مغامرة منزل آبي جرينج

ذات صباحِ يومٍ قارس البرودة، ينهمر فيه الصقيع في شتاء عام ١٨٩٧، استيقظتُ على أحدهم يهزُّني من كتفي، وكان هولمز هو ذلك الشخص. كان يحمل شمعةً في يده أظهرت وجهه القَلِق المنحني نحوي، وأخبرني هذا بمجرد النظر إليه أن ثمة خطبًا ما.

صاح قائلًا: «هيا، يا واطسون، هيا! اللعبة بدأت مرةً أخرى، لا تقُلْ أيَّ كلمة! هيا ارتدِ ملابسك وتعالَ!»

بعد عشر دقائق كنا في سيارة أجرة نقطع بها الشوارع التي يسودها الصمت في طريقنا إلى محطة تشارينج كروس. كان ضوء فجر الشتاء الضعيف يبدأ في البزوغ، واستطعنا بالكاد رؤية الشكل العابر لعاملٍ مُبكِّر وهو يمر بجوارنا؛ إذ كان شكله غير واضح أو مميَّز في دخان مدينة لندن الضبابي. تقوقع هولمز في صمت في معطفه الثقيل، وسعدتُ بفعل الأمر ذاته؛ إذ كان الهواء شديد البرودة، ولم يكن أيٌّ منا قد تناول الإفطار. لم نشعر بالدفء الكافي إلا حين احتسَيْنا بعضًا من الشاي الساخن في المحطة، وجلسنا في مقاعدنا في قطار كِنت، وبدأ هولمز في الحديث واستمعتُ أنا إليه. أخرج هولمز رسالة من جيبه وقرأها بصوت عالٍ:

آبي جرينج، مارشام، كِنت، ٣:٣٠ صباحًا
عزيزي السيد هولمز

يسرُّني الحصول على مساعدتك الفورية في قضية تبدو مثيرةً للاهتمام. إنه أمر في مجال تخصُّصك، وسأترك كل شيء على حاله كما وجدتُه فيما عدا السيدة التي سألتقي بها، لكني أرجو منك ألَّا تضيِّع الوقت؛ إذ يَصعُب أن أترك السير يوستاس هناك.

المخلص
ستانلي هوبكنز

قال هولمز: «لقد دعاني هوبكنز للعمل معه سبع مرات، وفي كل مرة كان استدعاؤه لي مبرَّرًا بالكامل. أعتقد أنك أدرجت كل قضاياه ضمن مجموعتك، ولا بد أن أعترف يا واطسون أن لديك قدرةً مميَّزة على الاختيار تُعوِّض بعض ما أَستنكِره في قصصك. إن عادتك المميتة المتمثِّلة في النظر إلى كل شيء على أنه قصة بدلًا من كونه ممارسةً علمية دمَّرت ما كان بإمكانه أن يصبح سلسلةً تثقيفية وحتى كلاسيكية من البراهين؛ فأنت تبذل جهدًا إضافيًّا دءوبًا بالغ البراعة والدقة من أجل الوقوف على التفاصيل الحسِّية التي ربما تُمتِع، لكن ربما لا تستطيع تعليم القارئ شيئًا.»

قلتُ له، بقدر من الأسى: «لمَ لا تكتبها أنت بنفسك؟»

«سأفعل يا عزيزي واطسون. سأفعل. أنا حاليًّا مشغول للغاية، كما تعلم، لكني أعتزم قضاء سنواتِ هرمي في تأليف كتابٍ تعليمي سيركِّز بالكامل على فنِّ الاستنتاج في مجلدٍ واحد. أما بحثنا الحالي فيبدو أنه قضية قتل.»

«تعتقد إذن أن السير يوستاس هذا ميت؟»

«أعتقد ذلك؛ فيظهر فيما كتبه هوبكنز انفعالٌ بالغ، وهو ليس رجلًا عاطفيًّا بطبعه. وأفترض أيضًا وجود بعضٍ من العنف، وأنه ترك الجثة لنا لنفحصها. فإن كانت مجرَّد حالة انتحار فلن تدفعه إلى أن يُرسِل إليَّ. وأما عن إخراج السيدة، فيبدو أنها كانت محتجَزة في غرفتها في أثناء وقوع المأساة. نحن ذاهبان إلى أناس من عِلية القوم يا واطسون؛ ورق من لحاء الأشجار، والأحرف الأولى من اسم «إي بي»، وشعار نبالة، وعنوان خلاب. أعتقد أن صديقنا هوبكنز سيكون على قدر سُمعته، ونحن سنحظى بصباحٍ مثيرٍ للاهتمام. لقد وقعتِ الجريمة قبل الثانية عشرة من منتصف الليلة الماضية.»

«كيف عرفتَ هذا؟»

«عن طريق تفقُّدي للقطارات وحسابي للوقت؛ فكان من الواجب استدعاء الشرطة المحلية، وكان عليهم الاتصال بسكوتلانديارد، وكان على هوبكنز الذهاب، ثم كان عليه أن يرسل إليَّ. كل هذا لا بد أنه حدث في أثناء الليل، حسنًا، لقد وصلنا إلى محطة تشيزلهورست، وسرعان ما سنضع حدًّا لشكوكنا هذه.»

سِرنا بالسيارة بضعة أميال في الممرات الضيقة للمدينة ووصلنا إلى بوابة حديقة، فتحها لنا حارسٌ عجوز، يحمل وجهه المُنهَك تعبيرًا يشير إلى حدوث كارثةٍ رهيبة. كان الممر يمتدُّ عبر حديقةٍ مَهيبة، بين صفوف من أشجار الدردار القديمة، وينتهي بمنزلٍ فسيح تنتشر الأعمدة في واجهته، على غرار طراز تصميمات أندريا بالاديو. كان من الواضح أن الجزء الأوسط منه أشد قِدمًا؛ إذ كان مغطًّى بالعاج، لكن النوافذ الضخمة أظهرت التغييرات الحديثة التي حدثت فيه، وبدا أحد أجنحة المنزل حديثًا بالكامل. وعند مدخل المنزل المفتوح حيَّانا المفتش الشاب ستانلي هوبكنز بوجهٍ منزعج ومترقِّب.

«أنا سعيد للغاية بحضورك يا سيد هولمز، وأنت أيضًا يا دكتور واطسون! لكن في الواقع، إن عدتُ بالزمن إلى الوراء ما كنتُ لأزعجكما؛ إذ إنه منذ عادت السيدة إلى وعيها سَرَدتْ عليَّ بوضوحٍ ما حدث، ولم يبقَ أمامنا الكثير لنفعله. أتذْكُر عصابة لويشام من لصوص المنازل؟»

«ماذا؟ أتقصد أفراد عائلة راندال الثلاثة؟»

«بالضبط، الأبَ وابنَيه الاثنين، إنهم مَن فعلوا هذا. ليس عندي أدنى شك في هذا؛ فقد نفَّذوا عملية في سيدنهام منذ أسبوعين، ورآهم البعض وذكروا أوصافهم. ومن العجيب أن ينفِّذوا عملية أخرى بمثل هذه السرعة وعلى هذه المقربة الشديدة من مكان العملية الأولى، لكن لا شك في أنهم هم الفاعلون. إن العقوبة هذه المرة هي الإعدام شنقًا.»

«إذن فإن السير يوستاس قد مات؟»

«أجل، فقد ضُرب على رأسه بقضيب إذكاء نار المدفأة.»

«السير يوستاس براكينستال؛ فقد أخبرني السائق باسمه.»

«بالضبط، واحد من أغنى الرجال في كِنت. إن السيدة براكينستال في غرفة الجلوس الصباحية. مسكينة هذه السيدة؛ فقد تعرضت لتجربة شنيعة. لقد بدتْ شبه ميتة حين رأيتها لأول مرة، وأعتقد أنه من الأفضل لكَ أن تقابلها وتسمع منها وقائع ما حدث. ثم سنذهب معًا لفحص غرفة الطعام.»

لم تكن السيدة براكينستال شخصًا عاديًّا؛ فنادرًا ما رأيت في حياتي أحدًا بمثل هذه الأناقة والحضور الأنثوي والوجه الجميل. كانت شقراء، ذات شعر ذهبي وعينَين زرقاوَين، ولا شك أن لون بشرتها كان يتلاءم تمامًا مع مثل هذه الألوان، لولا ما أضْفَته عليها التجربة التي تعرَّضت لها مؤخرًا من تعب وإعياء. كانت معاناتها بدنية تمامًا مثلما كانت ذهنية؛ فكان يوجد فوق إحدى عينَيها تورُّمٌ شنيعٌ أرجواني اللون، وكانت خادمتها، وهي سيدةٌ طويلة وصارمة، تضع عليه الماء والخل بمثابرةٍ. جلست السيدة على أريكة، وأرجعت ظهرها إلى الوراء في إنهاكٍ، لكن نظرتها السريعة اليَقِظة التي رمقتنا بها حين دخلنا الغرفة، وتعبير الاستنفار البادي على ملامحها الجميلة، أظهرت جميعها أن عقلها وشجاعتها لم يتزعزعا بفعل التجربة البشعة التي مرت بها. كانت ترتدي ثوب نوم فضفاضًا لونه أزرقُ وفضيٌّ، لكن كان ثمة رداء سهرة مغطًّى بالترتر معلَّقًا على الأريكة بجوارها.

قالت السيدة بضجر: «لقد أخبرتُك بكل ما حدث يا سيد هوبكنز، أيمكنك ألَّا تعيد الأمر عليَّ مرةً أخرى؟ حسنًا، إن كنتَ تعتقد أن هذا ضروري، فسأخبر هذين السيدَين بما حدث. هل ذهبا إلى غرفة الطعام؟»

«لقد رأيتُ من الأفضل أن يسمعا القصة من حضرتكِ أولًا.»

«سأكون شاكرة إن توليتَ ترتيب الأمور؛ إذ أشعر بالرعب حين أُفكِّر في أنه ما زال مستلقيًا هناك.» ثم ارتجفتْ ودفنتْ وجهها داخل يديها، وحين فعلتْ هذا سقط الرداء الفضفاض عن ساعديها، فصاح هولمز في تعجب: «إن لديكِ إصابات أخرى، يا سيدتي! ما هذا؟» فقد ظهرت بقعتان حمراوان حديثتان على إحدى ذراعيها البيضاوين الممتلئتَيْن، فغطَّتهما بسرعة.

«لا شيء، فلا علاقة لهذا بالحادث البشع الذي وقع ليلة أمس. إذا جلستَ أنت وصديقك فسأخبركما بكل ما أعرف.

أنا زوجة السير يوستاس براكنستال، وقد تزوَّجنا منذ عام تقريبًا. وأعتقد أنه لا فائدة من محاولة إخفاء أن زواجنا لم يكن سعيدًا؛ فأخشى أن يخبرك كل جيراننا بهذا، حتى إن حاولتُ إنكار الأمر. ربما يقع الخطأ في هذا جزئيًّا عليَّ؛ فقد نشأتُ في أجواء أكثر تحرُّرًا وأقلَّ تحفُّظًا في جنوب أستراليا، وهذه الحياة الإنجليزية بكل ما فيها من آداب وتزمُّت لا تناسبني. إلا أن السبب الرئيسي يكمن في الحقيقة التي لا تخفى على أحد، وهي أن السير يوستاس كان سكِّيرًا. كان المكوث مع مثل هذا الرجل لساعة واحدة أمرًا بغيضًا، فلك أن تتخيل معنى أن ترتبط سيدةٌ حساسةٌ ومفعمة بالحيوية بمثل هذا الرجل ليلَ نهار. إن اعتبار هذا الزواج ملزمًا أمرٌ شائن، وجريمة ونذالة. وأقول إن قوانينكم البشعة ستجلب اللعنة على هذا البلد؛ إذ لن يُكتَب لهذا الشر أن يستمر.» اعتدلتْ للحظة في جلستها، واحمرَّت وجنتاها خجلًا، ولمعت عيناها من تحت الكدمة البشعة الموجودة على جبينها. ثم أعادت اليدُ القوية والمهدِّئة للخادمة الصارمة رأسها إلى الوسادة مرةً أخرى، وخمد غضبها المحتدم وتحوَّل إلى نحيبٍ انفعالي. وفي النهاية أكملت حديثها قائلة:

«سأخبركما عن الليلة الماضية. ربما تعرفان أن جميع الخدم في هذا المنزل ينامون في الجناح الحديث. أما هذا الجزء الأوسط فيتكون من غرف المعيشة مع وجود المطبخ خلفها وغرف نومنا فوقها، وتنام خادمتي تيريزا فوق غرفتي. لا يوجد شخصٌ آخر هنا، ولا يمكن لأي صوتٍ تنبيه الموجودين في الجناح البعيد؛ ولا بد أن اللصوص كانوا يعلمون هذا جيدًا، وإلا ما كانوا تصرفوا كما فعلوا.

دخل السير يوستاس غرفته في الساعة العاشرة والنصف تقريبًا، وكان الخدم قد ذهبوا بالفعل إلى مَخادعهم. لم يكن أحد مستيقظًا إلا خادمتي وقد ظلَّت في غرفتها في الطابق العلوي من المنزل حتى أطلب خدماتها. أما أنا فقد جلستُ في هذه الغرفة حتى الساعة الحادية عشرة منهمكة في قراءة كتاب، ثم تجوَّلتُ في الأرجاء لأتأكد من أن كل شيء على ما يرام قبل أن أصعد إلى غرفتي. كان من عادتي أن أفعل هذا بنفسي؛ لأن السير يوستاس، كما أوضحتُ من قبلُ، لم يكن موضع ثقة طوال الوقت. ذهبتُ إلى المطبخ، وإلى ملحق الخدم الخاص، وغرفة الأسلحة، وغرفة البلياردو، وغرفة المعيشة، وأخيرًا إلى غرفة الطعام. وحين اقتربتُ من النافذة التي كانت تغطيها ستائر سميكة، شعرتُ فجأة بهبوب الرياح على وجهي وأدركتُ أن النافذة مفتوحة. نحَّيتُ الستارة جانبًا ووجدت أمامي مباشرةً رجلًا كبير السن عريض المنكبين دخل لتوِّه إلى الغرفة. في الواقع كانت هذه النافذة طويلة وعلى الطراز الفرنسي، بحيث إنها تشكِّل مدخلًا على المرج. كنت أمسك بشمعة غرفتي مضاءةً في يدي، وعلى ضوئها رأيتُ خلف هذا الرجل رجلَين آخرَين، كانا على وشك الدخول؛ تراجعتُ إلى الخلف، لكن هذا الرجل هاجمني على الفور. في البداية أمسك بمعصمي، ثم بحلقي؛ فتحتُ فمي كي أصرخ، لكنه ضربني ضربةً وحشية بقبضته على عيني، وأسقطني على الأرض. لا بد أني غبتُ عن الوعي لدقائق، إلا أنني حين استعدتُ وعيي وجدتُ أنهم مزقوا حبل الجرس وربطوني بإحكام على المقعد المصنوع من البلوط والموضوع على رأس طاولة الطعام. كنتُ مربوطة بإحكام إلى المقعد بحيث لم أكن أستطيع التحرك، ومنعني منديلٌ وُضع على فمي من إصدار أي صوت. في هذه اللحظة تمامًا دخل زوجي المسكين إلى الغرفة. من الواضح أنه سمع أصواتًا مريبة؛ فجاء مستعدًّا لمثل هذا المشهد الذي رآه. كان يرتدي قميصه وسرواله، ويحمل في يده عصاه الصغيرة ذات الرأس المستدير. تحرَّك مسرعًا نحو واحد من اللصوص، لكن انحنى آخر — وكان الكبير في السن — والتقط قضيب إذكاء نار المدفأة من المِقضَب وضربه به ضربةً مروِّعة وهو يمرُّ بجواره؛ سقط على الأرض وهو يئنُّ، ولم يُصدر أي حركة بعد هذا. غبتُ عن الوعي على الفور، لكن مرةً أخرى يبدو أن هذا لم يستمر إلا بضع دقائق. وحين فتحتُ عينيَّ وجدتُ أنهم جمعوا القطع الفضية كلها من البوفيه، وأخذوا زجاجة نبيذ كانت موجودة عليه، كان كل منهم يحمل كأسًا في يده. لقد أخبرتك، أليس كذلك، أن أحدهم كان كبيرًا في السن وله لحية، بينما كان الآخران شابَّين أصغر سنًّا وأصلعَين؛ وربما كانوا أبًا وولدَيه. كانوا يتحدثون معًا في همس، ثم اقتربوا مني وتأكدوا أني مربوطة بإحكام، وأخيرًا ذهبوا وأغلقوا النافذة خلفهم. مرَّ ربع ساعة تقريبًا قبل أن أستطيع فك القيد من على فمي، وحين فعلتُ هذا تسببت صرخاتي في مجيء الخادمة لمساعدتي، وسرعان ما تنبَّه الخدم الآخرون، وأرسلنا إلى الشرطة المحلية التي اتصلت على الفور بلندن. هذا كل ما يمكنني إخباركما به يا سيديَّ، وآمل ألا أُضطر إلى سرد هذه القصة المؤلمة مرةً أخرى.»

تسأل هوبكنز: «هل من أسئلة، يا سيد هولمز؟»

قال هولمز: «أنا لن أفرض أي عبء آخر على صبر السيدة براكينستال ووقتها. لكن قبل أن أذهب إلى غرفة الطعام، أريد أن أسمع قصتك»، ونظر إلى الخادمة.

قالت: «لقد رأيتُ الرجال قبل أن يدخلوا إلى المنزل؛ فبينما كنت جالسة بجوار نافذة غرفتي، رأيتُ ثلاثة رجال في ضوء القمر يقفون عند بوابة الكوخ من بعيد، لكني لم أُفكِّر في شيء حينها، وبعد مرور أكثر من ساعة على هذا سمعتُ صراخ سيدتي، فركضتُ إلى الأسفل ووجدتها، المسكينة، كما قالت لكم، ووجدتُه هو ملقًى على الأرض ورأسه مفتوح ودمه يغطي الأرض. كان المشهد كفيلًا بدفع أي امرأة للجنون؛ فقد كانت مربوطة هناك، وتناثرت على ردائها بقع من دمائه، لكنها كانت دومًا شجاعة؛ فهذا ما كانت عليه الآنسة ماري فريزر من مدينة أديلايد، ولم تتغير حين أصبحت السيدة ماري براكينستال سيدة منزل آبي جرينج. لقد أطلتم استجواب السيدة بما يكفي، يا سادة، والآن عليها الذهاب إلى غرفتها، مع خادمتها العجوز تيريزا لتحصل على الراحة التي تحتاج إليها بشدة.»

وبحنان الأم وضعت السيدة الهزيلة ذراعها حول سيدتها وقادَتها إلى خارج الغرفة.

قال هوبكنز: «لقد رافقتْها طوال حياتها؛ فقد أرضعَتها وهي طفلة، وجاءت معها إلى إنجلترا حين تركا أستراليا لأول مرة منذ ثمانية أشهر. تُدعى تيريزا رايت، وهي من نوع الخادمات الذي لم نعد نراه في أيامنا هذه. من هنا يا سيد هولمز إذا سمحت!»

اختفى الحماس من ملامح وجه هولمز المعبِّرة، وعلمتُ أن الغموض أفقد القضية سحرها. بقي الآن أمامنا إلقاء القبض على المجرمين، لكن مَن هؤلاء المحتالون المبتذلون الذين يتحتَّم على هولمز أن يلوِّث يديه بالقبض عليهم؟ فحين يجد شخص متخصص وعلى قدرٍ واسع من المعرفة أن استدعاءه كان من أجل قضية تافهة تظهر عليه علامات الانزعاج التي أراها في عينَي صديقي الآن. إلا أن المشهد في غرفة طعام منزل آبي جرينج كان غريبًا بما يكفي ليجذب انتباهه ويعيد إليه اهتمامه المتضائل.

كانت الغرفة ضخمة ومرتفعة السقف، وكان سقفها من البلوط المنحوت، وجدرانها مغطاة بلوحات من البلوط، وبها مجموعة رائعة من رءوس الغزلان والأسلحة القديمة مُعلَّقة على جدرانها. في الجهة البعيدة المقابلة للباب وجدنا النافذة الفرنسية الطراز التي سمعنا عنها، بينما ملأت الغرفةَ بأشعة شمس الشتاء الباردة ثلاثُ نوافذ أخرى أصغر حجمًا على الجهة اليمنى. أما على الجهة اليسرى فقد وجدنا مدفأةً ضخمة وغائرة، معلَّقًا فوقها رفُّ موقدٍ ضخم من البلوط. وبجوار المدفأة وجدنا مقعدًا ثقيلًا مصنوعًا من البلوط له يدان وقُضبان عرضية متداخلة في مقعدته، تداخَلَ مع أجزائه الخشبية المفتوحة حبلٌ قرمزيٌّ مجدول، كان مربوطًا بإحكام على كل جانب بالقطعة المتداخلة بالأسفل؛ فعند تحرير السيدة أُزيلَ الحبل عنها، لكن العُقَد التي كان الحبل مُثبتًا بها ظلَّت كما هي. لم ننتبه إلى هذه التفاصيل إلا فيما بعدُ؛ إذ كان تفكيرنا منصبًّا بالكامل على الجسم البشع الذي كان مُلقًى على السجادة المصنوعة من جلد النمر والموجودة أمام المدفأة.

كانت جثة رجلٍ طويل، قوي البنية، في الأربعين من عمره تقريبًا. كان مستلقيًا على ظهره، ووجهه إلى أعلى، تظهر أسنانه البيضاء من بين لحيته السوداء القصيرة. كانت يداه المتصلِّبتان مرتفعتان فوق رأسه، وتوجد عصًا صغيرةٌ ثقيلةٌ ملقاةٌ بجوارهما. كانت ملامحه الداكنة الوسيمة التي تشبه ملامح الصقر قد تشنَّجت وبدت عليها ملامح كراهية انتقامية؛ جعلَت وجهه بعد الوفاة يكسوه تعبيرٌ شيطاني مرعب. كان من الواضح أنه كان في سريره حين علم بوجود خطر؛ إذ كان يرتدي رداء نوم مطرَّزًا فائق الأناقة، وظهرت قدماه الحافيتان من سرواله. كان رأسه مصابًا إصابةً بالغة، وبدا على الغرفة بأكملها أثر الضربة الوحشية التي أودت بحياته. فكان ملقًى بجواره قضيبُ إذكاء النار الثقيل، الذي تقوَّس على إثر الضربة. فحص هولمز كلًّا من القضيب والدمار الذي أحدثه والذي لا يمكن وصفه.

علَّق قائلًا: «لا بد أن راندال العجوز هذا رجلٌ قوي.»

قال هوبكنز: «أجل. لديَّ بعض أوصاف الرجل، وهو شخصٌ قاسٍ يصعب التعامل معه.»

«ألن تواجه صعوبة في إلقاء القبض عليه؟»

«لا على الإطلاق، فنحن كنا نراقبه، وظننا أنه هرب إلى أمريكا، لكن بما أننا علمنا أن العصابة لا تزال هنا، لا أرى سبيلًا إلى هروبهم؛ فقد أبلغْنا بالفعل كل ميناء، وعرضنا جائزة للقبض عليهم قبل حلول المساء. ما يحيُّرني هو سبب ارتكابهم مثل هذا العمل الجنوني وهم يعلمون أن السيدة ستُدلي بأوصافهم، وأننا سنتعرف عليهم على الفور.»

«بالضبط، كان من المتوقَّع أن يُسكِتوا السيدة براكينستال أيضًا.»

اقترحتُ قائلًا: «ربما لم يدركوا أنها استعادت وعيها.»

«هذا احتمال وارد، فإن بدا عليها أنها فاقدة للوعي فلا داعي لإزهاق روحها. وماذا عن هذا المسكين، يا هوبكنز؟ لقد سمعتُ عنه قصصًا غريبة.»

«لقد كان رجلًا طيب القلب حين يفيق من ثمالته، لكنه شيطانٌ حقيقي حين يكون سكران أو شبه سكران؛ إذ لم يكن أبدًا يصل إلى حد الثمالة الكاملة، يبدو كمن يتملَّكه الشيطان في مثل هذه الأوقات، فكان بمقدوره فعل أي شيء. ومما سمعته أنه على الرغم من ثرائه ولقبه فقد كاد يُلقى القبض عليه مرة أو مرتين؛ فكانت ثمة فضيحة حين صبَّ البنزين على كلب ثم أضرم فيه النار — ومما زاد الأمور سوءًا أنه كان كلب السيدة — وكان التكتُّم على هذه الواقعة بالغ الصعوبة. كما أنه ألقى إناء شراب على هذه الخادمة، تيريزا رايت، وحدثت مشكلة بسبب هذا. إجمالًا، وفيما بيننا، سيصبح هذا المنزل أفضل بكثير في غيابه. ما الذي تنظر إليه الآن؟»

كان هولمز جاثيًا على ركبتيه يفحص باهتمامٍ بالغٍ العُقَد التي كان الحبل، الذي رُبطت به السيدة، مثبتًا بها. ثم فحص بدقة بالغة الطرف الممزق والمتهتك الذي قُطع منه الحبل حين جذبه اللص إلى أسفل.

ثم أشار قائلًا: «حين جُذب هذا إلى أسفل لا بد أن الجرس في المطبخ انطلق بصوت مرتفع.»

«لا يمكن لأحد سماعه؛ فالمطبخ يوجد في الجزء الخلفي من المنزل.»

«وكيف علم اللص أن أحدًا لن يسمعه؟ كيف جرؤ على جذب حبل الجرس بهذه الطريقة المتهورة؟»

«بالضبط يا هولمز، بالضبط. لقد نطقتَ بالسؤال نفسه الذي ما برحتُ أعيد طرحه على نفسي طوال الوقت؛ لا بد أن هذا الشخص يعلم المنزل وتقسيمته جيدًا، لا بد أنه علم بأن جميع الخدم سيكونون في مَخادعهم في هذه الساعة المبكرة نسبيًّا، وأن أحدًا لن يستطيع سماع رنين الجرس في المطبخ؛ وعليه لا بد أن له علاقة جيدة بأحد الخدم. بالتأكيد فهذا أمر واضح، لكن يوجد ثمانية من الخدم وجميعهم حسنو السمعة.»

قال هولمز: «في غياب أي قرائن أخرى، يمكن للمرء أن يشكَّ في الخادمة التي ألقى سيدها إناء الشراب على رأسها. إلا أن هذا سيعني خيانة السيدة التي أخلَصتْ لها هذه الخادمة طوال حياتها. حسنًا، حسنًا، هذه نقطة ثانوية، فحين تقبض على راندال على الأرجح لن تجد صعوبة في التعرف على شريكه. يبدو أن قصة السيدة تدعمها الأدلة، هذا إن كانت تحتاج إلى أدلة من الأساس، بكل التفاصيل التي رأيناها بأعيننا.» سار هولمز نحو النافذة الفرنسية الطراز وفتحها. «لا توجد آثار هنا، لكن الأرض صلبة للغاية، ومن غير المتوقَّع ظهور آثار عليها. وأرى أن هذه الشموع الموجودة على رفِّ الموقد قد أُضيئت.»

«أجل، فعلى ضوئها وعلى ضوء شمعة غرفة نوم السيدة استطاع اللصوص رؤية طريقهم في الظلام.»

«وماذا أخذوا؟»

«حسنًا، لم يأخذوا الكثير؛ فقط ستة قِطع من طقم التقديم الفضي من البوفيه. وتعتقد السيدة براكينستال أنهم هم أنفسهم توتَّروا من وفاة السير يوستاس مما أثناهم عن نهب المنزل بأكمله كما كانوا يعتزمون.»

«لا شك أن هذا صحيح، ومع ذلك فقد شربوا بعض النبيذ، كما فهمت.»

«حتى يُهدِّئوا أعصابهم.»

«بالتأكيد، وأعتقد أن أحدًا لم يلمس هذه الكئوس الثلاث الموجودة على البوفيه، أليس كذلك؟»

«أجل، والزجاجة توجد في المكان الذي تركوها فيه بالضبط.»

«دعنا نلقِ نظرة عليها، عجبًا! عجبًا! ما هذا؟»

كانت الكئوس الثلاث موجودة في مكانٍ واحد، وجميعها مصبوغة بلون النبيذ، ويحتوي واحد منها على بعض من رواسب النبيذ. كانت الزجاجة بالقرب من الكئوس الممتلئ ثلثاها، وبالقرب منها رأينا سدادة فِلِّينية طويلة داكنة اللون. وقد أشار مظهرها والغبار الموجود على الزجاجة إلى أن هذا النبيذ الذي استمتع القتلة بتناوله لم يكن عاديًّا.

تغيَّر أسلوب هولمز، ففقد تعبيره الفاتر، ومرةً أخرى رأيتُ لمحة من الاهتمام في عينيه الحادتين والغائرتين. رفع السدادة وفحصها بدقة.

تساءل قائلًا: «كيف نزعوها؟»

أشار هوبكنز إلى درجٍ شبه مفتوح، وبداخله رأينا مفرش مائدة وفتاحة زجاجات ضخمة.

«هل قالت السيدة براكينستال إن الفتاحة استُخدمت؟»

«لا، ألا تذكر أنها كانت غائبة عن الوعي في هذا الوقت حين فُتحت الزجاجة؟»

«بالفعل، في الواقع إن الفتَّاحة لم تُستخدم، فهذه الزجاجة فُتحت بمسمار جيب، ربما يكون مرتبطًا بمُدية، ولا يزيد طوله على بوصة ونصف. إن فحصتَ أعلى السدادة ستلاحظ أن المسمار أُدخل فيها ثلاث مرات قبل انتزاعها من الزجاجة. فهي لم تُخترَق قط بأداة حادة، فكان بإمكان هذه الفتاحة اختراق السدادة وجذبها مرةً واحدة. حين تُلقي القبض على هذا الرجل ستجد في حيازته واحدة من المديات المتعددة الأجزاء.»

قال هوبكنز: «ممتاز!»

«لكني أعترف أن هذه الكئوس تُحيِّرني، لقد رأت السيدة براكينستال الرجال الثلاثة وهم يحتسون الشراب، أليس كذلك؟»

«أجل، لقد أكدت هذا بوضوح.»

«إذن فقد حُسم الأمر، ماذا يسعنا أن نقول؟ ومع ذلك لا بد لي من الاعتراف بأن هذه الكئوس الثلاث مثيرة للاهتمام للغاية يا هوبكنز. ألا ترى فيها شيئًا مميزًا؟ حسنًا، حسنًا، دعنا نتغاضَ عن الأمر. ربما حين يملك شخصٌ ما معرفةً خاصة وقدراتٍ خاصة مثلي يشجعه هذا دومًا على البحث عن تفسير معقَّد للأمور في حين يوجد تفسير أبسط لها. بالطبع لا بد أن موضوع هذه الكئوس مجرد صدفة. حسنًا، طاب صباحك يا هوبكنز. أرى أنه لا فائدة من وجودي هنا، ويبدو أنك حللتَ قضيتك بوضوحٍ تام. عليك أن تخبرني حين تلقي القبض على راندال، وبأي تطورات أخرى قد تحدث. أعتقد أني سأهنئك عما قريب على انتهائك بنجاح من هذه القضية. هيا يا واطسون، أعتقد أننا سنكون أكثر نفعًا في منزلنا.»

وفي أثناء رحلة عودتنا استطعتُ رؤية أن هولمز يُحيِّره شيءٌ ما لاحظه. فكان من حين لآخر يبذل مجهودًا ليتخلص من هذا التعبير ويتحدث كما لو كان الأمر قد انتهى، لكن بعدها تعود شكوكه لتسيطر عليه مرةً أخرى، ويُظهِر حاجباه المعقودان وعيناه الشاردتان أن تفكيره عاد مرةً أخرى إلى غرفة الطعام في منزل آبي جرينج، التي حدثت فيها مأساة منتصف الليل. وأخيرًا، بحركة فجائية، بينما كان قطارنا يخرج ببطء من محطة في إحدى الضواحي قفز هولمز إلى الرصيف وجذبني خارج القطار لأتبعه.

ثم قال لي بينما كنا نشاهد العربات الخلفية من قطارنا وهي تختفي في منحنًى بعيد: «اعذرني يا صديقي العزيز، أعتذر إليك لكونك ضحيةً لما يبدو محض واحدة من نزواتي، لكني أقسم بحياتي يا واطسون أنني لا أستطيع ترك هذه القضية ببساطة على حالها؛ فكل غرائزي تصرخ اعتراضًا على هذا. هذا خطأ، كل هذا خطأ، أُقسم بأن هذا كله خطأ. ومع ذلك فإن قصة السيدة كانت مُحكمة، وكلام الخادمة المؤيد لها كافٍ، والتفاصيل كلها دقيقة. ماذا لديَّ أنا لأناهض هذا كله؟ ثلاث كئوس خمر، هذا كل شيء. لكن لو أنني لم آخذ كل شيء بأنه مسلَّم به، وإن كنتُ فحصتُ كلَّ شيء بعناية كما كنتُ سأفعل في حال تولِّينا للقضية من البداية ولم تقابلنا قصة جاهزة تُشتِّت تفكيري، أما كنتُ سأعثر على شيء أكثر تحديدًا أرتكز عليه؟ بلى بالطبع، كان يفترض بي أن أفعل هذا. اجلس على هذا المقعد الطويل يا واطسون، حتى يصل قطار تشيزلهورست، ودعني أطرح عليك الأدلة وأدعوك أولًا إلى أن تطرح عن ذهنك فكرة أن أي شيء قالته الخادمة أو سيدتها لا بد أن يكون صحيحًا بالضرورة. فلا بد ألَّا نسمح لشخصية السيدة الساحرة أن تشوِّش حكمنا.

بالطبع ثمة تفاصيل في قصتها إن نظرنا إليها بحيادية فسنجدها مثيرة للريبة، فقد حصل هؤلاء اللصوص على غنيمة كبيرة في سيدنهام منذ أسبوعين، وورد ذكرهم وأوصافهم في الصحف، ومن الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن أي شخص يريد اختراع قصة عن لصوص خياليين أن يجعل لهم دورًا فيها. في الواقع، من المعتاد دائمًا أن اللصوص الذين نفذوا عملية كبيرة يسعدون بالاستمتاع في هدوء وسلام بربحهم دون الدخول في عملية أخرى محفوفة بالمخاطر. ومرةً أخرى من غير المعتاد أن يعمل اللصوص في مثل هذه الساعة المبكِّرة؛ ومن غير المعتاد أن يضرب اللصوص سيدةً من أجل منعها من الصراخ، إذ يتصور المرء أن هذا من المؤكد سيجعلها تصرخ؛ ومن غير المعتاد لهم ارتكاب جريمة قتل حين يكون عددهم كافيًا للتغلب على رجل واحد؛ ومن غير المعتاد لهم أن يرضوا بغنيمة محدودة حين يوجد المزيد في متناول أيديهم؛ وأخيرًا عليَّ القول إنه من غير المعتاد للغاية في عرف هؤلاء الرجال ترك زجاجة نصف ممتلئة. ما رأيك في كل هذه الأمور غير المعتادة يا واطسون؟»

«إن تأثيرها التراكمي واضح بالتأكيد، لكن يوجد احتمال لحدوث كل منها على حدة. وأغرب أمر على الإطلاق، كما يبدو لي، هو ربط السيدة في المقعد.»

«حسنًا، أنا لستُ متأكدًا من هذا يا واطسون؛ إذ إنه من البديهي إما أن يقتلوها أو يعيقوا حركتها بطريقة تضمن لهم عدم تمكُّنها من إعطاء تحذيرٍ مباشر عقب هروبهم. لكن على أي حال، فقد أظهرتُ لك وجود عنصر معيَّن غير مقنع في قصة السيدة، أليس كذلك؟ والآن على رأس كل هذا تأتي واقعة كئوس الخمر الثلاث.»

«ماذا عن كئوس الخمر؟»

«ألا يمكنك تصوُّرها في مخيلتك؟»

«أستطيع تخيلها بوضوح.»

«لقد قيل لنا إن الرجال الثلاثة شربوا من هذه الكئوس، هل يبدو لك هذا أمرًا محتملًا؟»

«لمَ لا؟ فقد وجدنا خمرًا في كلٍّ منها.»

«بالضبط، لكننا لم نجد رواسب للخمر إلا في واحدة فقط. لا بد أنك لاحظت هذه الحقيقة، ما دلالة هذا في رأيك؟»

«إن آخر كأس مُلئَت على الأرجح كانت تحتوي على رواسب الخمر.»

«لا، لا يمكن؛ فالزجاجة كانت لا تزال ممتلئة، ومن غير المقنع أن يخلو الكأسان الأُوليان من الرواسب وتحتوي الكأس الثالثة على كمٍّ كبير منها. لا يوجد إلا تفسيران محتَملان لهذا الأمر، تفسيران فقط. الأول أنه بعد ملء الكأس الثانية رُجَّت الزجاجة بعنف بحيث حصلت الكأس الثالثة على رواسب الخمر. وهذا يبدو بعيد الاحتمال. لا، لا، أنا متأكد من أني محق.»

«ماذا تفترض إذن؟»

«أنه لم يُستخدم إلا كأسان فقط، وأن الرواسب في كلٍّ منهما سُكبت في الكأس الثالثة من أجل إعطاء انطباعٍ كاذب بوجود ثلاثة أشخاص. هكذا ستصبح كل الرواسب في الكأس الأخيرة، أليس كذلك؟ بلى؛ فأنا مقتنع تمامًا بأن هذا ما حدث، لكن إن كنتُ أصبتُ التفسير الحقيقي لهذه الظاهرة الصغيرة، فإن هذه القضية ستتحول على الفور من قضية عادية إلى قضية ذات أهمية بالغة؛ إذ إن المعنى الوحيد لهذا أن السيدة براكينستال وخادمتها تعمَّدتا الكذب علينا، وأننا علينا ألَّا نُصدِّق أي كلمة من قصتهما، وأن لديهما سببًا قويًّا للتستُّر على المجرم الحقيقي، وأننا لا بد أن نحيك قضيتنا بأنفسنا دون مساعدة منهما. وهذه يا واطسون المهمة التي تنتظرنا، وها هو قطار تشيزلهورست قد جاء.»

فوجئ أهل منزل آبي جرينج كثيرًا بعودتنا، لكن شيرلوك هولمز، حين وجد أن ستانلي هوبكنز قد ذهب ليقدم تقريره إلى المركز الرئيسي، استولى على غرفة الطعام، وأغلق الباب على نفسه من الداخل وكرَّس جهده طوال ساعتين لواحد من تلك التحقيقات الدقيقة الشاقَّة، التي تمثِّل الأساس الصلب الذي ترتكز عليه استنتاجاته الذكية. جلستُ أنا في أحد أركان الغرفة مثل طالب مهتم للغاية بملاحظة شرح أستاذه، وتتبعتُ كل خطوة من خطوات هذا البحث المثير للاهتمام. النافذة، والستائر، والسجادة، والمقعد، والحبل؛ خضع كلٌّ منها للفحص الدقيق والتأمل الوافي تِباعًا. لم يعد جثمان البارونيت المسكين موجودًا، لكن كل شيء آخر بقي على حاله كما رأيناه في الصباح. ثم لدهشتي، تسلَّق هولمز وصعد فوق رفِّ الموقد الضخم. وفوق رأسه كانت تتدلَّى بضع بوصات من الحبل الأحمر الذي كان لا يزال مرتبطًا بسلك الجرس. ظل لوقتٍ طويل يحدِّق فيه إلى أعلى، ثم في محاولة للوصول إليه وضع ركبته على دعامةٍ خشبيةٍ مثبتةٍ في الحائط. أدَّى هذا إلى اقتراب يده بضع بوصات من الطرف المقطوع من الحبل، لكن بدا أن هذا لم يسترعِ اهتمامه بقدر الدعامة الخشبية في حد ذاتها. أخيرًا قفز إلى الأرض في سعادة.

ثم قال: «حسنًا يا واطسون، لقد حُلَّت القضية، وهي واحدة من القضايا المميزة ضمن مجموعتنا. لكن كم كنتُ غبيًّا! وكم أوشكتُ على ارتكاب أسوأ خطأ في حياتي! والآن، أعتقد أن السلسلة الآن أوشكت على الاكتمال مع بعض الحلقات المفقودة.»

«هل عرفتَ الجناة؟»

«الجاني يا واطسون، الجاني. إنه واحدٌ فقط، لكنه شخص مروِّع للغاية؛ فهو قوي كالأسد، انظر إلى الضربة التي أدت إلى ثني قضيب إذكاء النار الذي يبلغ طوله ست أقدام وثلاث بوصات. وهو سريع الحركة مثل السنجاب، وبارع في استخدام أصابعه، وأخيرًا هو شديد الذكاء؛ إذ إن هذه القصة البارعة بأكملها من ابتكاره. أجل يا واطسون؛ فنحن أمام عمل شخصٍ شديد البراعة. ومع ذلك فقد قدَّم إلينا من خلال حبل الجرس هذا دليلًا لا بد له أن يثير الشك في أنفسنا.»

«أين هذا الدليل؟»

«حسنًا، إن حاولتَ جذب حبل الجرس هذا، يا واطسون، أين تتوقع أن ينقطع؟ بالتأكيد عند نقطة اتصاله بالسلك. فلماذا ينقطع إذن على بُعد ثلاث بوصات من طرفه العلوي كما حدث هنا؟»

«لأنه بالٍ في هذا الجزء.»

«بالضبط، فهذا الطرف، الذي يمكننا فحصه، بالٍ. لقد فعل هذا بمكرٍ بالغٍ بسكِّينه. أما الطرف الآخر فليس باليًا؛ وأنت لا يمكنك رؤية هذا من هنا، لكنك إن وقفتَ على رفِّ الموقد فسترى الطرف مقطوعًا بعناية دون أي أثرٍ لكونه باليًا. ويمكننا الآن تخيُّل ما حدث؛ فقد احتاج الرجل هذا الحبل، ولم يكن ليجذبه خوفًا من إطلاق الإنذار برن الجرس. فماذا يفعل؟ لقد صعد على رف الموقد، ولكنه لم يستطع الوصول إليه، فوضع سكينه على الدعامة الخشبية — يمكنك رؤية أثرها في الغبار — وهكذا جعل السكين تصل إلى الحبل. لم أستطع الوصول إلى المكان؛ فقد كان يُبعدني عنه ثلاث بوصات على الأقل، ومن هذا أستنتج أنه أطول مني بثلاث بوصات. انظر إلى هذا الأثر على المقعد المصنوع من البلوط! ما هذا؟»

«دماء.»

«بالتأكيد إنها دماء. هذا وحده يدحض قصة السيدة بالكامل. فإن كانت قد أُجلِسَت على هذا المقعد حين ارتكاب الجريمة، فكيف يمكن لهذه العلامة أن تحدث؟ لا، لا، لقد أُجلِست على المقعد بعد وفاة زوجها. وأنا أراهن أن فستانها الأسود يحمل علامةً مماثلة لهذه. ما زلنا لم نُخفِق بالكامل يا واطسون كما حدث في معركة ووترلو، بل إننا أحرزنا انتصارًا كانتصار معركة مارنجو؛ فقد بدأنا بهزيمة وانتهينا بإحراز النصر. أريد الآن التحدث قليلًا مع الممرضة تيريزا. علينا التزام الحرص لبعض الوقت، هذا إن أردنا الحصول على المعلومات التي نريدها.»

كانت هذه الممرضة الأسترالية الصارمة شخصًا مثيرًا للاهتمام؛ فقد كانت قليلة الكلام، ومثيرة للشك، وفظة، ومضى بعض الوقت قبل أن يؤدي أسلوب هولمز اللطيف وتقبُّله الواضح لكل ما قالته إلى تخليها عن تحفُّظها وتعاملها بلطفٍ مشابه، ولم تحاول قط إخفاء كرهها لرب عملها الراحل.

«أجل، يا سيدي، صحيح أنه ألقى إناء الشراب عليَّ؛ لقد سمعته يسبُّ سيدتي، فأخبرته أنه لن يجرؤ على الحديث معها على هذا النحو إن كان أخوها موجودًا؛ فلم يكن منه إلا أن ألقى الإناء عليَّ. يا ليته يرمي عليَّ العشرات منها لكن يترك عصفورتي الجميلة وشأنها؛ فقد كان يسيء معاملتها دومًا، وكان كبرياؤها يمنعها من الشكوى. لم تكن تخبرني حتى بكل ما يفعله معها؛ فلم تخبرني أبدًا عن تلك الآثار على ذراعها التي رأيتها أنتَ هذا الصباح، لكني أعلم جيدًا أنها ناتجة عن الطعن بدبوس قبعة. الشيطان الخبيث — ولتسامحني السماء إن تحدثتُ عنه على هذا النحو، بعدما أصبح الآن مع الأموات — لكنه كان شيطانًا، إن كانت الشياطين تسير على الأرض. كان شخصًا لطيفًا حين التقيناه لأول مرة منذ ١٨ شهرًا، التي شعرتُ أنا وهي أنها مرَّت علينا كما لو كانت ١٨ عامًا. كانت قد وصلت للتوِّ إلى لندن؛ أجل فقد كانت رحلتها الأولى؛ إذ لم تكن قد تركت بلادها من قبلُ. جذبها بلقبه وماله وأساليب أهل لندن الملتوية. وإن كانت ارتكبت خطأً فقد دفعت ثمنه بأقصى ما يمكن أن تدفعه امرأة. في أي شهر التقيناه؟ حسنًا، التقيناه بعد شهر فقط من وصولنا؛ فقد وصلنا في شهر يونيو والتقينا به في شهر يوليو، وتزوَّجا في شهر يناير من السنة الماضية. أجل، لقد نزلتْ لتجلس في غرفة الجلوس الصباحية مرةً أخرى، وأنا متأكدة من أنها ستقابلكما، لكنكما يجب ألَّا تطرحا عليها الكثير من الأسئلة؛ إذ إنها مرَّت بما لا يطيقه إنسان.»

كانت السيدة براكينستال متكئة على الأريكة ذاتها، لكنها بدت أكثر إشراقًا من قبلُ. دخلت الخادمة معنا، وبدأت مرةً أخرى في تضميد الكدمة الموجودة على جبهة سيدتها.

قالت السيدة: «آمل أنكما لم تحضرا لاستجوابي مرةً أخرى.»

رد هولمز بأرقِّ نبرات صوته: «لا، فأنا لا أسعى إلى أن أسبِّب لكِ أي متاعب غير ضرورية يا سيدة براكينستال، وكل ما أرغب فيه هو أن أُسهِّل عليكِ الأمور؛ إذ إنني مقتنع أنكِ سيدة عانت الكثير. فإن تعاملتِ معي على أني صديق ووضعتِ ثقتك فيَّ، سأكون على قدر هذه الثقة.»

«ماذا تريد مني أن أفعل؟»

«أخبريني الحقيقة.»

«سيد هولمز!»

«لا، لا، يا سيدة براكينستال، فإن هذا لن يجدي نفعًا. ربما سمعتِ عما أتمتع به من سُمعةٍ صغيرة. وأُراهِن بها كلها على حقيقة أن قصتك ملفَّقة بالكامل.»

كانت كلٌّ من السيدة والخادمة تحدِّقان معًا في هولمز بوجهيهما الشاحبين وأعينهما المذعورة.

صاحت تيريزا: «أنت شخصٌ وقح! هل تقصد أن سيدتي كذبت؟»

قام هولمز من مقعده.

وقال: «أليس لديكِ ما تخبرينني به؟»

«لقد أخبرتكَ بكل شيء.»

«فكِّري مرةً أخرى يا سيدة براكينستال، أليس من الأفضل أن تلتزمي الصراحة؟»

ظهر للحظةٍ بعضُ التردُّد على وجهها الجميل، ثم أدَّت فكرةٌ ما قوية إلى أن يتجمد كما لو كانت ترتدي قناعًا، وقالت: «لقد أخبرتُك بكل ما أعرف.»

أمسك هولمز بقبعته وهزَّ كتفَيه وقال: «أنا آسف.» ودون التفوُّه بكلمةٍ أخرى تركنا الغرفة والمنزل. كانت ثمة بركة في الحديقة وتقدَّم صديقي إليها. كان سطحها متجمِّدًا، باستثناء ثقبٍ واحد تُرك من أجل راحة بجعة واحدة. حدَّق هولمز في هذا الثقب ثم تخطاه ذاهبًا إلى بوابة الكوخ، وهناك كتب رسالةً قصيرة إلى ستانلي هوبكنز وتركها مع حارس الكوخ.

قال هولمز: «ربما يُصيب هذا أو يَخيب، لكننا ملتزمون بفعل شيء من أجل صديقنا هوبكنز؛ حتى نبرر زيارتنا الثانية هذه. لن أطلعه على ما توصلتُ إليه بعدُ، والآن أعتقد أن زيارتنا التالية ستكون لمكتب الشحن الخاص بخطوط أديلايد-ساوثهامبتون الذي يقع في نهاية شارع بول مول، إن كانت ذاكرتي سليمة. يوجد خطٌّ آخر من البواخر يربط جنوب أستراليا بإنجلترا، لكننا سنذهب إلى الشركة الأكبر أولًا.»

ضمن لنا إرسال بطاقة هولمز إلى المدير حصولنا على اهتمامٍ فوري، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى حصل على جميع المعلومات التي كان يحتاج إليها. ففي شهر يونيو من عام ١٨٩٥ لم تصل إلا باخرةٌ واحدة فقط إلى أحد موانئ البلاد، وكانت تُدعى «روك أوف جيبرالتر»، وهي أكبر بواخرهم وأفضلها. وأسفر الاطِّلاع على قائمة الركاب عن أن الآنسة فريزر من أديلايد، مع خادمتها، سافرتا على هذه الباخرة. كانت الباخرة الآن في طريقها إلى أستراليا، في مكانٍ ما جنوب قناة السويس، وكان طاقمها هو نفسه الذي عمل في عام ١٨٩٥، باستثناء شخصٍ واحد؛ فقد ترقَّى الضابط الأول، السيد جاك كروكر، إلى قبطان وصار مسئولًا عن سفينةٍ جديدة، تُدعى «باس روك»، ستُبحر بعد يومَين من ساوثهامبتون. كان يعيش في سيدنهام، لكنه على الأرجح سيأتي هذا الصباح من أجل الحصول على التعليمات، هذا إن أردنا انتظاره.

لا، لم يكن السيد هولمز يرغب في لقائه، بل كان مهتمًّا أكثر بمعرفة المزيد عن سجله وشخصيته.

كان سجلُّ عمله مذهلًا؛ فلم يكن ثمة ضابط واحد في الأسطول يضاهيه. وأما عن شخصيته، فكان موثوقًا به في العمل، لكنه شخصٌ جامح ومتهوِّر بعيدًا عن متن السفينة، ومتسرِّع وسريع الانفعال، لكنه مخلص وأمين وطيِّب القلب. كانت هذه هي خلاصة المعلومات التي ترك بها هولمز مكتب شركة أديلايد-ساوثهامبتون. وبعدها ذهبنا بالسيارة إلى سكوتلاند يارد، وبدلًا من الدخول جلس في سيارة الأجرة وهو يقطِّب حاجبيه، مستغرقًا في تفكيرٍ عميق. وأخيرًا ذهبنا بالسيارة إلى مكتب تلغراف محطة تشارينج كروس، وأرسلنا برقية، ثم عدنا أخيرًا إلى شارع بيكر مرةً أخرى.

قال لي ونحن ندخل إلى شقتنا: «لا، لم أستطع فعل هذا يا واطسون؛ فبمجرد صدور هذه المذكرة لن يمكن لأي شيء على وجه الأرض أن ينقذه. لقد شعرتُ مرةً أو مرتين طوال حياتي المهنية بأني أحدثتُ أذًى فعليًّا أكبر باكتشافي الجاني أكثر من الأذى الذي أحدثه بارتكاب جريمته. والآن تعلمتُ توخِّي الحذر، وأُفضِّل التلاعب بالقانون الإنجليزي عن التلاعب بضميري. والآن دعنا نعرف المزيد قبل أن نتصرف.»

زارنا المحقق ستانلي هوبكنز قبل حلول المساء، ولم تكن الأمور تسير على ما يرام معه.

«أعتقد أنك ساحر يا سيد هولمز؛ فأنا حقًّا أعتقد في بعض الأحيان أنك تملك قدراتٍ غير بشرية. والآن، كيف بحق السماء علمتَ أن القِطع الفضية المسروقة كانت في قاع هذه البركة؟»

«لم أكن أعرف.»

«لكنك أخبرتني أن أفحصها.»

«لقد حصلتَ عليها إذن؟»

«أجل، حصلتُ عليها.»

«يسعدني كثيرًا أنني ساعدتُك.»

«لكنك لم تساعدني، بل جعلتَ المسألة تزداد صعوبة. فما نوع اللصوص الذين يسرِقون قطعًا فضية ثم يُلقون بها في أقرب بركة؟»

«إنه بالتأكيد تصرُّف غريب إلى حدٍّ ما. لقد راودتني فقط فكرة أن هذه القطع الفضية إن كان مَن أخذها أشخاصًا لم يكونوا يرغبون فيها، ولم يأخذوها إلا للتمويه، مثلما حدث، فإنهم بطبيعة الحال سيرغبون في التخلص منها.»

«لكن لماذا راودتكَ مثل هذه الفكرة؟»

«حسنًا، لقد فكَّرت في أنه احتمالٌ قائم؛ فحين خرجوا من النافذة الفرنسية كانت البركة أمامهم، وبها ثقبٌ صغير مُغرٍ في وسط الجليد. فهل ثمة مكان أفضل لإخفائها؟»

صاح ستانلي: «آه، مكان لإخفائها. هذا أفضل! أجل، أجل، أرى الأمر كله بوضوح الآن! فقد كان الوقت مبكِّرًا، وكان ثمة أناسٌ في الطرق، فخافوا أن يراهم الناس وهم يحملون القطع الفضِّية؛ ولذلك أغرقوها في البركة، وهم يعتزمون العودة من أجلها حين يصبح الطريق خاليًا. ممتاز يا سيد هولمز، هذا أفضل من فكرتك عن التمويه.»

«ربما، فنظريتك أيضًا رائعة. لقد كانت أفكاري بلا شكٍّ جامحةً بعض الشيء، لكنك يجب أن تعترف أنها انتهت بالعثور على القطع الفضية.»

«أجل يا سيدي، أجل؛ فالفضل كله يعود إليك. لكن واجهتْني عقبة سيئة.»

«عقبة؟»

«أجل، يا سيد هولمز، فقد أُلقي القبض على عصابة عائلة راندال هذا الصباح في نيويورك.»

«عجبًا يا هوبكنز! إن هذا بالتأكيد يناقض نظريتك عن أنهم هم الذين ارتكبوا جريمة القتل في كِنت الليلة الماضية.»

«بل دمَّرها يا سيد هولمز، دمَّرها بالكامل. ومع ذلك، ثمة عصابات أخرى مكوَّنة من ثلاثة أفراد بخلاف عصابة عائلة راندال، أو ربما كانت عصابةً جديدة لم تسمع عنها الشرطة من قبلُ.»

«ربما، هذا محتمَل بالتأكيد. ماذا، هل ستذهب؟»

«أجل يا سيد هولمز، فلن أرتاح حتى أتوصَّل إلى حل هذه القضية، أفترض أنك لا تملك معلومة تساعدني بها، أليس كذلك؟»

«لقد أعطيتك معلومة.»

«أية معلومة؟»

«حسنًا، لقد اقترحتُ وجود تمويه.»

«لكن لماذا يا سيد هولمز، لماذا؟»

«آه، هذا هو السؤال بالطبع، لكني أدخلتُ الفكرة في عقلك، ومن المحتمل أن تجد لها مدلولًا ما. ألن تبقى لتناول العشاء؟ حسنًا، إلى اللقاء، ودعنا نعرف ما تصل إليه في بحثك.»

انتهينا من تناول العشاء، ورُفع الطعام عن الطاولة قبل أن يعود هولمز للإشارة إلى المسألة مرةً أخرى. كان قد أشعل غليونه ووضع قدميه اللتين يرتدي فيهما خفَّين نحو الوهج المبهِج للنار، وفجأة نظر في ساعته وقال: «أتوقَّع حدوث تطورات يا واطسون.»

«متى؟»

«الآن، في غضون دقائق. أعتقد أنك ترى أنني عاملتُ ستانلي هوبكنز بأسلوبٍ سيئ إلى حدٍّ ما منذ قليل، أليس كذلك؟»

«أنا أثق في رأيك.»

«هذا ردٌّ حكيم للغاية يا واطسون، عليك أن تنظر إلى الأمر من هذا المنظور؛ إن ما أعرفه ليس رسميًّا، أما ما يعرفه فهو رسمي. أنا يحقُّ لي إصدار أحكام خاصة، لكنه لا يحقُّ له هذا. وهو لا بد له من كشف كل ما يعرفه، وإلا صار خائنًا لمهنته. وفي قضيةٍ مثيرة للشك أنا لن أُعرِّضه لمثل هذا الموقف المؤلم، ومن ثم أحتفظ بما لديَّ من معلومات حتى تصبح القضية واضحةً في ذهني.»

«لكن متى سيحدث هذا؟»

«لقد حان الوقت، أنت الآن ستشهد المشهد الأخير من دراما صغيرةٍ رائعة.»

صدر صوت من السلم، وفُتح باب الشقة ليدخل منه أرقى رجل يمكن أن يكون مر عبره على الإطلاق. كان شابًّا طويلًا للغاية، وله شارب ذهبي، وعينان زرقاوان، وبشرته حرقتها الشمس الاستوائية، وخطوته مرنة تُظهِر أن هذا الهيكل الضخم كان يتسم بالنشاط تمامًا مثلما يتسم بالقوة. أَغلق الباب خلفه ثم وقف وقبضتاه مغلقتان بإحكام، ونَفَسه ضيق، يختنق بسبب شعورٍ ما يسيطر عليه.

«اجلس يا قبطان كروكر، هل وصلتك برقيتي؟»

غاص زائرنا في مقعدٍ وثير وظلَّ ينظر إلى كلٍّ منا بعينَين يملؤهما التساؤل.

«لقد وصلتني برقيتك، وأتيت إليك في الساعة التي حددتها، وسمعتُ أنك ذهبت إلى المكتب. لم يكن أمامي سبيل للهرب منك، فدعني أسمع أسوأ ما لديك، ماذا ستفعل معي؟ هل ستُلقي القبض عليَّ؟ تحدَّث يا رجل! لا يمكنك الجلوس هكذا وتتلاعب معي كما يتلاعب القط بالفأر.»

قال هولمز: «أعطني سيجارًا؛ عَضَّ على هذا يا قبطان كروكر، ولا تدعْ أعصابك تُفلت منك. لم أكن لأجلس هنا أدخِّن معك إن كنتُ أعتقد أنك مجرمٌ عاديٌّ، كن واثقًا من هذا. كن صريحًا معي، وربما نتوصل إلى حلٍّ جيد، أما إن استخدمتَ معي الحيل، فسأسحقك.»

«ماذا تريدني أن أفعل؟»

«أن تخبرني بواقع كل ما حدث في منزل آبي جرينج الليلة الماضية؛ أُذكِّرك، سردًا حقيقيًّا، لا تزدْ شيئًا ولا تُسقط شيئًا؛ فأنا أعرف الكثير بالفعل، حتى إن حِدتَ عن الحقيقة ولو لبرهة فإني سأطلق صافرة استدعاء الشرطة هذه من نافذتي وستخرج الأمور من يديَّ إلى الأبد.»

فكَّر البحَّار قليلًا، ثم ضرب رجله بيده الكبيرة المسفوعة بالشمس، وصاح: «سأخاطر بكل شيء؛ فأنا أعتقد أنك رجل يلتزم بكلمته، وأنت رجل أبيض، وأنا سأخبرك بالقصة كاملة. لكني سأقول شيئًا واحدًا أولًا؛ بالنسبة لي أنا لا أندم على شيء ولا أخاف من شيء، وبإمكاني تكرار كل ما فعلتُه ثانيةً وأفتخر بفعلي. اللعنة على هذا الوحش، إن كانت لديه أرواح كثيرة كأرواح القطط، فإنه سيَدين بها جميعًا لي! لكنها هذه السيدة، ماري — ماري فريزر — إذ إنني لن أدعوها أبدًا بهذا اللقب اللعين. حين أُفكِّر في وقوعها في مشكلة، أكون مستعدًّا للتضحية بحياتي من أجل رسم البسمة على وجهها الغالي؛ فهذا ما يُذيب روحي في صدري، ومع ذلك ماذا يمكنني فعله أقل من هذا؟ سأخبركما بقصَّتي يا سادة، ثم أسألكما رجلًا لرجل عما كان بوسعي فعلُه أقلَّ من هذا.

لا بد أن أعود بالزمن قليلًا؛ يبدو أنك تعرف كل شيء؛ لذا أتوقَّع أنك تعرف أنني التقيتُ بها حين كانت مسافرة وأنا ضابطٌ أول على متن باخرة «روك أوف جيبرالتر». منذ أول يوم التقيتُ بها عرفتُ أنها السيدة الوحيدة المناسبة لي. كان حبي لها يزيد مع كل يوم يمرُّ في رحلتنا، وكم من مرة منذ ذلك الحين جثمتُ على ركبتيَّ في أثناء مناوبتي في ظلمة الليل أُقبِّل ظهر هذه السفينة لعلمي بأنها سارت عليه بقدمَيها الغاليتَين. لم أخطبها قط، وكانت تعاملني بالتهذيب المعتاد الذي تعامل به المرأة أي رجل، لم أكن أشكو من هذا؛ فقد كان حبًّا من طرفي، وصحبةً طيبة وصداقة من طرفها. وحين افترقنا كانت سيدةً حرة، لكني لم أعُد رجلًا حرًّا.

وفي المرة التالية التي عدتُ فيها من رحلتي البحرية سمعتُ بزواجها. حسنًا، لمَ لا تتزوج مَن أحبَّتْه؟ اللقب والمال، مَن عساه يحصل عليهما أفضل منها؟ فهي وُلدت من أجل الحصول على كل ما هو جميل وأنيق في العالم. لم أحزن لزواجها، فأنا لستُ محبًّا أنانيًّا. بل فرحتُ لمجرد أنها صادفت الحظ السعيد، وأنها لم تُضيِّعْ نفسها مع بحَّارٍ مُعدِم. هكذا أحببتُ ماري فريزر.

حسنًا، لم أعتقد قط أني سألتقي بها مرةً أخرى، لكني ترقيتُ في رحلتي الأخيرة، ولم تكن الباخرة الجديدة قد دُشِّنَت بعدُ؛ لذلك اضطررتُ إلى الانتظار بضعة أشهر مع طاقمي في سيدنهام. وفي أحد الأيام في أحد الطرق في القرية قابلتُ تيريزا رايت، خادمتها القديمة. أخبرَتني بكل شيء عنها وعنه وعن كل شيء. دعوني أخبركما أيها السادة أني كدتُ أفقد عقلي؛ فكيف يجرؤ هذا السِّكِّير الحقير على رفع يده عليها وهو لا يستحقُّ حتى أن يلعق حذاءها؟! قابلتُ تيريزا مرةً أخرى، ثم التقيتُ بماري نفسها، والتقيتُ بها مرةً أخرى. ثم لم تقابلني بعدها. لكن وصلني في أحد الأيام إخطار بأني سأبدأ رحلتي في غضون أسبوع، وقررتُ رؤيتها مرةً واحدة قبل مغادرتي. ظلت تيريزا صديقة لي؛ إذ إنها كانت تحبُّ ماري وتكره هذا الوغد تمامًا بقدر كرهي له. ومنها علمت أسلوب الحياة في المنزل؛ فقد اعتادت ماري الجلوس للقراءة في غرفتها الصغيرة أسفل الدَّرَج. تسللتُ إلى هناك في الليلة الماضية وطرقتُ بلطف على النافذة. في البداية لم تفتح لي، لكني علمتُ أنها في أعماق قلبها أصبحت تحبُّني الآن، ولم تكن تقدر على تركي بالخارج في هذه الليلة الباردة؛ همست لي لأذهب إلى النافذة الأمامية الكبيرة، ووجدتها مفتوحة أمامي فدخلتُ عبرها إلى غرفة الطعام. سمعتُ مرةً أخرى من فمها أشياء جعلت الدماء تغلي في عروقي، ومرةً أخرى لعنتُ هذا المتوحش الذي أساء معاملة السيدة التي أحبُّها. حسنًا أيها السادة، كنت أقف معها أمام النافذة، بكل براءة، تشهد عليَّ السماء، حين اندفع مسرعًا إلى الغرفة كالمجنون، ونعتها بأحط الصفات التي يمكن لرجل أن ينعت بها سيدة، وضربها على وجهها بالعصا التي كان يحملها في يده. أسرعتُ نحو قضيب إذكاء النار، وجرَت مشاجرة عادلة بيننا. انظر هنا على ذراعي إلى موضع ضربته الأولى لي. ثم أجهزتُ عليه بدوري وظللتُ أضربه كأنه يقطينة فاسدة. هل تعتقد أني شعرتُ بالأسف تجاهه؟ لا لم أفعل! فقد كانت إما حياته أو حياتي، والأكثر من هذا أنها كانت إما حياته أو حياتها؛ إذ كيف كان يُمكنني أن أتركها تحت سطوة هذا المجنون؟ هكذا قتلته، هل كنت مخطئًا؟ حسنًا، إذن، كيف كان سيتصرف أيٌّ منكما إن كنتما في مكاني؟

لقد صرخَت حين ضربها، وهذه الصرخة جعلت تيريزا العجوز تنزل من غرفتها. كانت ثمة زجاجة خمر على البوفيه، ففتحتُها وسكبتُ بعضًا منها بين شفتي ماري؛ إذ كانت شبه ميتة من الصدمة، ثم أخذتُ أنا رشفة منها. كانت تيريزا باردة كالثلج، وشاركت في وضع الخطة مثلي تمامًا؛ فكان علينا جعل الأمر يبدو كما لو أنه من فعل اللصوص. ظلت تيريزا تكرِّر القصة على سيدتها، بينما تسلقتُ أنا الجدار وقطعتُ حبل الجرس، ثم ربطتها في مقعدها، وأتلفتُ طرف الحبل حتى أجعل الأمر يبدو طبيعيًّا، وإلا تساءل الناس كيف تسنَّى للصِّ الصعود وقطع الحبل. بعدها جمعتُ بضعة أطباق وأوانٍ فضية حتى أنفِّذ فكرة السرقة، ثم تركتهما بعدما أعطيتهما أوامر بإطلاق الإنذار بعد مغادرتي بربع ساعة. ألقيتُ القطع الفضية في البركة وذهبتُ مسرعًا إلى سيدنهام، وأنا أشعر لأول مرة في حياتي أني فعلتُ أمرًا مفيدًا في الليل. وهذه هي الحقيقة، الحقيقة كاملة، يا سيد هولمز، حتى إن كلفتْني رقبتي.»

ظل هولمز يدخِّن لبعض الوقت في صمت، ثم سار عبر الغرفة وصافح زائرنا.

ثم قال: «هذا ما أعتقد؛ أنا أعلم أن كل كلمة قلتَها صحيحة؛ إذ إنك لم تقل كلمة لم أكن أعرفها. فلا يستطيع التسلق من أجل الوصول لحبل الجرس من هذه الدعامة الخشبية إلا بهلوان أو بحَّار، ولا يمكن إلا لبحَّار أن يربط العُقَد التي ثُبت الحبل بها في المقعد. ولم تتواصل هذه السيدة مع بحارين إلا مرة واحدة فقط، وهي في رحلتها إلى هنا، ولا بد أنه شخص من نفس طبقتها؛ إذ كانت تحاول جاهدةً التستر عليه؛ مما يظهر أنها كانت تحبُّه. أرأيتَ كم كان من السهل عليَّ الوصول إليك بمجرد السير على الطريق الصحيح!»

«لقد اعتقدتُ أن الشرطة لن تتمكن أبدًا من إدراك حيلتنا.»

«ولم تتمكن الشرطة من ذلك؛ ولن تتمكن، على أغلب الظن. والآن انظر يا قبطان كروكر، هذه قضية بالغة الخطورة، على الرغم من اعترافي بأنك تصرفتَ تحت أقصى حد من الاستفزاز قد يتعرض له أي رجل. وأنا لستُ متأكدًا من أن فعلك هذا يمكن أن يُعتبر مشروعًا في ظل دفاعك عن حياتك. إلا أن هذا متروك لهيئة المحلَّفين البريطانية لتُدلِي بقرارها فيه. في الوقت نفسه أنا أتعاطف معك كثيرًا، حتى إنك إن اخترت الاختفاء في الساعات الأربع والعشرين القادمة أعدك أن أحدًا لن يَعوقك.»

«وبعدها ستتضح الحقيقة؟»

«بالتأكيد ستتضح الحقيقة.»

احمرَّ وجه البحَّار غضبًا.

«أي رجل يمكن أن يقبل بهذا العرض؟! أنا أعرف عن القانون ما يكفي لأدرك أن ماري ستُعتبر شريكة في الجريمة. هل تعتقد أني سأتركها تواجه العقاب وحدها بينما أهرب بعيدًا؟ لا يا سيدي، دعهم يصبُّوا غضبهم عليَّ، لكن بحق السماء يا سيد هولمز، فلتعثر على طريقة لإبعاد المسكينة ماري عن المحاكم.»

مدَّ هولمز يده مرةً أخرى ليصافح البحَّار وقال: «لقد كنتُ فقط أختبرك، وأنت تُظهر إخلاصك في كل مرة. حسنًا، إنها مسئولية ضخمة عليَّ، لكني أعطيتُ هوبكنز معلومةً رائعة، وإن لم يستطع الاستفادة منها، فلن يسعني فعل أكثر من هذا. انظر يا قبطان سنفعل هذا وفقًا للقانون. أنت السجين، وواطسون أنت تمثل هيئة المحلفين البريطانية، وأنا لم أقابل أحدًا يصلح لأن يمثِّلها أكثر منك، أما أنا فالقاضي. والآن يا سيادة ممثل هيئة المحلفين، لقد سمعتَ الأدلة، هل تجد السجين مذنبًا أم غير مذنب؟»

قلت له: «غير مذنب يا سيدي.»

«صوت الشعب هو صوت الله، لقد برأتك المحكمة يا قبطان كروكر. وما لم يعثر القانون على ضحية أخرى لأعمالك فأنت في أمان مني. عُدْ إلى هذه السيدة بعد عام، ولعل مستقبلها ومستقبلك يثبتان صحة ما اتخذناه من قرارٍ هذه الليلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤