الجزء الثاني من مذكرات حوَّاء
السبت
أكادُ أبلُغُ من العُمرِ يومًا واحدًا، فلقد وصلتُ أمس. هذا ما يبدو لي … ولا بدَّ أن يكون الأمر كذلك؛ إذ لو أنَّ هناك يومًا سابقًا للأمس، فإنَّنِي لم أكن موجودة فيه، وإلَّا لكُنتُ أتذكره، وقد يكون هناك يوم سابق للأمس ولكنني لم أتنبَّهْ إليه … حسنًا جدًّا! سأكونُ أكثر يقظةً وانتباهًا، وإذا حدث أن مرَّ بي «يومٌ سابقٌ للأمسِ»، فسوف أتنبَّهُ إليه … ويحسنُ أن أبدأ مُذاكرتي الآن حتَّى لا يختلط عليَّ الأمر، فإنَّ غريزتي تُوحي لي بأنَّ هذه التفاصيل سوفَ تكونُ لها أهميتها للمُؤرِّخين يومًا ما؛ ذلك لأنِّي أحسُّ بأنَّنِي أُشبِهُ إحدى التجارب … وليس هُناكَ شخصٌ يحسُّ بأنَّهُ يُشبه التجربة كما أُحسُّ أنا؛ ولذلك فإنني على وشك أن أقنع نفسي بأنني لست سوى تجربة … لا أكثر!
ولذلك فإذا كنت تجربة، فهل أنا كل التجربة؟ لا! لا أظنُّ ذلك، إنَّنِي أعتقدُ أنَّنِي لستُ إلَّا جُزءًا منها، ولكنَّنِي الجزءُ الهامُّ فيها، ولكنَّنِي أعتقدُ أنَّ للجزءِ الآخر نصيبه منها، فهل موقفي واضحٌ؟ أم يجبُ عليَّ أن أكون يقظة مُترقِّبة؟!
إنَّ الغريزة تقول لي إنَّ اليقظة الدَّائمة هي ثمن التفوق (أعتقدُ أنَّ هذه عبارة حسنة بالنسبة لشخصٍ في مثل سنِّي المبكرة).
واليوم يبدو كل شيءٍ خيرًا منه أمس. إنَّ التسرُّع في إنهاء الأعمال بالأمسِ قد أدَّى إلى أن تصبح الجبال شديدة التعاريج، كما امتلأت السهول بالمخلَّفات حتَّى أصبَحَ منظرها يُرثَى له … إنَّ الأعمال الفنِّيَّة الرَّائعة يجب ألَّا تخضع للعجلة، وهذا العالم الجديد الفخم عملٌ جميلٌ نبيلٌ يبلغ حدَّ الكمالِ، بالرَّغمِ من قصر الوقت الذي تَمَّ فيه، فهناك نجومٌ عديدةٌ في بعض الأماكن، ونجومٌ قليلةٌ في البعضِ الآخر، وأظنُّ أنَّ من الميسور علاج ذلك قريبًا … لقد حدث ليلة أمس أن تَرَكَ القَمَر مداره واختفى، يا لها من خسارةٍ كُبرى! إن قلبي يكادُ ينفطرُ كُلَّما فكَّرتُ في ذلك، فليس هناك شيءٌ آخر بين معالم الزَّخارف والزينات يُعادل القمر في الجمال والإتقان. كان يجب تثبيته في مكانه جيدًا … آهٍ! لو قُدِّرَ لنا أن نحصل عليه مرَّةً أُخرى!
إنَّنَا بالطَّبعِ لا نَستطيعُ أن نتكهَّنَ بالمكان الذي ذهب إليه. زد على ذلك أنَّ الذي استولى عليه سوف يُخفيه … إنَّنِي أعلمُ ذلك؛ لأنني لو كنتُ مكانه لفعلتُ هذا الشيء بعينه، إنَّنِي أعتقدُ أنَّ في مقدوري أن أكون أمينة على جميع الأشياء الأُخرى، ولكنَّنِي بدأتُ أحسُّ بأنَّ نواة وصلب طبيعتي هو حبُّ الجمال، وعبادة الجمال، وأنَّه ليسَ من الحكمةِ أن يُوكَل إليَّ أمر المحافظة على قمرٍ يملكه شخصٌ آخر لا يعلم أنَّه عندي. وقد يكون من الممكن أن أتخلَّى عن قمرٍ أعثُرُ عليه بالنَّهار؛ لأنَّنِي أخشى أن يكتشف أحد أمري، ولكنني إذا عثرت عليه في الظلام، فلا بدَّ أنَّنِي سأجدُ عُذرًا يسوِّغُ إخفاءه.
إنَّنِي أحبُّ الأقمار، إنها جميلة وساحرة، إنني أتمنَّى أن يكون لنا خمسة أو ستَّة أقمار، ففي هذه الحالة لن أذهب إلى فراشي، ولن تملَّ نفسي التطلُّعَ إليها وأنا راقدةٌ على الحشائش.
إنَّ النجومَ جميلةٌ أيضًا، إنَّنِي أتمنَّى أن أُعلِّقَ بعضًا منها في شعري، ولكنَّنِي أعتقدُ أنَّ هذا مستحيلٌ؛ لأنها بعيدةٌ عنِّي! ولقد كنتُ أعتقدُ أنها قريبة المنال، فلمَّا ظهرت ليلة أمس حاولتُ أن أُسقِطَ بعضًا منها بعصا من الخشب، ولكنَّنِي لم أستطع بلوغ مكانها، وهذا مِمَّا حيَّرَنِي حقًّا. ثمَّ جربت استعمال الرمح حتى كلَّتْ يَدِي ولم أستطع الحصول على نجمٍ منها. ولعلَّ السبب في ذلك أنَّنِي أستعملُ يدي اليسرى، ولا أستطيعُ إجادة التصويب.
ولذلك بكيتُ قليلًا، وكان هذا طبيعيًّا لمن كانت في مثلِ سنِّي، وبعد أن استرحتُ قليلًا حملتُ سلَّةً واتَّجَهتُ نحو المكان الذي يقعُ على حافَّة الدَّائرة؛ حيثُ تبدو النجوم قريبة من الأرض، وحيثُ أستطيع أن أُمسكها بيدي، وكان هذا أفضل؛ لأنه يُمكِنُنِي جمعها برفقٍ، فلا ينكسر منها شيء، ولكنها كانت أبعد مِمَّا أظنُّ حتَّى إنَّنِي اضطررت أخيرًا أن أتركها وشأنها، لقد كنتُ مُتعبةً إلى حدِّ أنَّنِي لم أستطع أن أجرَّ قدميَّ اللتين كانتا تؤلمانَنِي كثيرًا.
ولم أستطع العودة إلى البيت إذ كانت المسافة بعيدة، وأصبح الجوُّ باردًا، ولكنَّنِي وجدتُ بعض النُّمُورِ فرقدتُ بينها وأحسست بالدفء والراحة. وكانت أنفاسها حلوة؛ لأنها تعيش على الفراولة … لم أرَ نمرًا من قبل ولكنَّنِي عرفتها في الحالِ بجلدها الأرقط، لو استطعتُ أن أحصل على جلدٍ من جلودها لصنعتُ لنفسي منه «فستانًا» جميلًا.
واليوم بدأتُ أستطيع تقدير المسافات، فقد كنتُ في شوقٍ بالغٍ للإمساك بكلِّ شيءٍ جميلٍ، ولكنني كنتُ أحيانًا أمسك الشوك الذي يتخلَّلَها فتعلَّمتُ درسًا، كما أطلقتُ مثلًا — من تأليفي أنا — وهو أوَّلُ مثلٍ أطلقته: «لا بدَّ أن نُقاسي الشوك حتى نحصل على «التجربة» التي عقدنا العزم على الحصول عليها.»
وأظنُّ أنَّ هذا المثل يُعتبَر مثلًا ممتازًا بالنسبة لشخص في مثل سنِّي.
لقد اقتفيتُ أثر «التجربة» الأُخرى بعد ظهر أمس، وكنت أسيرُ على مسافةٍ قريبةٍ منها لأرى ماذا تكون؟ فإنَّنِي لم أستطع أن أكشف كُنهها. إنَّنِي أظنُّ أنَّ «التجربة» هي رجلٌ، لم أَرَ في حياتي رجلًا ولكنها تشبه الرجل، وأحسُّ في قرارةِ نفسي بأنها رجل؛ ولذلك تبيَّنتُ أنَّنِي أصبحتُ مُهتمَّة بها أكثر من اهتمامي بأيِّ حيوانٍ زاحفٍ آخر من الزواحف — إذا كانت من الزواحف — ولا بدَّ أن تكون كذلك؛ لأن لها شعرًا أشعث وعيونًا زرقاء، كما أنها تبدو مثل الزواحف، ولكن ليس لها أرداف، وهي مسلوبةُ الشَّكلِ تُشبه الجزر، وعندما تقف تشدُّ نفسها مثل الرافع؛ ولهذا أعتقد أنها من الزواحف.
لقد شعرت بالخوفِ في بادئِ الأمر، وأخذتُ أعدو كُلَّما رأيت «التجربة» قريبة منِّي؛ لأنني كنتُ أظنُّ أنها ستطاردني، ولكن ما لبثتُ أن اكتشفتُ أنها تحاول الابتعاد عني؛ ولذلك لم أَعُدْ أشعرُ بخوفٍ أو استحياءٍ منها بعد ذلك، وأخذتُ أقتفي أثرها عدَّةَ ساعات وأنا على مسافة عشرين ياردة منها؛ ممَّا جعلها حزينة عصبية المزاج.
وأخيرًا ظهر على «التجربة» بعض القلق، فتسلَّقتُ إحدى الأشجار وانتظرتُها طويلًا حتى شعرتُ بالملل؛ فعدتُ إلى بيتي.
واليوم حدث نفس الشيء فقد هربت منِّي إلى أعلى الشجرة.
الأحد
إنها لا تزالُ بأعلى الشجرة تستريحُ في الظَّاهرِ، إنَّ هذه خدعة، إنَّ يوم الأحد ليس يوم الراحة، لقد خُصِّصَ يوم السبت لذلك … إنَّ «التجربة» تبدو لي كأنها مخلوقٌ يحبُّ الرَّاحة أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، إنَّنِي أتعبُ وأملُّ من كثرة الرَّاحة … إنَّ ما يُتعِبُنِي هو أن أجلس على الحشائش وأرقب الشجرة، إنَّنِي أتساءلُ: ما دور هذه «التجربة»؟ إنَّنِي لم أَرَها تعمل شيئًا.
لقد أعادوا القمر ليلة أمس وكنت سعيدة جدًّا بذلك، لقد كان ذلك مثلًا للأمانة، ولكن القمر ما لبث أن هبط إلى انخفاضٍ بسيطٍ ثمَّ وقع، ولكنَّنِي لم أحزن؛ إذ ليس هناك مجالٌ للقلق، وما دام لنا مثل هؤلاء الجيران، فسوف يُعيدون القمر مرَّةً أُخرى، أتمنَّى أن أعمل شيئًا أُعبِّرُ به عن تقديري لهم، كم أودُّ أن أُرسِلَ لهم بعض النجوم؛ لأن لدينا منها أكثرَ مِمَّا نحتاجُ إليه، إنَّنِي أعني أنا وليس «نحن»؛ لأنني أُلاحظ أنَّ «الحيوان الزاحف» لا يهتمُّ بذلك كثيرًا.
إنَّ له ذوقًا وضيعًا، وليس لديه ذرَّة من الرحمة، فعندما ذهبتُ إليه مساء أمس وجدته يهبط ويُحاوِلُ صيد سَمَكَةٍ صغيرةٍ تلعبُ في البركة، فاضطررت أن أقذفه بالطين؛ لكي أجعله يصعد إلى الشجرة مرَّة أُخرى ويترك الأسماك … إنَّنِي أتساءَلُ، هل هذه هي وظيفته؟! أليس لديه قلب؟! أليست لديه رحمة بهذه المخلوقات الصغيرة؟! هل صُنِعَ هذا المخلوق لمثل هذا العمل الذي لا يدلُّ على اللطف في شيءٍ؟! إنَّه يبدو كذلك!
إنَّ إحدى قطع الطين قد أصابته في أذنه، فأخذ يستعمل «اللغة»، لقد أثار ذلك في نفسي اهتمامًا جديدًا بشأنه، فقد كانت هذه أول مرَّة أسمعُ فيها كلامًا غير كلامي، فلم أستطع فهم الكلمات، ولكنها كانت تبدو مُعبِّرة.
وعندما اكتشفتُ أنَّ المخلوق يستطيعُ الكلام، أخذ اهتمامي به يزداد؛ لأني أحب الحديث، إنَّنِي أتحدثُ طولَ اليوم وأثناء نومي أيضًا، وكلامي شائق، ولكن إذا كان هناك مخلوقٌ آخر أتحدثُ إليه، فستزدادُ درجة اهتمام الغير بي، ولن أكفَّ عن الكلام.
فإذا كان هذا المخلوق الزَّاحف رجلًا، فهل يكونُ جمادًا، فيستلزِمُ الأمر البحث عن ضميرٍ يُلائِمُهُ كجمادٍ أم نستعملُ ضميرًا يتناسب مع وضعه كرجل؟ سأعتبره رجلًا وأستعملُ له ضمير «هو» حتَّى يثبت غير هذا. إنَّ هذا يُسهِّلُ الأمر عليَّ بدلًا من الشكوك الكثيرة.
الأحد من الأسبوع التالي
لقد أمضيتُ طوال هذا الأسبوع أتتبعه، وحاولتُ مرارًا التعرف إليه، وكان عليَّ أن أبدأ الحديث؛ لأنه كان خجولًا، فكنت وحدي التي أتولَّى الكلام، ولم تكن المسألة ذات بال بالنسبة إليَّ، وكان يبدو عليه السرورُ؛ لأنني أحوم حوله، وكنت أستخدمُ كلمة «نحنُ» مرارًا، فكان يُسَرُّ لسماعها؛ إذ يبدو أن ممَّا يُرضي نفسه أن تشمله هذه الكلمة.
الأربعاء
إنَّ أحوالنا تسيرُ من حسنٍ إلى أحسن، وقد أصبحنا أكثر تعارفًا وتآلُفًا، فهو لم يَعُدْ يُحاوِلُ أن يتجنَّبني كما كان يفعل من قبل، وهذه علامة طيبة، تدلُّ على أنَّه يحب أن أبقى معه، وقد ملأني ذلك سرورًا؛ ولذلك أحاولُ قدر استطاعتي أن أُفيده بكلِّ الوسائل الممكنة … حتى يزيدَ من اهتمامه بي، ففي أثناء اليومين الأخيرين أخذتُ على عاتقي مُهمَّةَ تسمية الأشياء بأسمائها، وبذلك أرحته منها؛ إذ تنقصه هذه الملكة، ولا بدَّ أنَّه يدينُ لي بالشكر والاعترافِ بالجميلِ، فهو لا يستطيعُ أن يفكِّر في أيِّ اسمٍ معقولٍ، ولكنَّنِي أُحاوِلُ ألَّا أجعله يحسُّ بهذا النقص. وكلَّما ظهر مخلوقٌ جديدٌ سارعتُ إلى تسميته قبل أن يكشف عن نقصه الذي يتمثَّلُ في صمته المطبق، وبهذه الطريقة أنقذته من مواقف حرجة كثيرة.
وأنا ليس بي مثل هذا النقص، ففي اللحظة التي تقعُ فيها عيني على حيوانٍ ما، أعرفُ ما هو في الحال، ولا يستدعي الأمر مني لحظة من التفكير؛ لأن الاسم الصحيح ينطلقُ من فمي فجأة كما لو كان إلهامًا، ولا بدَّ أن يكونَ إلهامًا؛ لأنني مُتأكدة أن الاسم لم يكن في ذهني منذُ لحظةٍ، فإنَّنِي أحسُّ بمجرَّد رُؤية شكل المخلوق وطريقة تحركاته أي نوعٍ من الحيوان هو.
فمثلًا عندما اقترب منَّا طير الدُّودُو كان يعتقدُ أنَّهُ قِطٌّ وحشيٌّ، لقد عرفت ذلك من عينيه، ولكنَّنِي أنقذتُ الموقف واستطعتُ أن أفعل ذلك دُون أن أجرح عزَّتَه، فقد تحدَّثتُ إليه بنغمةٍ طبيعيَّةٍ أُعبِّرُ بها عن دهشتي ولا أُظهر بها كما لو كنت أُقدِّمُ إليه معلومات جديدة، فلقد قلت: حسنًا! إنني أتساءل: أليس هذا هو الدُّودُو؟!
ثم أخذتُ أشرحُ — دُون أن أُظهر ذلك — كيف عرفت أنَّه الدودو! وبالرَّغم من أنَّنِي أحسستُ بأنه قد استاءَ قليلًا؛ لأنَّنِي عرفتُ هذا المخلوق في حين عَجَزَ هو عن معرفته، فقد كان من الواضحِ أنَّه كان مُعجبًا بي … لقد سرَّني ذلك، وفكَّرتُ فيه مرَّات وأنا أشعر بالسرورِ قبل أن أنام.
هناك أشياء، ولو أنها تبدو تافهة، إلا أنها تبعث السعادة إلى نفوسنا؛ لأننا فُزنا بها عن جدارة.
الخميس
أوَّلُ مرَّةٍ أحسُّ فيها بالأسى …
لقد تجنَّبَنِي بالأمس، وكان يبدو عليه أنه يتمنَّى ألا أُوجِّهَ إليه الحديث، لم أستطع أن أصدِّقَ هذا، واعتقدتُ أنَّ هناك سوء تفاهُمٍ؛ ذلك لأنني أحبُّ أن أكونَ دائمًا بجانبه، كما أحبُّ أن أسمعه وهو يتحدَّثُ إليَّ، فكيف تبلغ به القسوة أن يفعلَ ذلك دُون أن أرتكب شيئًا يُغضبه؟
وأخيرًا، اتضح لي أنَّ المسألة جديَّة؛ ولذلك تركته وجلستُ وحيدة في المكان الذي رأيته فيه لأوَّل مرَّةٍ في صباح اليوم الذي صُنِعْنا فيه، وكنتُ لا أعلمُ ما هو، كما كنتُ لا أهتمُّ بِهِ. أمَّا الآن فقد أصبح هذا المكان ذِكرى حزينة لي؛ إذ إنَّ كلَّ شيءٍ صغير فيه يُذكِّرُني به، وكان قلبي حزينًا، ولم أكن أعرف السبب؛ وذلك لأنَّ هذا الشعور الذي انتابني كان شعورًا جديدًا عليَّ لم أحس به من قبل، كان سرًّا غامضًا بالنسبة إليَّ، ولم أستطع أن أعرف كنهه.
ولكن عندما جاء الليل لم أستطع تحمُّل الوحدة، فذهبتُ إلى المخبأ الجديدِ الذي بناهُ لنفسه لأسأله عمَّا ارتكبتُ من خطأ، وما السبيلُ إلى إصلاح الخطأ حتَّى يعودَ إليَّ حنانه مرَّةً أُخرى.
ولكنه تركني وحدي في المطر خارج المخبأ، وكانت هذه أول مرَّة أحسُّ فيها بالأسى.
الأحد
إنَّنِي الآن أسعدُ حالًا، ولكن الأيَّام التي مرَّت كانت أيَّامًا كالحة، إنَّنِي أحاول ألا أفكِّرَ فيها كُلَّمَا أمكنني ذلك.
لقد حاولت أن أحصل على بعض تلك التفاحات من أجله، ولكنني لا أستطيع أن أتعلَّمَ إصابَةَ الهدف … لقد أخفقتُ، ولكن يبدو أنَّ النيَّةَ الطيبة بعثت في نفسه السرور.
إنَّ هذه التفاحات مُحرَّمَة، وهو يقولُ لي إنها ستسبِّبُ الأذى، ولكن إذا كان الأذى من أجل إسعاده، فماذا يُضيرني أن يُصيبني الأذى؟!
الاثنين
لقد صارحته باسمي هذا الصباح على أملِ أن يُثيرَ الاسم في نفسه روح الاهتمام، ولكنه لم يهتمَّ! …
إنَّ الأمر غريب، فلو أنَّه أخبرني باسمه لاهتممتُ به؛ فإنَّنِي أعتقدُ أنَّ اسمه سيكونُ له رنينٌ في أذني أجملُ من أيِّ رنينٍ آخر.
إنه قليل الكلام! وأظنُّ أنَّ ذلك راجعٌ إلى أنَّه قليل الذكاء، وأنَّه يحسُّ بالنقص في نفسه ويُحاولُ أن يخفيه، وممَّا يدعو إلى الأسف أنَّه يحس بهذا؛ لأنَّ الذكاء في نظري لا أهمية له … إنَّ وزن الإنسان يُقدَّرُ بقيمته الرُّوحية، إنَّنِي أودُّ أن أجعله يفهم أنَّ القلب الطيِّب المحب هو ثروة وغنى، وأنَّ الذكاء بدون القلب، يُعتبَرُ فقرًا!
وعلى الرغم من أنَّه يتكلَّمُ قليلًا، فإنَّ ذخيرته من الكلمات وفيرة، وفي هذا الصباح بالذات استعمل كلمة مدهشة في حسنها، ويبدو أنَّه أدرك من تلقاءِ نفسه أنها حسنة؛ لأنه استخدمها مرَّتين بعد ذلك. وهذا يدلُّ على أنَّ لديه صفة الإدراك، وستنمو هذه البذرة بلا شك إذا استطعت رعايتها وتنميتها.
من أين جاء بهذه الكلمة؟! لا أذكرُ أنَّنِي استخدمتها قبل ذلك.
لا! إنَّه لا يهتمُّ باسمي، لقد حاولتُ أن أُخفي خيبة أملي، ولكنني أعتقد أنَّنِي أخفقتُ! لقد ابتعدت وجلستُ على حافَّةِ الجدوَلِ ووضعتُ قدمي في الماء.
إنَّنِي دائمًا أذهبُ إلى هذا المكان حين أفتقد الصحبة، فأبحث عن أحدٍ أنظر إليه، أحد أتحدَّثُ إليه، ولكن هذا الجسم الأبيض الجميل المرسوم على صفحة الجدول لا يكفي … حقًّا إنَّه أفضلُ من الوحدة الكاملة، فهو يتكلَّمُ كلَّمَا تكلَّمتُ، وهو يحزنُ عندما أحزنُ، كما أنه يُقدِّمُ لي المواساة والعطف، إنه يقول لي: «لا تحزني أيتها الفتاة المسكينة التي فقدت الأصدقاء، سأكون صديقة لك.»
إنها صديقة طيبة، صديقتي الوحيدة، إنها أُختي.
ولن أنسى أوَّل مرَّة تتركني فيها، لن أنساها أبدًا، لقد تحوَّلَ قلبي إلى قطعةٍ من الرصاص في جسمي، فقلتُ وقتها: «إنها كانت كل ما أملك … والآن تركتني.»
ولم أتمالك أن صرخت وأنا غارقة في يأسي: «تحطَّمْ يا قلبي؛ فلن أستطيعَ تحمُّل الحياة بعد ذلك.»
وأخفيتُ وجهي في يدي ولم يكن هناك سبيل للعزاء، وعندما رفعتُ يدي عن وجهي بعد لحظة عادت هي مرَّة أُخرى: بيضاء، بضَّة، جميلة! فألقيتُ بنفسي بين ذراعيها.
لقد كانت هذه اللحظات أسعد أوقاتي، لقد عرفت السعادة من قبل، ولكنها لم تكن حلوة المذاق كما كانت عندما عرفت أختي؛ ولذلك لم أعد أشكُّ فيها مرَّةً أُخرى. فقد كانت تشرد عنِّي في بعض الأحيان، لمدَّةِ ساعة وأحيانًا اليوم كله، ولكنني كنت أنتظرُ دُونَ أن أشكَّ فيها، وكنت أقول لنفسي: «قد تكون مشغولة، أو قد تكون في رحلة، ولكنها سوف تعود.»
وكان هذا هو ما يحدث فعلًا، كانت تعودُ دائمًا، ولكنها في المساء لا تعودُ إليَّ إذا كان الليل مُظلمًا؛ لأنها كانت رقيقة حسَّاسة، أمَّا إذا كانت الليلة مُقمرة؛ فإنها تحضر … إنَّنِي لا أخشى الظلام، ولكنها أصغرُ منِّي سنًّا، فلقد وُلِدَت بعدي … لقد زرتها كثيرًا، إنها سلواي، ألجأُ إليها عندما تقسو الحياةُ عليَّ، وما أكثر ما تقسو!
الثلاثاء
لقد أمضيتُ اليومَ كُلَّهُ في العمل لتحسينِ المزرعة، وتعمدتُ أن أبتعد عنه على أمل أن يحسَّ بالوحدة فيعود إليَّ، ولكنه لم يفعل!
وعند الظهرِ توقَّفتُ عن العمل، وأخذت ألهو بالعَدْوِ وراء النحل والفراشات والاستمتاع بالأزهار، هذه المخلوقات الجميلة التي تلتقط ابتسامة الله من السماء وتحتفظ بها! لقد كنت أقطفها وأجمعها في باقات وأكاليل وأغطِّي جسدي بها عندما كنتُ أتناولُ طعام الغداء، وهو التفاح طبعًا! وبعد ذلك جلستُ في الظلِّ وتمنيتُ وانتظرتُ، ولكنه لم يأتِ!
ولكن ليس هذا بالأمرِ المهمِّ. لا فائدةَ من ذلك؛ لأنه لا يهتم بالأزهار، فهو يعتبرها من القمامة، كما أنَّه لا يستطيع أن يميِّزَ نوع كلٍّ منها عن الآخر، وهو يعتقدُ أن مكانته تعلو إذا فعل ذلك، وهو لا يهتمُّ بالأزهار، ولا يهتمُّ بلونِ السماءِ وقتَ الأصيلِ، وهل هناك شيءٌ آخر يهتمُّ به غير بناء ملجإٍ يقيهِ المطر النظيف، والتفتيش عن البطيخ والعنب، ومراقبة الفاكهة وهي لا تزال على الأشجار ومُراعاتها في مراحل نموِّها؟!
لقد وضعت عصا جافة على الأرض، وحاولتُ أن أثقبها بعصا أُخرى لكي أقوم بمشروعٍ كنتُ فكرتُ فيه، ولكنَّنِي أُصِبْتُ بهلعٍ فظيعٍ؛ إذ انطلق من هذا الثقب شريطٌ شفَّافٌ رفيعٌ يميلُ إلى الزرقة واندفع إلى أعلى، وفي الحال ألقيتُ بكلِّ شيءٍ وهربت.
لقد كنتُ أعتقد أنَّه «عفريت» وكنت في أشدِّ الهلع! ولكنِّي نظرتُ خلفي، فوجدتُ أنَّه لم يُحاول أن يلحقَ بي؛ ولذلك استندت إلى صخرةٍ لأستريحَ وأستردَّ أنفاسي، وكانت ساقاي ترتعشان، فبقيتُ بجانب الصخرة حتَّى هدأ روعي، ثمَّ أخذتُ أزحف ببطءٍ وحذرٍ وأنا في غاية الانتباه واليقظة، وعلى استعداد للهرب إذا جدَّ الجد. وعندما اقتربتُ أزحت أغصان إحدى شجيرات الورد واسترقت النظر.
وكنت أتمنَّى أن يكون الرجل قريبًا من المكان، خصوصًا أنَّنِي كنتُ أبدو جميلة جدًّا كثيرة الدهاء، ولكن العفريت كان قد اختفى قليلًا، فاقتربتُ من المكان، وهناك وجدتُ قليلًا من التراب الوردي الرقيق داخل الثقب، فوضعتُ إصبعي بداخله لكي أتحسسه، ولكنني قلت: «أوه!» وجذبت إصبعي بسرعة … كان الألمُ حادًّا، حتَّى إنَّنِي وضعت إصبعي في فمي، ووقفتُ مرَّة على إحدى قدميَّ ومرَّة أُخرى على قدمي الثانية، وأخذتُ أتأوَّه وفي الحالِ ضَاعَ الألم … وبعد ذلك اشتدَّ اهتمامي، وبدأتُ أبحثُ في الأمر.
قد كنتُ في أشدِّ الشغف لكي أعرف ماذا كان هذا التراب الوردي، وفجأة طَرَأَ الاسم على ذهني، ولو أنِّي لم أسمع به من قبل، إنه النار! لقد كنت متأكدة من أنه النار! فلم أكن أتردد في تسميته بهذا الاسم.
ها أنا ذا خلقتُ شيئًا لم يكن موجودًا من قبل، وأضفتُ شيئًا جديدًا إلى ما على الأرض من أشياءَ لا حصر لها … وكنتُ فخورًا بهذا العمل العظيم، وكنتُ على وشك أن أعدو لأبحث عنه، وأخبره مُعتقدةً أنَّ هذا الكشف سيرفع من قدري في نظره، ولكنَّنِي أمعنتُ الفكر في الأمر وفضَّلتُ ألَّا أفعل.
لا! إنَّه لن يهتم به، وسوف يتساءل: وما فائدة هذا الشيء؟! ولا علم لي بجواب هذا السؤال؛ لأنَّ النار ليست بذاتِ فائدةٍ، ولكنها جميلة، جميلة فقط.
ولذلك تنهَّدتُ ولم أذهب؛ لأن النار لم تكن بذات فائدة، إنها لا تستطيعُ أن تبني كوخًا، ولا تُحسِنُ زراعة البطيخ، ولا تسرع بإنضاج الفاكهة! إنها عديمة القيمة، تدلُّ على غباء مُكتشفها وغروره … لا بدَّ أنه سيحتقرني، وسيُخاطبني بسخرية لو أخبرته عنها. أمَّا بالنسبة إليَّ فلم تكن النار حقيرة، فقد قلت لها: «أيتها النار! إنَّنِي أحبُّكِ! فيالك من مخلوقٍ ورديٍّ رقيقٍ! إنَّكِ جميلة، وفي هذا الكفاية.»
وكنتُ على وشك أن أضمَّها إلى صدري، ولكني امتنعتُ، وهُنا اخترعتُ مثلًا جديدًا من رأسي وإن كان قريبًا جدًّا من الآخر، حتَّى لقد خشيتُ أن يكون مجرَّد اقتباسٍ منه وهو: «إنَّ التجربة المحترقة لتهزأُ بالنَّارِ.»
وأخذتُ أُحاولُ إشعالها من جديدٍ، وعندما حصلتُ على كمية كبيرة من تراب النار، أفرغته في حفنةٍ من الحشيش البني الجاف، وفي نيَّتِي حملها إلى البيت والاحتفاظ بها حتَّى ألهو بها، ولكن الرِّيح هبَّت عليها فتناثرت وقفزت نحوي في وحشية، فألقيتها من يدي وجريت. وعندما نظرتُ خلفي كان العفريت الأزرق يتصاعدُ إلى أعلى ويمتدُّ ويلتفُّ كأنه السحاب. وفي الحال فكَّرتُ في اسمٍ له، إنَّه: «الدخان»، ولو أنَّنِي أُقسمُ أنَّنِي لم أسمع باسم «الدخان» من قبل!
وفي الحال، انطلقت ومضاتٌ صفراء وحمراء تتصاعدُ وسط الدخان، فأسميتها اللهب، وكنتُ على حقٍّ أيضًا؛ لأنَّ هذه كانت أوَّل ألسنة للهب ظهرت على الأرض. ولمَّا أخذت هذه الألسنة تتسلَّقُ الأشجار، ولمع بريقها وسط الدخان، وبدأتُ أُصفِّقُ بيديَّ وأضحكُ وأرقص طربًا، لقد كان شيئًا جديدًا وغريبًا ومُدهشًا وجميلًا في نفس الوقت.
وجاء وهو يجري، ثمَّ توقَّفَ وأخذ يُحملِقُ بنظره ولم ينبس ببنت شفة لمدَّةِ دقائق عدَّة، ثم سألني: ما معنى ذلك؟ ونظرًا لأنه وجَّه إليَّ سؤالًا مباشرًا، فقد كنتُ مُضطرة أن أُجيبه عن سؤاله، فقلت له: إنها النار! وإذا كان قد تضايق؛ لأنني أعلم أكثر منه، فإنَّ الذنب ليس ذنبي، ولم أكن أتعمَّدُ مُضايقته. وبعد فترةٍ سألني: كيف حدثت هذه النار؟
ها هو ذا يُوجِّهُ إليَّ سؤالًا مُباشرًا آخر، فكان لزامًا أن أردَّ عليه ردًّا مُباشرًا، وقلت: إنَّنِي أنا التي صنعتها!
وكانت النيران تنتقلُ من مكانٍ إلى آخر مُبتعدة عنَّا، فاتَّجه إلى حافة المكان الذي احترق، ونظر إليه، ثم قال: وما هذه؟!
– إنها الفحم المتخلِّفُ عن النيران.
فالتقط قطعةً منها ليفحصها، ثمَّ غيَّر رأيه ووضعها في مكانها وابتعد عني … إنَّه لا يهتمُّ بأيِّ شيءٍ!
ولكنِّي كنتُ شديدة الاهتمام؛ فقد تخلَّفَ رمادٌ ناعمٌ وجميلٌ … كما كانت هناك جمرات من النار، لقد وجدت تفاحي، وكان وسط الجمرات؛ فأخذت أقلبها. لقد كنت صغيرة، وكانت شهوتي للأكل عظيمة، ولكن خاب ظنِّي، فإن التفاح تفتح وسط النار وتلف، نعم! لقد تلف من الخارج ولكنه كان ألذَّ من التفاح الفج، إنَّ النار جميلة، وأعتقدُ أنها ستكونُ ذات فائدةٍ يومًا ما!
الجمعة
لقد رأيته مرَّة أُخرى، لفترةٍ قصيرةٍ، يوم الاثنين الماضي وقت المساء، وكنت كبيرة الأمل في أن يكيلَ لي المديح؛ لأنني أدخلت عدَّةَ تحسينات على المزرعة، فلقد كافحتُ بجدٍّ، ولكنه لم يظهر أي سرورٍ، بل استدارَ على عقبيه وتركني. يبدو أنَّه كان غاضبًا لسببٍ آخر؛ ذلك لأنني حاولتُ أن أحولَ بينه وبين الذهاب إلى الشلالات؛ ذلك لأنَّ النار قد كشفت لي عن إحساسٍ جديدٍ، إحساس يختلفُ اختلافًا تامًّا عن أحاسيس الحب والحزن وغيرها من العواطف التي سبق أن اكتشفتها، إنها عاطفة الخوف، إنها عاطفة كريهة حتَّى إنَّنِي ندمتُ على كشفي لها.
إنها تجعلني أعيشُ لحظات سوداء، فهي تنغِّصُ سعادتي وتجعلني أرتعش وأرتعد، ولكنَّنِي لم أستطع أن أقنعه بعدم الذهاب لأنه لم يكتشف الخوف بعد؛ ولذلك لم يستطع أن يفهمني.