الجزء الأول من مذكرات آدم
الاثنين
إنَّ هذا المخلوق الجديد، ذا الشعر الطويلِ، يُضايقني كثيرًا. إنَّه دائم الحركة، يتبعني أينما ذهبت. إنَّنِي أكره ذلك؛ فلستُ مُعتادًا وجود آخرين معي، إنني أتمنَّى أن يبقى هذا المخلوق مع الحيوانات الأُخرى … إنَّ اليوم كثير السحب، والرياح تهبُّ من الشرق، أظنُّ أنَّنَا سنرى المطر قريبًا.
«إننا»! من أين تعلَّمتُ هذه الكلمة؟ آه تذكرتُ! إنَّ المخلوق الجديد كثيرًا ما يستعملها!
الثلاثاء
لقد كنت أتفرج على الشلال العظيم … إنه أبدع شيء في هذه المنطقة كلها كما أعتقد، إنَّ المخلوق الجديد يطلق عليه اسم «شلَّالات نياجرا»، لماذا؟ لا أعلمُ! فهو يقولُ إن الشلال يُشبه شلالات نياجرا. إنَّ هذا لا يُعَدُّ سببًا، إنَّه مجرد صفاقة وغباء!
الأربعاء
لقد بنيتُ لنفسي مخبأ يقيني المطر، ولكنَّني لم أستطع الانفراد فيه بنفسي، فلقد تطفَّل عليَّ المخلوق الجديد، ولمَّا حاولتُ أن أطرده من المخبأ، أخرج ماء من ثقبي وجهه اللذين ينظرُ منهما، وأخذ يمسح الماء بظهر مخالبه، وبدأت تصدُرُ منه أصواتٌ تُشبه أصوات الحيوانات الأُخرى حينما تحس بالأسى … إنَّنِي أتمنَّى ألَّا يتكلم هذا المخلوق، ولكنه لا يكفُّ عن الكلام!
قد يبدو في هذا الكلام ما يمسُّ كرامته، ولكنَّنِي لم أتعمَّدْ ذلك … لم أسمع في حياتي صوتًا بشريًّا من قبل؛ ولذلك فإنَّ أيَّ صوتٍ جديدٍ غريبٍ يُعكِّرُ صفو السكون في هذه الوحدة الحالمة، يُؤذي سمعي ويبدو كنغمٍ شاذٍّ … إنَّ هذا الصوت الجديد قريبٌ جدًّا منِّي، إنَّه خلف كتفي دائمًا، قريبٌ من أذني، أحيانًا أسمعه من اليمين، وأحيانًا أسمعه من اليسار … لقد اعتدتُ فقط الأصوات التي تأتي من بعيدٍ!
إنَّ إطلاق الأسماء على المُسميات لا ينقطعُ بالرغم من احتجاجي … لقد كنتُ أحتفظُ باسمٍ جميلٍ لهذه المنطقة، اسم جميل له رنين موسيقى؛ «حديقة عدن». إنني أطلق عليها هذا الاسم في قرارة نفسي. إنَّ المخلوق الجديد يقولُ إنها تحتوي على غابات وصخور ومناظر طبيعية؛ ولذلك فإنها لا تُشبِهُ الحديقة إطلاقًا.
إنَّ حياتي لم تَعُدْ سعيدة كما كانت قبلًا!
إنَّ المخلوق الجديد يأكُلُ الفواكه بكثرةٍ زائدةٍ، يبدو لنا «نحن» أنَّ الفاكهة ستختفي بسرعة، ها أنا ذا أستعملُ «نحنُ» مرَّةً أُخرى! إنَّ كلمة «نحن» مُقتبسة من المخلوق الجديد، وقد أصبحت لازمة لي … إنَّ الضَّباب مُتكاثِرٌ هذا الصباح. إنَّنِي لا أخرُجُ في الضَّبابِ، ولكن المخلوق الجديد يخرج، إنه يخرج مهما كان نوع الجو، ثمَّ يعودُ إلى المخبأ وقدماه مُلوثتان بالطِّين، ثمَّ يأخُذُ في الكلام. لقد كنت فيما مضى أستمتعُ بالهدوءِ والرَّاحةِ هُنا!
إنَّ اليوم يومٌ عنيفٌ، فلقد كان في الماضي — في شهر نوفمبر الماضي — قد خُصِّصَ ليكونَ يوم الراحة، وفي هذا الصباح رأيتُ المخلوق الجديد يُحاولُ تسلُّق شجرة التفاح المحرَّمة!
الاثنين
إنَّ المخلوق الجديد يقول إن اسمه «حواء»، ليكن له ما يُريدُ؛ فليس عندي اعتراض على ذلك، وهو يطلبُ منِّي أن أُناديه بهذا الاسم إذا أردتُ منه أن يأتي إليَّ، فقلت له إنه ليس هناك داعٍ لذلك.
ثمَّ يقولُ لي هذا المخلوق إنه ليس «هو» جمادًا، بل «هي» … ولم أفهم ماذا يعني بذلك! ومع ذلك، فالأمرُ يستوي في نظري، ولا يهمني كثيرًا من تكون «هي»، طالما ظلَّت بعيدة عنِّي، وكفَّت عن التحدُّثِ إليَّ!
الثلاثاء
إنها تقول: إن هذا المتنزَّه كان يُمكنُ أن يصبح مصيفًا جميلًا.
«مصيف»! اختراعٌ جديدٌ من اختراعاتها … كلماتٌ لا معنى لها! ما هو المصيف؟! ولكن يحسنُ ألَّا أسألها فهي مُغرمة جدًّا بالشرحِ والتَّفسيرِ!
الجمعة
لقد أَخَذَتْ تتوسَّلُ إليَّ أن أَكُفَّ عن الذهاب إلى الشلالات. وما الضَّرَرُ في هذا؟! إنَّها تقولُ إنَّ ذلك يجعلها ترتعدُ فَرَقًا، لماذا يا تُرى؟! لقد اعتدت ذلك منذُ زمنٍ بعيدٍ؛ فإنَّنِي أحبُّ القفزَ في الماءِ لأُرطِّب جسدي، وأظنُّ أنَّ الشلالات خُلِقَت لهذا؛ إذ ليس لها فائدة أُخرى، ولكنها قالت إنها خُلِقَتْ للفرجة فقط؛ مثل وحيد القرن والفيل.
لقد قفزتُ من فوق الشلَّالات داخل برميل، فلم يُرْضِها ذلك، فقفزت من فوقها داخل «قصعة» فلم يُرْضِها ذلك، وسبحتُ عبر الدوَّامة والشلالات في ملابس للاستحمام مصنوعة كلها من ورقِ التُّوت، فتلفت الملابس، وبدأتُ أسمع منها شكاوى عن إسرافي، إنني أحسُّ هنا بالضيق.
السبت
لقد هربتُ ليلة الثلاثاء الماضي وسرت على قدمي مُدَّةَ يومين، وبنيتُ لي مخبأ آخر في مكانٍ مُنعزل، وأخفيتُ آثار أقدامي بقدرِ ما أستطيعُ، ولكنها اقتفت أثري بأن استخدمت حيوانًا استأنسته وأَسْمَتْه الذئب، وجاءت هي الأُخرى تُصدِرُ صوتًا يدعو إلى الإشفاق، وأخذت تذرف الماء من الفتحتين اللتين تنظر منهما، فاضطررتُ أن أعودَ معها، ولكنِّي عازمٌ على الهرب مرَّةً أُخرى عند سنوح الفرصة.
إنَّها تشغلُ نفسها بأشياء كثيرة تافهة، فهي تحاولُ أن تدرس أسباب إقبال الحيوانات المسمَّاة بالسباع والنمور على أكل الحشيش والأزهار، في حين أنَّها — على حدِّ قولها — ذاتُ أسنانٍ يدلُّ شكلها على أنها خُلِقت لكي تأكُلَ هذه الحيوانات بعضها بعضًا … إنَّ هذا شيءٌ سخيفٌ حقًّا؛ لأنها إن فعلت هذا فإنَّ معناهُ أن هذه الحيوانات سيقضي بعضها على بعض، وسيعقب ذلك ما يُسمَّى «بالموت» … ولقد قيل لي إنَّ الموت لم يدخل المتنزَّه بَعْدُ … وهذا ما يدعو للأسف لبعض الأسباب!
الاثنين
إنني أعتقدُ أنَّنِي فهمتُ لماذا خُلِقَ الأسبوع! نعم؛ إنَّه وُجِدَ لكي يُعطينا وقتًا تستريحُ فيه من الضِّيقِ الذي نحسُّ به يوم الأحد … يبدو أنَّ هذه فكرة طيبة. ها هي ذي قد عادت مرَّة أُخرى تُحاوِلُ أن تتسلَّق تلك الشجرة. لقد جذبتها إلى الأرض، إنها تقول إنه ليس هناك من يراقبها، كأنَّ في ذلك تبريرًا كافيًا لكي تقوم بهذه المغامرة، لقد قلتُ لها ذلك، ولقد أثارت كلمة «تبرير» إعجابها، وغيرتها أيضًا، إنها كلمة فخمة!
الثلاثاء
لقد أخبرتني أنها خُلِقت من ضلعٍ أُخِذَتْ من جسمي … هذا يدعو إلى الشك؛ ذلك لأنني لم أفقد ضلعًا واحدًا من أضلعي … إنَّها قلقةٌ جدًّا على الصقر؛ فإنَّ الحشيش لا يُوافقه كغذاء، وهي تخشى ألَّا تستطيع تربيته، فهي تعتقدُ أنَّه يتغذَّى بالأسماكِ الميتة. قلت لها إنَّ الصقر يجبُ أن يعتاد ما يجده أمامه، وإنَّنَا يجبُ ألَّا نقلب نظام الكون لكي نوفِّرَ للصَّقرِ طعامه!
السبت
لقد سَقَطَتْ في البركةِ أمس عندما كانت ترنو إلى نفسها على صفحة الماء — وهو أمرٌ لا تكفُّ عن القيامِ به — وكانت على وشكِ الاختناق، وقالت: إنَّ الماءَ غير مُريح. وعبَّرَت عن أسفها الشديدِ على المخلوقات التي تعيشُ فيه، وقد أطلقت على هذه المخلوقات اسم «الأسماك»، وهي لا تنفكُّ تُطلِقُ الاسمَ تلو الاسمِ على الأشياءِ التي لا تحتاجُ لهذه الأسماء، والتي لا تأتي إلينا عندما نُناديها بأسمائها، وهو أمرٌ لا يهمها؛ ولذلك استطاعت أن تحصل على عددٍ كبيرٍ من الأسماك، وأن تُحضرها إلى المخبأ في الليلة الماضية، وأن تضعها في فراشي لكي تشعر هذه الأسماك بالدِّفءِ، ولكنِّي أحسستُ بها ورأيتُ أنها لم تكُن أسعد في فراشي ممَّا كانت في الماء، غير أنها ما لبثت أن هدأت. وعندما يأتي الليل سأُلقيها خارج المخبأ، ولن أنام مع الأسماك مرَّةً أُخرى، فقد وجدتها لزجة، وليس من المستحبِّ أن أنامَ بينها وأنا عارٍ.
الأحد
مرَّ بسلامٍ.
الثلاثاء
لقد اتَّخَذَتْ «هي» من إحدى الحيَّات خليلة لها، ولقد سُرَّت الحيوانات الأُخرى بذلك سرورًا عظيمًا؛ لأنها كانت تقوم بتجارب معها وتضايقها … إنَّنِي سعيدٌ؛ لأن الحية تتكلَّمُ، ولذلك أستطيعُ الآن أن أحصلَ على شيءٍ من الرَّاحة.
الجمعة
إنها تقولُ إنَّ الحية تنصحها بأن تُجرِّبُ أكل ثمرة من تلك الشجرة، وتذكُرُ أنَّ النتيجة ستكونُ الحصولُ على المعرفةِ العظيمةِ، فقلت لها: إنَّ هناك نتيجةً أُخرى أيضًا؛ هي أنَّ الموت سيدخُلُ في عالمنا.
لقد كان ذلك خطأٌ منِّي — إذ كان يحسُنُ أن أحتفظ بملاحظتي هذه لنفسي؛ ذلك لأنها أعطتها فكرة جديدة — إنها تستطيعُ أن تُنقِذَ الصَّقر المريضَ، وأن تَمُدَّ السباع والنمورَ بلحمٍ طازجٍ. لقد نصحتُها بأن تبتعدَ عن الشجرة، ولكنها قالت إنها لن تبتعد! إنني أتوقَّعُ المتاعب وسأُحاوِلُ أن أهرب!
الأربعاء
لقد أمضيتُ وقتًا عجيبًا، هربتُ ليلة أمس وركبت حصانًا مدى الليل، وأسرعتُ به بأقصى ما يستطيعُ، وكلُّ أملي أن أخرُجَ من المتنزَّه، وأختبئُ في مكانٍ آخر قبل أن تبدأ المتاعب، ولكن لم يتحقَّق لي ذلك. فبعد شروقِ الشَّمسِ بساعةٍ، وبينما كنتُ أمرُّ خلال سهلٍ تُغطِّيهِ الأزاهير وترعى فيه آلاف الحيوانات، وبينما كانت تنام أو يداعِبُ بعضها بعضًا على مُتعارف مألوفها؛ إذ بها فجأة تُصدِرُ أصواتًا كالرعد. وفي لحظةٍ واحدةٍ امتلأ السَّهلُ بثورةٍ جنونيَّةٍ، وأخذ كلُّ حيوانٍ يفتكُ بجاره، لقد عرفتُ في الحالِ معنى هذا، لقد أكلت حوَّاءُ تلك الثمرة وجاء الموت إلى العالم، فأكلت النمور حصاني، ولم تُعِرِ اهتمامًا لأوامري التي صدرت إليها بأن تكفَّ عن هياجها، وكانت على وشكِ أن تفتكَ بي إذا بقيتُ؛ ولذلك أسرعتُ بالهرب.
ووجدتُ هذا المكان خارج المتنزه وشعرتُ بالرَّاحة بضعة أيَّام، ولكنها اكتشفت مكاني، نعم! لقد لحقت بي، وأطلقت على هذا المكان اسم «توناوندا»، وقالت إنه يشبهه. وفي الحقِّ أنَّنِي لم أغضب لأنها حضرت؛ ذلك لأن الفاكهة هُنا كانت قليلة وقد أحضرَت معها بعض التفاحات، فاضطررتُ أن آكلها؛ لأنني كنتُ في شدَّة الجوع.
لقد كان ذلك ضدَّ المبادئ التي أدين بها، ولكنني اكتشفتُ أنَّ المبادئ ليس لها كيانٌ حقيقيٌّ إلا عندما تكون معدة الإنسان ممتلئة. لقد جاءت إليَّ، وقد اكتست بفروع الأشجار وأوراقها، وعندما سألتها ماذا تعني بهذا السخف، واختطفتُ هذه الفروع وألقيتُها بعيدًا؛ بدأت تغرق في الضحك، واحمرَّ وجهها خجلًا.
لم أرَ في حياتي شخصًا يضحك خجلًا قبل الآن، فكان ذلك مِنها دليلًا على الجنونِ، وقالت لي إنني سأحس بإحساسها فورًا، وكان ذلك حقًّا، فبالرغم من أنني كنت جائعًا، تركتُ التفاحة، وأنا لم آكل إلَّا نصفها فقط — لقد كانت التفاحة ممتازة حقًّا إذا راعينا أنَّنَا في نهاية الموسم — وأخذت أكتسي بفروع الأشجار وأغصانها، ثمَّ بدأتُ أحدثها بشيءٍ من القسوةِ، وأمرتها أن تبتعد وأن تبحث عن أوراق وفروعٍ أُخرى؛ لكي تغطِّي بها نفسها.
وفَعَلَتْ ما أمرتها به، وبعد ذلك تسلَّلْنا إلى حيثُ تقطُنُ الوحوش المفترسة، وجمعنا بعضًا من جلودها، وأَخَذَتْ تخيطُ كلَّ اثنين منها معًا؛ لكي تُنَاسِبُ الاستعمالَ في الحفلات العامَّة. إنها تُضايِقُ لابسها حقًّا، ولكنها تُعتبَر مُطابقة لطراز العصر، وهذا هو أهم شرط في الملابس.
لقد وجدتُ فيها رفيقًا ممتازًا، وشعرت بأنَّنِي سأحسُّ بالوحدةِ والأسى بدونها بعدَ أن فقدتُ ممتلكاتي … وهُناك شيءٌ آخر؛ لقد ذكرت لي أن الأوامر قد صدرت بأن نعمل من الآن فصاعدًا؛ لكي نحصل على القوتِ، وأخبرتني بأنها ستقوم من جانبها هي بالعمل، وأتولَّى أنا الإشراف.
بعد ذلك بعشرة أيام
إنها تتَّهِمُني بأنَّنِي سببُ البلاءِ؛ فهي تقولُ — وهي تُظهر الإخلاص والصدق — إن الحية أكدت لها أنَّ الفاكهة المُحرمة ليست هي التفاح، بل إنها القسطل «أبو فروة».
فقلتُ لها: إنَّنِي بريءٌ إذن لأنني لم آكُل القسطل!
فقالت إنَّ الحيَّة أخبرتها أنَّ «القسطل» استعارة معناها نكتة قديمة متعفنة، فاصفرَّ وجهي؛ لأنَّنِي كنتُ أقضي وقتي وأنا أُكرِّرُ النكتة تلو الأخرى، وقد يكون بعض هذه النكات من النوع الذي تتحدَّثُ عنه الحيَّة، ولو أنَّنِي كنتُ أعتقد أنها كلها نكات جديدة، فسألتني عمَّا إذا كنت قد قلت نكتة عند وقوع الكارثة؟
واضطررتُ إلى الاعتراف بأنَّنِي قلتُ لنفسي نكتة بصوتٍ منخفضٍ، وهذه هي النكتة، لقد كنتُ أفكِّرُ في الشلَّالات وقلتُ لنفسي إنَّ من المدهش حقًّا أن أرى هذه الكمية الهائلة من المياه وهي تتساقَطُ هناك. وبعد لحظاتٍ مرَّت فكرة طارئة على خاطري؛ فقلت: «ستكون الدهشة أعظمُ عندما أشهد هذه الكمية وهي تتصاعدُ إلى أعلى.» وكنتُ على وشك أن أموت من الضَّحِكِ عندما اندلعت ثورة الطبيعة، وقامت الحرب، وظهر الموت، فاضطررتُ أن أهرب خوفًا على حياتي.
فقالت حواء وهي تحس بالنشوة لانتصارها: «هذا هو السبب! إنَّ الحية قد ذكرت هذه النكتة بالذات، ووصفتها بأنها أول قسطل وبأنها تُعاصِرُ الخليقة.»
يا للأسف! إذن فأنا الملومُ، لقد كنتُ أتمنَّى ألَّا أكون ابن نكتة، وألا تطرأ عليَّ هذه الفكرة النَّيِّرة!
العام التالي
لقد أسميناه «قايين» ولقد صادته عندما كنتُ غائبًا في المراعي أصيد الحيوان على الشاطئ الشمالي لبُحيرة إيري، صادته في الكوخ الخشبي على بعد ميلين — أو أربعة أميال على حد قولها — من الكهف الذي كُنَّا نعيشُ فيه.
إنَّه يشبهنا في كثيرٍ من الوجوهِ، وقد يكونُ أحد أقاربنا، وهذا ما تعتقده هي، ولكن هذا حسب تقديري خطأ؛ إنَّ الاختلافَ في الحجمِ يُؤكِّدُ أنَّه حيوانٌ جديدٌ يختلفُ عنَّا، فربما كان سمكة، ولكنَّنِي حاولتُ أن أضعه في الماء لكي أختبره فغطس، فقفزت هي في الماء والتقطته قبل أن أتحقَّقَ من نتيجة التجربة. ولكنَّنِي ما زلتُ أعتقد أنه سمكة، ولكنها لا تهتم بمعرفة ما هو وترفض أن تدعني أجري تجاربي عليه؛ ولذلك لم أستطع أن أعرف شيئًا عنه.
إنَّ ظهور هذا المخلوق قد غيَّر من كيانها كله، وجعلها تثور كُلَّما ذكرتُ كلمة التجارب، فهي تُفكِّرُ فيه أكثر ممَّا تفكِّرُ في غيره من الحيوانات الأُخرى، ولكنها لا تستطيعُ تفسير هذا التطوُّر. إنَّ عقلها قد أصابه الخلل؛ فكل تصرفاتها تدلُّ على ذلك، وفي بعض الأحيان تحملُ السمكة في ذراعيها الليل كله، عندما يبكي هذا المخلوق! لا بدَّ أنه يرغب في العودةِ إلى الماء، وفي بعض الأحيان يخرُجُ الماء من الثقبين اللذين ينظر منهما، وهي تربت بيدها ظهر السمكة، وتطلقُ من فمها أصواتًا ناعمةً لكي تهدِّئها، وتبدو عليها مظاهر الأسى واللوعة.
ولم أرَها تفعل ذلك مع أي سمكة أُخرى، وهذا ما يزيد من متاعبي، فقد كانت في الماضي تحمل النمور الصغيرة وتلعبُ معها — قبل أن تفقد ممتلكاتها — ولكن كان ذلك كله عبثًا فقط، ولم يعتَرِها ما يبدو عليها الآن عندما لا يُنَاسِبُ الطَّعامَ معدتها.
الأحد
إنها لا تعملُ أيَّام الآحاد، ولكنها تنامُ وهي منهوكة القوى، وهي تحبُّ أن ترى السمكة تتمرَّغُ فوقها، وتصدرُ عنها أصوات لا معنى لها؛ لكي تبعثَ السرورَ في نفس السمكة، وهي تتظاهرُ أحيانًا بأنها ستعض يد السمكة، فتضحك السمكة … لم أرَ في حياتي سمكة تضحك، إنَّنِي في غاية الشَّكِّ، لقد بدأتُ أُحِبُّ يوم الأحد، إنَّ عملي كمشرف طوال أيَّام الأسبوع يتعب جسمي … يجب أن يزداد عدد أيَّامِ الآحاد، ففي الماضي كان يوم الأحد مُمِلًّا، أمَّا الآن فقد أصبح مرغوبًا فيه.
الأربعاء
إنَّ هذا المخلوق الغريب ليس بسمكة … إنَّنِي لا أستطيعُ التكهُّن بحقيقته، فهو يُطلِقُ أصواتًا شيطانية غريبة عندما يكون غاضبًا، كما يقول: «جو! … جو!» عندما يكونُ مسرورًا، إنَّه ليسَ واحدًا منَّا لأنه لا يمشي، وهو ليس بطائرٍ لأنه لا يطير، وليس بضفدع لأنه لا يقفز، وليس بثعبان لأنه لا يزحف.
إنَّنِي على يقينٍ أنه ليس بسمكة، ولو أنَّنِي عاجزٌ عن إيجاد فُرصَةٍ لاختبار مقدرته على السباحةِ، إنَّه لا يعمل شيئًا سوى الرقاد، إنه يرقدُ على ظهره ويرفع ساقيه إلى أعلى! لم أرَ حيوانًا غيره يفعلُ ذلك، فقلت لها: إنَّنِي أعتقدُ أنَّهُ لغزٌ. فلم يكن منها إلَّا أن أبدت إعجابها بالكلمة دُون أن تفهم معناها … وفي رأيي أنَّه إمَّا أن يكون لغزًا أو نوعًا من الحشرات، وإِذا قُدِّرَ له أن يموت، فإنَّنِي سوفَ أقومُ بتشريحه لكي أرى ما بداخله … لم يسبق أن حيرني شيء مثل هذا!
بعد ذلك بثلاثة أشهر
إنَّ الحيرة تزدادُ بدلًا من أن تَقِلَّ! إنَّنِي أنامُ الآن قليلًا، لقد كفَّ المخلوقُ عن الرقاد، وبدأ يحبو على أقدامه الأربع. ولكنه يختلفُ عن جميع الحيوانات التي تسيرُ على أربع؛ ذلك لأن قدميه الأماميتين قصيرتان للغاية، ممَّا يجعلُ الجُزءَ الرئيسي من جسمه يرتفعُ في الهواء، وبذلك يبدو قبيحًا إذا نظرت إليه … إنَّ تركيب جسمه يُشبِهُ تركيب جسمنا، ولكن طريقة انتقاله تدُلُّ على أنَّهُ ليس من جنسنا، فإنَّ الساقين الأماميتين القصيرتين، والساقين الخلفيتين الطويلتين تدلُّ على أنَّه من فصيلة القنغر «الكنجارو»، ولكنه نوعٌ عجيبٌ من هذه الفصيلة؛ وذلك لأن القنغر الحقيقي يقفز أثناء جريه في حينِ أنَّ هذا المخلوق لا يفعل ذلك … ومع ذلك فهو نوعٌ غريبٌ شائِقٌ لم يسبق وضعه في القائمةِ من قبل، ولقد أحسست بأنَّنِي أستحقُّ أن أنسب اسمه إليَّ؛ لأنني أوَّلُ من اكتشفه ولذلك أسميته قنغر آدم!
ولا بدَّ أنه كان صغيرًا جدًّا عندما ظهر؛ لأنه كبر كثيرًا منذ ذلك التاريخ، ولقد أصبح حجمه خمسة أضعاف حجمه الأول؛ ذلك لأنه عندما يكون غاضبًا تصدر عنه أصوات مُزعجة تُعادِلُ ثمانيًا وثلاثين مرَّة ضجيج الأصوات التي كان يُصدرها في بادئ الأمر.
إنَّ العنيدة «حوَّاء» لا تُحاول أن تمنعه من ذلك، بل إنَّها على العكس تُحاول أن تسترضيه بإعطائه أشياء سبق أن تعهَّدَت لي بأنها لن تعطيه إيَّاها. وقد سبق أن ذكرتُ أنَّنِي لم أكن بالبيت عندما ظهر هذا المخلوق، ولقد أخبرتني وقتئذٍ أنها عثرت عليه في الغابة … لقد كان غريبًا أنها وجدته وحده، ولقد أجهدتُ نفسي كثيرًا لكي أبحث عن مخلوقٍ يُماثله حتى أُضيفه إلى مجموعتي لكي يلعب مع هذا المخلوق، وبذلك تخفُّ الضوضاء التي يحدثها، ولكي نستطيع أن نستأنسه بسهولة، ولكنني لم أستطع أن أجد له مثيلًا.
ومن الغريب أنَّنِي لم أعثُرْ له على آثار أقدام، إنَّه يعيشُ على الأرض، ولكن كيف يستطيع الانتقال دُون أن يترك أثرًا؟!
لقد نصبتُ اثني عشر فخًّا، ولكنني أخفقتُ، لقد سَقَطَتْ في الفخِّ حيواناتٌ أُخرى، ولكن لم يقع حيوانٌ مثله في الفخِّ، إنَّ الحيوانات تدخل الفخ لمجرَّدِ حبِّ الاستطلاع حتى تعرف سبب وضع اللبن داخل الفخ، ولكنها لا تشربه أبدًا.
بعد ذلك بثلاثة أشهر
إنَّ القنغر لا يزال ينمو باطِّرادٍ، وهذا شَيْءٌ غريبٌ جدًّا ومُحيِّرٌ للغاية. لم أعرف حيوانًا آخر يستغرِقُ هذه المُدَّة الطويلة في النمو، إنَّ له فراءً يُغطِّي رأسه الآن، ولكن الفراء لا يُشبه فراء القنغر، بل يُشبه شعرنا تمامًا، لولا أنَّه أكثر نعومة وأقلُّ جعدًا ولونه أحمر وليس بأسود، إنَّنِي أكاد أفقد عقلي كُلَّمَا فكَّرتُ في النمو السريع لهذا الحيوان العجيب الذي لم يسبق أن سُجِّلَ نوعه بين الحيوانات.
لو قُدِّرَ لي أن أصيد حيوانًا آخر! إنَّنِي يائسٌ؛ ذلك لأنه نوع جديد، بل هو نوع فريد.
وقد اصطدتُ قنغرًا حقيقيًّا، ووضعته معه ظنًّا منِّي أنَّه سيُصاحبه، فلا يشعر بالوحدة؛ وذلك لصلة القرابة التي بينهما، كما أنه سيحسُّ بالعطف نحوه نظرًا لوُجوده بين غرباءَ لا يعرفونَ طباعه، ولا عاداته، ولا ماذا يفعلون لكي يشعروه أنه بين أصدقاء!
ولكن كان هذا العملُ منَّا خطأً كبيرًا؛ إذ إنَّه أُصِيبَ بنوبات عندما رأى القنغر، حتَّى إنَّنِي اقتنعتُ بأنه لم يرَ قنغرًا من قبل، إنَّنِي أُشفق على هذا الحيوان الصغير المسكين، ولا حيلة لي في طريقةٍ أستطيعُ بها أن أُحاول إسعاده. آه لو استطعت أن أُرَوِّضَه! ولكن هذا من رابع المستحيلات، إنَّ حوَّاءَ ترفُضُ السَّمَاحَ بهذا، ولكن هذه قسوةٌ منها! إنَّ الحيوان لا يزالُ يحسُّ بالوحدةِ، فإنه نظرًا لعدم استطاعته العثور على حيوانٍ آخرَ مثله لا بدَّ أن يحس بالوحدة بالرغم منه.
بعد خمسة أَشهرٍ أُخرى
إنَّه ليس بقنغر … لا! إنه يستطيعُ الآن أن يقفَ على قدميه، ويمسكَ بأصابع حوَّاء، ثمَّ يسير بضع خطوات على ساقيه الخلفيتين، وبعد ذلك يقع، رُبَّما كان نوعًا غريبًا من أنواع الدببة، ولكن ليس له ذيلٌ، وليس له فراء غير الشعر الذي على رأسه، وهو لا يزال مطرد النمو، إنَّ هذه حال غريبة، فالدببة تكبُرُ في سنٍّ مُبكِّرَةٍ عن ذلك، إنَّ الدببة خطرة، وقد أدركتُ هذا منذُ وقعت المصيبة التي حلَّت بنا، ولن أسمح لهذا الدبِّ أن يتجوَّلَ في منطقتنا دُونَ أن أضع كمامة على فمه … لقد تقدَّمتُ لحوَّاءَ أعرض عليها أن أهديها قنغرًا إذا طردت هذا الحيوان الغريب، ولكن كان هذا عبثًا، إنَّها مُصمِّمَةٌ على تعريضنا للمكاره، لم تكن هذه حالها قبل أن تفقد عقلها!
بعد ذلك بأسبوعين
لقد فحصت فمه، ليس ثمَّة خطر! إنَّ له سنًّا واحدةً، وليس له ذيلٌ حتَّى الآن، غير أنَّ صوته أعلى بكثيرٍ من ذي قبل، وبخاصَّةٍ في الليل، لقد تركتُ المخبأ ورقدتُ خارجه، ولكنَّنِي سأعاودُ فحص فمه، فإذا زاد عدد أسنانه، فإنَّ الوقتَ سيكونُ قد آن لكي يُطرَد، سواءٌ كانَ له ذيلٌ أم لا؛ لأنَّ الدبَّ ليس في ٍحاجة إلى ذيلٍ لكي يُصبحَ خطرًا.
بعد ذلك بأربعة أشهر
وعلى أيِّ حالٍ سأخرُجُ في رحلةٍ بعيدةٍ إلى الغابات الشمالية، وسأقومُ ببحثٍ دقيقٍ عن حيوانٍ آخَرَ من نفس النوع، فإنه لن يكون خطرًا إذا استطعتُ العثور على رفيقٍ له من نفس النوع، سأذهب الآن، ولكنني سأضعُ كمامة على فمه قبل الرحيل.
بعد ثلاثة أشهر
لقد كان الصيد مُتعبًا شاقًّا، ولم أنجح في مُهمَّتي، وفي أثناء ذلك استطاعت هي — دُونَ أن تُفارِقَ المنطقة — أن تصيدَ حيوانًا آخر! لم أرَ في حياتي حظًّا كحظِّها، فقد كان يمكن أن أصطاد مئات السنين في الغابة دُونَ أن أستطيع العثور على حيوانٍ مثله.
اليوم التالي
لقد كنتُ أقارن الحيوان الجديد بالقديم، ومن الواضح جدًّا أنهما من نفس الفصيلة، وكنت على وشكِ تحنيطِ أحدهما لضَمِّهِ إلى مجموعتي، ولكنها عارضت هذه الفكرة لسببٍ ما؛ ولذلك طرحت الفكرة، ولو أنَّنِي كنتُ أعلمُ أنَّهَا مُخطئة؛ ذلك لأنَّ العلم لا بدَّ أن يخسر خسارة لا تُعوَّض إذا انقرض هذان الحيوانان.
إنَّ الحيوان القديم أكثر ألفة من الحيوان الجديد، ويستطيعُ الضَّحِكَ كما يتحدَّثُ كالببغاء، ولا بدَّ أنَّه تعلَّم كثيرًا؛ ذلك لأنه كثيرًا ما يُصاحب الببغاء ساعاتٍ طويلة، ولأن ملكة التقليدِ عنده على درجةٍ كبيرةٍ من الكفاية؛ ولذلك ستُصيبني الدهشة إذا تحوَّلَ إلى نوعٍ جديدٍ من الببغاوات، ومع ذلك يجبُ ألَّا أُدهَش؛ ذلك لأنه كان يشبه كلَّ شيءٍ في أيَّامِهِ الأُولى، عندما كان سمكة.
إنَّ الحيوان الجديد بنفس القُبح الذي كان عليه الحيوان القديم في مبدأ الأمر، فله نفس البشرة التي تُشبه الكبريت، واللحم النيِّئ، ونفس الرأس الفريد الذي ليس له فراء، لقد أسمته «هابيل».
بعد ذلك بعشر سنوات
إنَّهما أولاد، لقد اكتشفنا ذلك منذُ عهدٍ بعيدٍ، وكان الذي حيَّرني أنهما وصلا وهما صغيران غير مستويين، ولم نكن اعتدنا رؤيتهما، إنَّ عندنا بناتٍ أيضًا، إنَّ هابيل ولدٌ طيِّبٌ، ولكن إذا قُدِّر لهابيل أن يظلَّ دُبًّا فقد يكون أحسن طبعًا منه الآن … وبعد هذه السنوات أيقنتُ أنَّنِي كنتُ مُخطئًا في حقِّ حواءَ في بادئ الأمر، فخيرٌ لي أن أعيشَ خارج الجنَّةِ وهي بجانبي من أن أعيش في داخلها بدون حواء!
كنتُ أعتقدُ في بادئ الأمر أنَّها تتحدثُ كثيرًا، ولكنني — الآن — لا بدَّ أن أحزن إذا سَكَتَ هذا الصوت واختفى من حياتي … مباركٌ «القسطل» الذي قرَّبنا من بعضنا وعلَّمني كيف أقدر طيبةَ قلبها وحلاوة روحها!