكون أزهريًّا، وتأبى الجامعة أن أكون جامعيًّا، ويأبى غير الجامعيين من الأدباء أن أكون إلا جامعيًّا. ويصدق فيَّ قول جرير في هجاء بعض معاصريه:
والغريب أني لم أحاول أن أفرض نفسي على الأزهريين، ولا على غير الأزهريين، كما لم أحاول أن أفرض نفسي على الجامعيين، ولا على غير الجامعيين، وإنما حملني الله — عز وجل — عبئًا من أعباء الحياة فحاولت أن أنهض به كما استطعت، فأرضيت قليلًا من الناس ثم لم ألبث أن أسخطتهم وأسخطت كثيرًا من الناس ثم لم ألبث أن أرضيتهم، ثم اضطربت الأمور أي اضطراب واختلطت أي اختلاط وإذا أنا الآن لا أفرق بين الراضين عني والساخطين عليَّ؛ لأني لا أميز أولئك من هؤلاء. وأغرب من هذا كله أني لم أرض عن نفسي قط ولم أعرفها في يوم من الأيام، وإنما سخطت عليها دائمًا وأنكرتها دائمًا. وأشد من هذا كله غرابة، أني لا أستطيع أن أحمل نفسي على الصمت الذي يريحني ويريح مني. لا أستطيع أن أحمل نفسي على الصمت؛ لأنها تأبى إلا الكلام حين يوجد موضع للكلام، ولأني إن أكرهتها على ما لا تحب واضطررتها اضطرارًا إلى الصمت وحملتها على الإغراق فيه؛ جاءني الراضون عني والساخطون عليَّ فاستكرهوني على القول وأخرجوني من العزلة وخلطوني بأنفسهم وأشركوني في خصوماتهم ومشكلاتهم التي لا تنقضي.
ليسخط عليَّ من الأدباء الشباب والشيوخ من شاء إذن، فلن يكون سخطهم عليَّ مهما اشتد أعظم من سخطي على نفسي، وليرضَ عني من شاء من أدباء الشباب والشيوخ، فلن يستطيع رضاهم عني مهما يعظم أن يرضيني عن نفسي. ولكنْ هناك شيء لا أفهمه على كثرة ما حاولت أن أفهمه.
فقد وصلت إليَّ أصداء تنبئني بأن بعض أدبائنا لا يرون أني لا أحسن كتابة القصة فحسب، بل يرون أني عقبة في سبيل إتقان القصة. أعترف بأني لا أفهم هذه العقبة ولا أعرف من أين تأتي ولا أعرف كيف تكون، فالأصل أن الذين لا يحسنون فنًّا من الفنون لا يكونون عقبة في سبيل إحسان هذا الفن، وإنما يمر المجودون للفن بهم كرامًا لا يأبهون لهم ولا يقفون عند فنهم ذاك الرديء. وأشهد أن كتَّابًا مجودين للقصة في مصر قد كتبوا فأحسنوا الكتابة وقصوا فأجادوا القصص، لم أحُلْ بينهم وبين الإحسان والإجادة. فقد أحسن الأستاذ تيمور وجوَّد، وما أراه شعر قط أني كنت عقبة في سبيل إحسانه وتجويده. وأحسن غيره من قُصَّاص الشباب وجوَّدوا ولم يروني عقبة في سبيل إحسانهم وتجويدهم.
وما أريد مع ذلك أن أكون عقبة في سبيل أحد، ولكني أحب أن يعلمني هؤلاء الأدباء كيف أزيل هذه العقبة من سبيلهم، وكيف ألغيها من طريقهم إلغاءً. أيكون هذا بالإعراض عن الكتابة وبالتزام الصمت، ومن الذي يملك أن يُكرِه إنسانًا على الصمت أو يحرِّج عليه في الكتابة؟
وقد أنبأت هؤلاء الأدباء بأني حاولت ذلك فلم تجبني نفسي ولم يجبني الناس إليه. أيكون ذلك باستصدار قانون يُكرِهني على الصمت إكراهًا ويحظر عليَّ الكتابة حظرًا؟ وكيف السبيل إلى استصدار هذا القانون والأصل أن القوانين لا تشرع لأفراد بأعينهم، وإنما تشرع للكافة؟ وما أعرف أن حكومة في مصر أو غير مصر تستجيب لمثل هذا السخف فتشرع قانونًا أو تصدر أمرًا يفرض الصمت على رجل بعينه من الناس. أيكون هذا باستصدار قانون يُحِيل الكتَّاب على المعاش إذا بلغوا سنًّا بعينها ولتكن سن الستين مثلًا؟ ولكن ما ذنب كتَّاب آخرين ليسوا عقبة في سبيل القصة وليسوا عقبة في سبيل شيء ولا في سبيل إنسان؟
ما ذنب هؤلاء الكتَّاب وما ذنب قرَّائهم الذين يؤثرونهم بالحب، ويقرءُون لهم مشغوفين به حراصًا عليه؟ أم يكون هذا بأن يُمنع القرَّاء من قراءة ما أكتب لتخلو لهؤلاء الأدباء وجوه القراء؟ ولكن كيف السبيل إلى منع القراء من أن يقرءُوا؟ أيكون هذا بقانون؟ فقد عدنا إلى الشطط الذي أشرت إليه آنفًا. أم يكون هذا بتكوين عصابات تطوف على الناس وتتقصى أمورهم وتعاقبهم إن قرأوا مما أكتب قليلًا أو كثيرًا؟ ولكن كيف يستقيم تكوين هذه العصابات وتعقبها للقراء في بلد متحضر يقوم أمره على حماية الأمن والنظام وكفالة الحرية للناس يكتب منهم من يشاء أن يكتب، ويقرأ منهم من يشاء أن يقرأ، ليس عليهم حرج فيما يكتبون أو يقرءُون ما داموا لا يخرجون على القوانين.
الحق أني لا أعرف كيف ألغي هذه العقبة من طريق شبابنا هؤلاء الأدباء. فليدلوني إذن على الوسيلة التي تتيح لي أن أرضيهم إن كان إلى إرضائهم سبيل.
وأنا بعد ذلك أنصح لهم مخلصًا بأن يكونوا رجالًا وبأن يكونوا أولي حزم وعزم ومضاء، وبأن يقهروا ما يقوم في سبيلهم من المصاعب والعقاب دون أن يحتاجوا إلى أن يقهرها لهم الناس. فقد كنا شبابًا قبل أن يولدوا، وكانت العقاب في سبيلنا كثيرة منبثة فذللناها لأنفسنا بأنفسنا، لم يمهد لنا أحد، ولم ييسر لنا أحد طريقنا، ولم ييسر لنا أحد عسيرًا، ولم يسعَ إلينا القراء وإنما سعينا نحن إليهم، ولم تسقط علينا هذه الأصوات البعيدة التي يتحرقون شوقًا إليها، وإنما احتملنا ألوانًا من الجهد وأخذنا أنفسنا بضروب من العنف، وجاهدنا واجتهدنا وصبرنا وصابرنا واحتملنا فنونًا من الأذى وبلونا ألوانًا من المرارة حتى أتيح لنا ما يحسدوننا عليه الآن، وأمرهم في ذلك ليس غريبًا وإن كان فيه كثير من القسوة الممضة والجحود البغيض. فما أكثر ما يتعجل الأبناء رحيل الآباء، وما أكثر ما يتبرم الشباب بحياة الشيوخ، وما أكثر ما تستطيل الأجيال الناشئة أعمار الأجيال التي سبقتها إلى الحياة! والبر كل البر في غير ما تمتلئ به قلوب هؤلاء الشباب.
فليصبروا وإن كان الصبر شاقًّا، وليكظموا ذات نفوسهم وإن كان كظم ذات النفوس عسيرًا، ولينتظروا بشيوخهم حتى يفارقوهم في سعة ودعة وليذكروا قول الشاعر العربي القديم:
وصدى آخر وصل إليَّ في هذه العزلة النائية فأنبأني بخصومة أثارها الأستاذ سلامة موسى بين كبار الأدباء. ولست أدري لماذا أقحمني الأستاذ سامي داود في هذه الخصومة، مع أني لم أعلم بها إلا من مقاله هذا الأخير، ولم أشارك فيها بالطبع من قريب ولا من بعيد؟ ولست أكتب عنها الآن لأشارك فيها؛ فموضوع الخصومة في نفسه أهون شأنًا وأقل خطرًا من هذا العناء. ومصدر هذه الخصومة فيما يظهر هو أن الأستاذ سلامة موسى يرى أن القصة المصرية تافهة وأن كتَّابها تافهون وأنه لا يصبر على قراءة إنتاجهم.
ومن الحق المطلق للأستاذ سلامة موسى أن يرى في القصة المصرية وكتَّابها ما يشاء، ومن الحق الذي لا ينازعه فيه أحد أن يصبر على قراءة قصصهم، أو لا يصبر. ومن حق غيره بالطبع أن يرى في القصة المصرية وكتابها رأيًا آخر يخالف رأي الأستاذ سلامة موسى إلى أبعد آماد الخلاف. وأنا من هؤلاء الذين يرون في القصة المصرية غير ما يرى الأستاذ الكبير سلامة موسى؛ لأني أقرأ كثيرًا مما ينتجه قُصَّاصنا ولا أصبر على قراءته فحسب، بل أحرص على هذه القراءة أشد الحرص، وأجد فيها المتاع كل المتاع، وقد أعلنت ذلك في غير موضع. وأنا أرى من السرف كل السرف أن يُقضى في كلمتين أو كلمات على هذا الفن الرائع الذي استحدثه المصريون في أدبنا المعاصر، والذي من حق مصر أن تفاخر بأن أبناءها كانوا من السابقين إليه، ومن المبرزين فيه. وليس على القصاص المصريين بأس أن يغض منهم الأستاذ سلامة موسى ما دام قراؤهم يرضون عنهم، وما دامت آثارهم قد جاوزت حدود وطنهم المصري، وما دام بعض هذه الآثار قد جاوز حدود العالم العربي نفسه إلى العالم الغربي فترجم إلى لغات أوروبية مختلفة.
والذي أعلمه أن آثار تيمور وتوفيق الحكيم ليست غريبة بالقياس إلى الفرنسيين والإنجليز، والذي أعلمه أيضًا أني قرأت في هذه الرحلة الأخيرة مقالًا طويلًا قيمًا بالفرنسية لأحد الأدباء الدومنيكيين عن قصة للأستاذ يوسف السباعي هي قصة «السقا مات». وإن هذا الراهب الدومنيكي قد حدثني عن هذه القصة حديث المعجب بها، وسألني عن قصص أخرى مصرية ليقرأها ويكتب عنها فدللته على بعض ما أحب من القصص، وفي مقدمته قصص الأستاذ نجيب محفوظ. لا بأس على قُصاصنا إذن أن يسخط عليهم الأستاذ سلامة موسى ما دام غيره لا يرى فيهم هذا الرأي، وإنما يقدرهم ويكبرهم ويقرأ لهم ويستزيدهم من الإنتاج، ولكن الأستاذ سلامة موسى فيما يظهر لم يقف عند ازدراء القصة المصرية وحدها، وإنما ازدرى الأدب المصري المعاصر كله إلا أدبه هو بالطبع.
ثم لم يقف عند الازدراء بل قضى على هذا الأدب بأنه غير صالح للبقاء، وبأن شيئًا منه لن يقرأ بعد عشرة أعوام. ومن حق الأستاذ سلامة موسى كذلك أن يزدري الأدب المصري المعاصر وأن يحكم عليه في عنف أو رفق وفي قسوة أو لين.
وليس على الأدب المعاصر بأس من حكم الأستاذ عليه وازدرائه له، ما دام غير الأستاذ من الناس يستطيع أن يكبر ما ازدرى، وأن يعرف ما أنكر، وأن يحب ما كره. ولكن الشيء الغريب حقًّا هو سبق التاريخ والحكم عليه قبل أن يكون، فمن يدري أيبقى الأدب المصري المعاصر حتى يقرأه الأبناء والأحفاد، أم يلقى عليه الستار قبل أن ينقضي العصر الذي أنشئ فيه؟ أما أنا فأعترف مخلصًا أني عاجز كل العجز عن أن أحكم بأن كتابًا من الكتب صالح للبقاء، قادر أو غير قادر على أن يعيش حتى يقرأه الأبناء والأحفاد؛ ذلك لأني لا أعرف من مزاج هؤلاء الأبناء والأحفاد شيئًا يمكِّنني من أن ألائم بينه وبين ما يكتب الأدباء المعاصرون. والله لا يكلف الأديب المعاصر أن يكتب للذين يعاصرونه من الناس ثم للأجيال التي تأتي بعدهم على مر التاريخ، وإنما تلك هبة يتيحها الله لبعض الأدباء النابهين المتفوقين ويصرفها عن بعضهم الآخر.
ولست أدري أكان شكسبير مؤمنًا بأن آثاره سيتاح لها من البقاء والانتشار ما يجعلها آثارًا إنسانية خالدة، أم كان يرضى من آثاره هذه بأن تعجب النظارة حين تُعرَض عليهم ولا يعنيه بعد ذلك أتبقى بعده أم تمضي بعده؟
وقل مثل ذلك بالقياس إلى أكثر الأدباء الذين أنتجوا آثارهم في الأزمنة والأمكنة المختلفة. فكروا في فنهم وفي معاصريهم، ولم يفكروا في شيء مما وراء ذلك. وأتيح البقاء لآثار بعض الأدباء، لا لأنهم أرادوا هذا أو قصدوا إليه أو اهتموا له، بل لأنهم وفقوا إلى إنتاج أشياء كان من حظها ألا تموت معهم. وقليل من الأدباء فكروا في الأجيال المقبلة، دفعهم إلى ذلك الغرور أو دفعهم إلى ذلك الإخلاص في حب الناس وفي حب الفن أيضًا، واستجاب الزمان لبعضهم فأبقى آثارهم، وأعرض عن بعضهم الآخر فطوى آثارهم حين طواهم وبعد أن طواهم بقليل. وما أكثر الأدباء الذين بهروا معاصريهم وملكوا عليهم أمرهم كله واستأثروا بقلوبهم وألبابهم وأذواقهم حتى صنعوا صنيع الأستاذ سلامة موسى فسبقوا التاريخ وقضوا لهؤلاء الأدباء ولآثارهم بالخلود، ثم مضوا ومضى معهم هؤلاء الأدباء ومضت معهم هذه الآثار، فلم يبق منها شيء. والآثار الباقية قليلة جدًّا بالقياس للآثار الخالية التي التهمها الزمان، وما أكثر ما يلتهم الزمان من الناس وآثار الناس!
ومن الأدباء من لم يحفل بهم معاصروهم ولم يلتفتوا إلى آثارهم؛ لأنهم لم يذوقوها أو لم يفهموها، فصنعوا صنيع الأستاذ سلامة موسى وسبقوا التاريخ وقضوا على آثار هؤلاء الأدباء بالموت في حياة أصحابها، ثم انقضت أجيال وأجيال وإذا هذه الآثار تظفر بحياة لم يكن أحد يقدِّر أنها ستظفر بها، وإذا الناس يقدرونها ويكبرونها ويتنافسون فيها ويهدون إلى أصحابها من الثناء والإعجاب بعد موتهم بالزمن الطويل أو القصير ما كانوا في حاجة إلى أيسره أثناء حياتهم ليشعروا بشيء من الرضى وليستمتعوا بشيء من راحة النفوس والضمائر.
كان الأستاذ سلامة موسى عابثًا إذن حين قضى بغير علم، وحين حكم فيما لا يملك الحكم فيه. وكان الذين خاصموه من الأدباء المعاصرين عابثين أيضًا؛ لأنهم قضوا بغير علم وحكموا فيما ليس لهم أن يحكموا فيه. وصنع الله للإنسان، فإن الغرور يجشمه أهوالًا عظامًا. ما الذي يعني الأديب من أن يبقى أدبه بعده أو أن يموت بموته؟ لقد كنت أفهم حرص الأديب على بقاء آثاره لو وثق بأنه سيحس الرضى والغبطة حين تستبق الأجيال بعد موته إلى آثاره قراءةً وشرحًا ونقدًا وتحليلًا وتأويلًا وتعليلًا.
ولكن من الذي يستطيع أن ينبئ بأن هوميروس يحس شيئًا من النعيم والرضى عن نفسه وعن فنه حين يرى تهافت الأجيال على آثاره، وحين يرى أساتذة الجامعات يتحدثون عنها إلى الشباب، ويشقون بدرسها وتأويلها أكثر مما شقي هو بإنتاجها وإذاعتها. ورحم الله أبا الطيب حين قال في آثاره إنه ينام ملء جفونه عنها وعن مشكلاتها والناس يسهرون عليها ويختصمون فيها. أتراه رضي وابتهج بهذه الشروح التي لا تحصى لديوانه، وبذلك العيد الألفي الذي أقامته له البلاد العربية منذ سنين؟ وقل مثل ذلك بالقياس إلى أبي العلاء وإلى كثير غيره من الأدباء الخالدين.
عبث إذن تلك الخصومة بين الأستاذ سلامة موسى والأدباء المعاصرين، ولكن الأدب في حاجة إلى شيء من العبث، وهو كذلك في حاجة إلى شيء من الغرور ليعيش ويزدهر وليملأ الدنيا ويشغل الناس.
ومن أجل هذا ألفت الأستاذ سامي داود إلى شيء من القصد في حكمه على الأدباء المعاصرين شيوخهم وشبابهم، فهم لم يكونوا هدامين حين اختصموا وإنما كانوا بنائين. والخصومة قوام الأدب، الخصومة بين الأجيال القديمة والحديثة، والخصومة بين الأدباء الذين يعيشون في جيل واحد. وأكاد أقول إن الخصومة قوام الحياة. ولأمرٍ ما قال الناس منذ أقدم العصور إن الحياة صراع وإن الحياة جهاد.
وهل يعرف الأستاذ سامي داود عصرًا عاش فيه أدباء دون أن يختصموا ودون أن يعنف بعضهم ببعض أحيانًا ويرفق بعضهم ببعض أحيانًا أخرى؟ وتبقى خصوماتهم بعد ذلك متاعًا للأجيال التي تتعاقب على مر العصور.
وهل المذاهب الأدبية المختلفة والمذاهب الفلسفية المختلفة إلا نتيجة للخصومات بين الأدباء والفلاسفة؟ أحق أن الخصومة بين العقاد والمازني وشوقي لم تكن إلا تجريحًا وهدمًا؟ أم الحق أن هذه الخصومة قد فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبوابًا جديدة في الفن وآفاقًا جديدة في النقد، وعلَّمتهم أن الشعر لا ينبغي أن يكون تقليدًا للقدماء ومحاكاة لهم في رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وروعة النظم مهما تكن مكانة هؤلاء الأدباء ومهما يعظم حظهم من التفوق والنبوغ، وإنما ينبغي أن يكون الشعر مقتطعًا من الحياة التي يحياها الناس في العصر الذي يقال فيه، مقتطعًا منها وسابقًا لها أيضًا، وفاتحًا لقرائه وسامعيه آفاقًا جديدة في التصور والحس وفي الشعور والخيال؟ ولو لم يكن للعقاد والمازني من فضل في نقدهما لشوقي خاصة ولمذاهب المقلدين في الشعر عامة إلا أنهما فتحا للمصريين أبوابًا ونوافذ رأوا منها ما كان من الحق عليهم أن يروا، وعرفوا منها ما كان من الحق عليهم أن يعرفوا من المذاهب الحديثة عند الغربيين في الشعر والنقد والأدب بوجه عام، لكان هذا الفضل عظيمًا. فكيف وهما قد نهضا بهذا العبء في وقت كان التعليم فيه ضئيلًا هزيلًا لا يغني عن المعلمين والمتعلمين شيئًا؟ والمصريون بعد ذلك لم يخسروا شيئًا بهذا النقد الذي يسميه الأستاذ سامي داود تجريحًا وهدمًا وأسميه أنا تجديدًا وبناءً.
فالعقاد والمازني لم يهدما شوقي ولم يغضا من قدره، وإنما وضعاه من التاريخ الأدبي حيث يجب أن يكون. والناس ما زالوا يقرءُون شعره ويتناولونه بالدرس والنقد ويرون شوقي أمير الشعر العربي في وقته، وهم مع ذلك يقرءُون نقد العقاد والمازني فيرون فيه مذهبًا أو مذاهب جديدة في الأدب كان لها آثارها الخطيرة فيما أنتج العقاد والمازني وغيرهما من شعراء الشباب وكتَّابهم في ذلك الوقت.
وقد ذكر الأستاذ سامي داود أني بايعت الأستاذ العقاد بإمارة الشعر في وقت من الأوقات وأن هذه البيعة كانت سياسية اقتضتها ظروف خاصة. وأحب أن أؤكد للأستاذ أني لم أبايع العقاد بإمارة الشعر وما كان لي أن أبايعه؛ لأني لم أكن شاعرًا، وإنما قلت مخلصًا غير مُحابٍ ولا متأثر بالسياسة ولا مستعد للرجوع فيما قلت.
قلت إن الشعراء يستطيعون أن يدفعوا لواء الشعر إلى العقاد بعد أن مات حافظ وشوقي، فهو يستطيع أن يحمل هذا اللواء مرفوعًا منشورًا وأن يحتفظ لمصر بمكانتها في الشعر الحديث.
ولم أغير ولن أغير مما قلت شيئًا إلا أن يظهر شاعر جديد يتفوق على العقاد. فللعقاد شعر رائع بارع رصين متين لا يخدع ببهرج اللفظ، ولا يسحر بروعة الأسلوب، وإنما يعجب باللفظ والأسلوب والمعنى جميعًا.
وللعقاد شعر أقل ما يوصف به أنه يدل على شيء، ويدل على شيء من حقه أن يحبب الشعر إلى الناس. وقد خاصمت العقاد في غير موطن من مواطن الخصومة؛ خاصمته في السياسة وخاصمته في الأدب، وخاصمته في غير السياسة والأدب أيضًا. ولكن هذه الخصومة لم تغضَّ من قدر العقاد في نفسي، وما أظن أن بين لدات العقاد وأترابه ومعاصريه من يقدره ويكبره مثل ما أقدره أنا وأكبره.
وليس يعنيني أن يكون رأي العقاد فيَّ كرأيي فيه، وإنما الذي يعنيني أن أقول الحق وإن كرهه الكارهون وإن كرهه العقاد نفسه.
والذين عاصروا خصوماتي للعقاد يذكرون من غير شك أني أثنيت على أدبه في جريدة السياسة حين كانت الخصومة بين الوفديين والدستوريين كأعنف ما تكون الخصومات. لم يمنعني ذلك من أن أسجل أنه كاتب عظيم وشاعر ممتاز.
وقد كانت الحرب سجالًا بينه وبيني فلم يمنعه ذلك من أن يقوم مقام الرجل الكريم في مجلس النواب، فيدافع عني حين كان الوفديون جميعًا عليَّ حربًا.
وقد خاصمت الرافعي — رحمه الله — كما خاصمه العقاد، وخاصمت المازني وهيكلًا وغير المازني وهيكل كما خاصموني، ولكن ذلك لم يمنعنا في يوم من الأيام من أن نكون صديقًا يعرف بعضنا لبعض حقه، ويضمر بعضنا لبعض ما يضمر الصديق للصديق من الوفاء.
وما أعرف أن الخصومة بين العقاد وبيني قد انقضت، فما دام كلانا يكتب فالخصومة بيننا ممكنة، ولكنَّا قوم نعرف كيف نختصم دون أن تفسد الخصومة رأي أحد منا في صاحبه.
وقد خاصمت توفيق الحكيم أو خاصمني توفيق الحكيم. وسله إن شئت عما تركت هذه الخصومة في نفسه ولا تسلني أنا عما تركت هذه الخصومة في نفسي، فكل الناس يعرف أن الخصومة بين الناس وبيني مهما تشتد فهي أهون شأنًا وأقل خطرًا من أن تترك في نفسي أثرًا.
وقد تعلم الأستاذ سامي داود في الجامعة فيما تعلم أن جريرًا والفرزدق والأخطل قد أنفقوا أعمارهم يهجو بعضهم بعضًا فلم يهدم أحد منهم أحدًا، ولم يخرج أحد منهم أحدًا من زمرة الأدباء. وآية ذلك أننا ما نزال نكتب ويقرأ الناس. وآية ذلك أن الأستاذ سامي داود ما زال يسمينا أدباء كبارًا سواء أكان يريدنا كبارًا في السن أو كبارًا في المقام.
ما زال يرانا أدباء وما زال ينتظر آراءنا في كثير من المشكلات الأدبية التي تعرض بين الشيوخ والشباب. ولعل الأستاذ سامي داود يعرف الآن طرفًا من رأيي في كتاب الشباب وفي قُصَّاصهم خاصة. وأنا أريد أن يطمئن وأن يرضى فأنا أكثر الناس قراءة لأدب الشباب، أقرؤه مطبوعًا وأقرؤه مخطوطًا، وأشجع أصحابه على الإنتاج سرًّا وإعلانًا وألقى في ذلك قليلًا من الوفاء وكثيرًا من الجحود، فأشكر للأوفياء وفاءهم وأعفو للجاحدين عن جحودهم؛ لأني حين أكتب لا أنتظر من الذين أكتب عنهم جزاءً أو شكورًا، ولا أرهب منهم غضبًا أو نفورًا، وإنما أكتب لأن كلمة الحق يجب أن تقال.
أما بعد فإني قد أسرفت في هذا الحديث ومن حقه أن يقف عند هذا الحد، ولكني أهدي إلى الأستاذ سامي داود تحية صادقة وأتمنى عليه أن يكون مثلي حريصًا على أن تشتد الخصومة بين الأدباء شيوخهم وشبابهم. فالأدب جذوة يذكيها الوقود وتوشك أن تخمد إذا لم تجد هذا الوقود.
فلتذكُ جذوة الأدب إذن وليسطع لهبها، ولا بأس بأن نكون نحن الأدباء وقودًا لهذه النار.