أشكال السعادة
استعرض الفصل السابق جذور السعادة، مُقتفيًا آثار بعض المؤثرات التكوينية التاريخية التي شكَّلت الفكر الحديث بشأن هذا الموضوع، وصولًا إلى أربع موجات من البحوث المعاصرة في شئون الرفاه وممارسته. أمَا وقد تحدَّد هذا السياق، فسيستكشف هذا الكتاب الآن جوانب مختلفة من هذه الدراسات. ينحدر جزء كبير من الأدبيات من الموجة الثالثة — التي كان أهم ما يميِّزها انتهاجها المنهج العلمي — بما أنها تشكل الساحة الرئيسية التي جرت فيها أغلب الأبحاث المعنية. إلا أنه يجدر الانتباه أيضًا إلى أن أغلب هذه الأبحاث متمحوِرةٌ حول الغرب، ومتأثرة بالدراسات التي تُجرى في الولايات المتحدة بوجه خاص. من ثَم فإنه متى أمكن، فسنوجِّه عنايتنا إلى الموجة الرابعة الناشئة، مُقرِّين بأنَّ فهمنا الحالي للسعادة ليس نهائيًّا أو تامًّا، وإنما بالأحرى في طور التحسُّن، وأحد السبل إلى ذلك هو أن يصير أكثر شمولًا للثقافات وأكثر عالمية.
لكن حتى في حالتها غير المكتملة الحالية، لا تزال الدراسات القائمة عن السعادة واسعة وشاملة بحق؛ إذ تغطي مجالات متعدِّدة من الاستكشاف والسعي، من علوم مادية مثل الكيمياء الحيوية إلى علوم أكثر اتجاهًا للمجتمع مثل الاقتصاد. ويظل دافعها الأكبر علم النفس، الذي كانت له الريادة في ابتكار نماذج ومقاييس رئيسية. ومع ذلك فإن أبحاث السعادة متعددة التخصصات بحق. حتى إن كان العديد من الأفكار والأدوات المنهجية نشأ أصلًا في علم النفس — وإنْ كانت أصولها ممتدة للموروثات التي استعرضناها في الفصل الثاني — فقد ظلَّت منذ ذلك الحين تستعين بها مجالات أخرى. ومن هذا المنطلَق، سيغطي الكتاب امتداد أبحاث السعادة في أنحاء المجالات الأكاديمية.
سنبدأ هذا الفصل الثالث بالاطلاع على المنظورات المعاصرة لماهية السعادة. وبذلك أعني كيف صاغ العلم المعاصر السعادة في أشكال أو أنواع منفصلة من المفاهيم والإجراءات. وإنني بذلك أريد أن أُوازِن بحرص بين تلخيص ما أجمعَت عليه أبحاث الموجة الثالثة، والإشارة إلى تطورات الموجة الرابعة التي تشكِّك في هذا الإجماع أو تعقده. باختصار، من منظور الموجة الثالثة، اتجهت الدراسات الحديثة إلى اتباع أرسطو في تحديد نوعَين رئيسيين للسعادة: المتعة واليودايمونيا. إلا أن أبحاث الموجة الرابعة الأحدث تشير إلى ألوان وأنواع إضافية قد تستدعي ضمها في تصنيفاتنا الناشئة.
يستكشف هذا الفصل المنظورات حول ماهية السعادة، متبينًا كيف كان تصوُّر العلم المعاصر لها في أشكال منفصلة (حتى وإنْ كانت في الخبرات الفعلية قد تمتزج عدة أشكال منها في آنٍ واحد).
من الأمثلة الهامة على ذلك مؤسسة جالوب. فقد أُنشئت في الولايات المتحدة عام ١٩٣٥، وأجرت أول استطلاعاتها خارجها عام ١٩٣٨، وظلَّت توسع نطاقها بالخارج تدريجيًّا، حتى بلغ ذروته بإجرائها استطلاع جالوب العالمي السنوي عام ٢٠٠٥، الذي شارَك فيه مواطنون في أكثر من ١٦٠ بلدًا. وهو عادةً ما يشمل نحو مائة نقطة، تغطِّي أغلب جوانب الحياة، بما في ذلك الرفاه. لذلك فهو يركِّز على ما يُعَد غالبًا الجانبين الرئيسيين للسعادة المُتعوية (وإنْ كنتُ سأضيف تفصيلةً دقيقة إلى هذا النهج التصنيفي لاحقًا): تقييم جودة الحياة والعواطف الإيجابية. وهكذا مع مثل تلك المجهودات، راحت دراسات الرفاه تتخذ أبعادًا عالَمية بالفعل.
من ثَم، فإن مبادرة الرفاه العالمي تهدف إلى تكوين صورة للرفاه أكثر إجمالًا وشمولًا للثقافات باستحداث نقاط جديدة تُضاف إلى استطلاع جالوب العالَمي تعكس منظورات غير المنظورات الغربية. فكان التركيز المبدئي على الثقافات الشرقية، بإضافة تسع نقاط في استطلاع ٢٠٢٠، تغطي موضوعات مثل التوازن والانسجام، والسكينة والطمأنينة، والرفاه المجتمعي. وقد عزَّزها في استطلاع ٢٠٢١ أسئلة عن الحيوية، والارتباط بالطبيعة، واليقظة الذهنية. وتهدف الخطة الحالية إلى توسيع المجال أكثر ليضم منظورات من مناطق أخرى في العالَم. ومن خلال مثل تلك المجهودات، صارت دراسات الرفاه أكثر إجمالًا وشمولًا ودقة عالميًّا.
لذلك سأُدخل إضافةً مبدئية على الشكلَين الأساسيين القائمين في الأدبيات: المتعة واليودايمونيا. بادئَ ذي بدء، سأحدِّد أشكالًا متعددة من السعادة غالبًا ما تُدرَج تحت هذين التصنيفين، لكن قد يكون من الأفضل اعتبارها أشكالًا مستقلة بذاتها. عادةً ما يُرى أن سعادة المتعة تشمل المشاعر الإيجابية، والأحكام الإيجابية بشأن الرضا عن الحياة أو تقييمها. إلا أنني سأقصر سعادة المتعة على المشاعر الإيجابية فقط، وأصف الثانية باعتبارها السعادة التقديرية. وفي حالة اليودايمونيا، يبدو أنه قد صار مصطلحًا شاملًا لكل التجارب المرتبطة بالسعادة خارج مجال المتعة، بما في ذلك نمو الشخصية، والمغزى أو الغاية، والبراعة أو الإنجاز. لكنني هنا سأقصر اليودايمونيا على نمو الشخصية بالتحديد، وأفصل عنها هذه العناصر الأخرى باعتبارها شكلين مستقلين: سعادة المغزى وسعادة الإنجاز.
أما وقد حددت خمسة أشكال مختلفة للسعادة، فإنني سأناقش تسعة أخرى محتملة يمكن استخلاصها من الأدبيات (لا سيَّما الموجة الرابعة الجديدة منها). هذه الأشكال الأربعة عشر لا يعتمد كلٌّ منها على الآخَر، ويجوز بالطبع أن تتضمَّن تجربة ما من تجارب الرفاه عدة أشكال متداخلة منها. من ثَم فإنه من قبيل الاستعارة المفيدة أن نرى هذه الأشكال باعتبارها «نكهات» مختلفة؛ فرغم أنها منفصلة، يمكن مزجها معًا لخلق مذاقات فريدة ومعقدة.
بَيْد أنه من المفيد أن نُقرَّ بهذه الأشكال المتمايزة من الناحية المفاهيمية لبيان دقة تنوع أصناف السعادة. وحتى هذه الأشكال الأربعة عشر من الوارد ألا تكون شاملة، وقد يكون هناك أشكال أخرى. فقد خطر لي مثلًا أن أضيف مفهوم السعادة الجمالية، للتعبير عن الحالة الشعورية القوية الناتجة عن التأثر بالجمال. غير أنه بدا لي في النهاية أنه من الممكن تفسيرها تفسيرًا وافيًا بتوليفة من بعض هذه الأشكال (سعادة المتعة والاستغراق والمغزى والفكرية مثلًا). غير أنه من المحتمل — بل من المرجَّح — أن تحدد المزيد من الدراسات أشكالًا أخرى غير الأربعة عشر التي لدينا هنا.
تركز الأبحاث الحالية على شكلين أساسيين: المتعة (وهي في أساسها الإحساس بشعور حسن) واليودايمونيا (وتعني في الأصل أن يصير المرء صالحًا). إلا أن الدراسات الناشئة تزعم بوجود أشكال أخرى محتملة، ويستعرض هذا الفصل أربعة عشر شكلًا إجمالًا.
لا بد كذلك أن أُقرَّ بأنه بدلًا من زيادة التصنيفات على هذا النحو، قد يفضل البعض توسيع نطاق المتعة واليودايمونيا ليشملا هذه الأشكال الأخرى. وهذا ما أُخذ به مثلًا، فيما يتعلق بالتوسع باليودايمونيا لتشمل الروحانية. وقد يكون ثَمَّة ميزة في بساطة ذلك الأسلوب، وفي بعض السياقات — مثل تدريس الموضوع لأطفال — قد يكون من الكافي مجرد التفرقة بين المتعة واليودايمونيا. إلا أن تقديم المزيد من الأشكال الدقيقة بصياغة مفاهيم لأشكال أخرى لهو أمرٌ نافع بوجه عام.
بَيْد أنه لا بد من تَوخِّي الوضوح حيال الوزن النسبي لكلٍّ من الأدبيات المعنية. فحسب تقديري تركز نحو ٥٠ في المائة من الأبحاث العلمية على السعادة التقديرية، يليها ٣٠ في المائة على المتعة، و١٥ في المائة على أشكال تُعامل حاليًّا على أنها تندرج تحت اليودايمونيا (شاملةً تلك التي أصنفها هنا باعتبارها أشكالًا مستقلة، مثل سعادة المغزى). وتشترك الأنواع الأخرى في نحو ٥ في المائة من الأبحاث فيما بينها. ومع ذلك، فإن نسبة ٥ في المائة هذه تخص فقط الأنواع التي تُدرَس كأشكال من السعادة في حد ذاتها، ولدى العديد من الأشكال دراسات كثيرة خاصة بها. مفاهيم التوازن والانسجام مثلًا لا تُعامل عادةً باعتبارها أشكالًا من السعادة في حد ذاتها، لكن هناك دراسات كثيرة حول مواضيع متصلة بها مثل الموازنة بين العمل والحياة الشخصية. ومن ثَم فلهذه المفاهيم أساس جوهري في الدراسات الأكاديمية.
إلا أنه من ناحية السعادة نفسها، أُقرُّ بأن هذه الأشكال الأخرى مبدئية وتخمينية أكثر. لكنها جديرة أن نأخذها في اعتبارنا لتقدير الاتجاهات المستقبلية المحتملة في هذا الميدان. ومن المؤكد أنه سيكون هناك حاجة للبحث ليس فقط لاستكشاف هذه الأشكال غير المثبتة بالقدر الكافي (للتحقق ممَّا إن كانت تستحق فعلًا ضمها في تصنيف أكثر تفصيلًا مثلًا)، لكن كذلك لاستكشاف ما إذا كانت ثَمَّة احتمالات إضافية بجانب التي سنستعرضها هنا. ونحن إنما نخطو أولى خطواتنا لاستكشاف كامل النطاق المحتمل للسعادة وتعقيدها، وربما تنكشف لنا أشكال أخرى فيما بعد.
وأخيرًا، أودُّ القول إنني حاولت العثور على خيط مشترك بين هذه الأشكال عن طريق تعريفها بالإشارة لمفهوم السعادة الموضَّح في المقدمة، باعتبارها تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة. وسوف يُضفي هذا المفهوم الحياة على الأشكال الأربعة عشر كلها ويمزجها معًا، بدايةً من سعادة المتعة.
المتعة
وهنا أودُّ أن أضيف في الحال تعديلًا تصنيفيًّا، كما أشرت فيما سبق، فأزعم أن أفضل طريقة لتصوُّر مفهوم سعادة المتعة هو باعتبارها متعلقة بالجانب «الوجداني» فقط من الرفاه الذاتي. وعندئذٍ يمكننا الإشارة للجانب الإدراكي على حِدة — وهو ليس متعلقًا بالمتعة «فعليًّا» كما هو مُتصور عادةً — باعتباره شكلًا مستقلًّا من السعادة «التقديرية»، سنناقشه في موضع لاحق من الفصل.
ونقطة أخيرة في هذا الصدد، أشير إلى أنني تجنَّبت عمومًا مصطلح الرفاه الذاتي في هذا الكتاب. رغم أن المفهوم قد يكون له معنًى دقيق ومُحدَّد لدى العلماء في المجال — يدمج بين الجانبين الإدراكي والوجداني للرفاه الذهني، كما هو مُوضَّح آنفًا — فالمفردات نفسها توحي بشيء أعم بكثير. فكما ورد في المقدمة، يمكن فهم الرفاه باعتبار أن له أبعادًا ذهنية وجسدية واجتماعية وروحانية، والتي يمكن اختبارها كلها ذاتيًّا. ولما كان الأمر كذلك، فإن «الرفاه الذاتي» يوحي بإحساس الناس الذاتي برفاههم على امتداد الأبعاد الأربعة كلها. غير أنه في المقابل، يتعلق المفهوم القائم فعلًا للرفاه الذاتي بالبُعد الذهني في الأغلب، بل بجزء منه فقط. لذلك لن أستخدم هذا المسمى هنا لتجنُّب اللبس، وبدلًا من ذلك سأشير لجانبَيه الوجداني الإدراكي منفردين باعتبارهما سعادة المتعة والسعادة التقديرية، على التوالي.
الرضا
تتشابه سعادة الرضا مع المتعة تشابهًا شديدًا، لكنها غالبًا ما تُصوَّر باعتبارها وجدانًا إيجابيًّا منخفض الاستثارة. ويمكننا، من ناحية، التوسع ببساطة بمفهومنا عن المتعة ليشمل تلك المشاعر. إلا أنه قد يكون من الأجدى أن نعتبرها شكلًا مستقلًّا، بما أنها تشتمل على حالات لا تُعد عادةً من قبيل المتعة بدرجة كبيرة (السكينة مثلًا)، بل حالات قد لا تكون ذات تكافؤ إيجابي من الأساس (رباطة الجأش مثلًا). بذلك يمكننا اعتبار سعادة الرضا تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة تتعلق بالمشاعر الآنية، لكن بتركيز خاص على الوجدان الإيجابي المنخفض الاستثارة.
من ثَم، يولي العلماء الآن اهتمامًا أكبر للثقافات التي تُعنى بالخبرات الشعورية المنخفضة الاستثارة. فمبادرة الرفاه العالمي مثلًا، كما ذكرت سالفًا، صارت تهتمُّ باستحداث نقاط جديدة لاستطلاع جالوب العالمي قائمة على المنظورات الشرقية للرفاه، حيث ضم استطلاع ٢٠٢٠ النقاط الثلاثة الآتية المتعلقة بسعادة الرضا: هل تشعر بأنك متصالح مع حياتك عمومًا؟ هل نعمت بالهدوء خلال جزء كبير من يومك أمس؟ هل تفضل أن تحيا حياة مثيرة أم هادئة؟ وستساعد مثل تلك البحوث على توسيع المفاهيم الأكاديمية عن السعادة لتشمل مثل تلك الحالات.
النضج
أخذتنا سعادة الرضا لمنطقة من الوجدان تكون فيها قيمة التكافؤ الإيجابي منخفضة نسبيًّا أو منعدمة، كما في الحالات المحايدة لرباطة الجأش. المدهش أنه من الممكن أن «نتحرك» نحو الانخفاض أكثر، فنجد أشكالًا من السعادة ذات تكافؤ سلبي نوعًا ما. إلا أن تلك التجارب لا تقع بالضرورة في الحيز السلبي من مقياس الرفاه الذهني؛ فكما رأينا في مثال الشخص الرياضي الذي ذكرناه في المقدمة، كون التجربة ذات تكافؤ سلبي لا يعني تلقائيًّا أنها تنطوي على معاناة. فبعض التجارب يمكن تصنيفها كذلك، لكن يجوز للفرد، من خلال تفاعل غريب، أن يجد ربما أشكالًا من السعادة في هذه التجارب ذاتها؛ مما يعني أنها قد لا تُحسَب من قبيل المعاناة.
السَّكينة
ولا بد أن نذكر أنه لا يجب بالضرورة أن نُساوي بين تلك السعادة والعواطف ذات التكافؤ الإيجابي مساواةً تامة. في الواقع، يزعم وونج أن هذا الشكل من الممكن أن يتداخل مع سعادة النضج، من حيث إن الطمأنينة والرضا اللذين قد يستشعرهما بعض الناس في معاناتهم كثيرًا ما يُفسَّران على أنهما روحانيان. بل يمكن اعتبار هذا النوع من العمليات التحولية هو جوهر الروحانية، كما تجسِّده بقوةٍ فكرة الخلاص التي يعكسها صلب المسيح. لكن سواء كان ينطوي على معاناة أم لا، فهذا النوع من السعادة يبدو مختلفًا نوعيًّا — أكثر رقيًّا أو ربما عمقًا — من أشكال سعادة المتعة المحضة.
بما فيها من مضامين روحانية، تداخل هذه السعادة مع فكرة الرفاه الروحاني بطبيعة الحال. لقد زعمت في المقدمة بأنه يمكن اعتبار الرفاه الروحاني مكافئًا لمستوى العلاقة بين الفرد وظاهرة يعُدُّها مُقدَّسة (الإله مثلًا)؛ أي موقف الفرد من الأبعاد الروحانية للوجود. بالمقارنة، تتمحور سعادة السكينة أكثر حول «الأحاسيس» الروحانية. من الواضح أن ثَمَّة كثيرًا من التداخل بين هاتين الظاهرتين، إلا أنه من المفيد التفرقة بينهما.
ولدينا هنا عنصر آخَر محتمل، وهو فكرة النعمة. فهي في المسيحية، على سبيل المثال، تصف الحب والخلاص «غير المستحقين» اللذين أنعم بهما الرب على البشر، فهي هبة ممنوحة ليس لأن البشر قد استحقوها، ولكن لأنها ممنوحة بلا مقابل. لتجارب السكينة دينامية شبيهة. رغم أن بإمكان الفرد محاولة تيسير السبيل إليها — بممارسة التأمل مثلًا — فلا يمكن لأحدٍ انتزاعها أو استحضارها عنوةً. فهي بالأحرى غالبًا ما تأتي تلقائيًّا وعلى حين غِرَّة (بالنعمة، إذا جاز القول)، وتزول بالطريقة الغامضة نفسها، مراوغة محاولات إطالتها أو الإبقاء عليها. وربما هذا ما جعلها عزيزة جدًّا ومنشودة.
الحيوية
من أشكال السعادة الخمسة المتعلقة بدرجة كبيرة بالمشاعر، يأخذنا هذا الشكل الأخير إلى حيِّز من الوجود مختلف قليلًا. على وجه التحديد، إلى مساحة الجسد؛ أي الوجود المادي للمرء. فمن بين هذه الأشكال الأربعة عشر ثَمَّة ثلاثة أشكال تتشعَّب من الرفاه الذهني وتمتد وصولًا إلى الأبعاد الثلاثة الأخرى للرفاه. فقد رأينا للتَّوِّ كيف تتداخل سعادة السكينة مع الرفاه الروحاني، وسنرى فيما يأتي كيف تتصل سعادة العلاقات بالرفاه الاجتماعي. وتكملةً للصورة، تتعلق سعادة الحيوية بالرفاه الجسدي.
في المقدمة، مُنح الجزء الموجب من مقياس الرفاه الجسدي تسمية الحيوية، باعتباره النظير المادي للسعادة. من ثَم فإن الحيوية لا تشير إلى خلوِّ المرء نسبيًّا من الاعتلال الجسدي فحسب (الصفر على المقياس)، وإنما إلى الازدهار أيضًا (أن يكون المرء في حالة جسدية ممتازة بطريقة ما). إلا أن هذه التفرقة بين الجسدي والذهني برمتها، من منظور نقدي، لَهِي شيء مُصطنَع ومختلَق نوعًا ما، بما أن الذهن حالٌّ في الجسد والعكس صحيح، كما سنستكشف أكثر في فصول لاحقة. من الناحية الموضوعية، يشكل الجسد والدماغ الماديَّان نظامًا واحدًا مترابطًا. بالمثل، من الناحية الذاتية، تنطوي العديد من الكيفيات المحسوسة على أحاسيس مادية مجسدة وظواهر ذهنية. لنتأمل تجربةً مثل الفرح مثلًا. إنه ليس حدثًا ذهنيًّا فحسب (باعتباره نشاطًا دماغيًّا من الناحية الموضوعية، وحدثًا انفعاليًّا من الناحية الذاتية)، ولكنه جسديٌّ أيضًا (باعتباره عمليات فسيولوجية تنتشر في أنحاء الجسم من الناحية الموضوعية، ومشاعر مُجسَّدة من الناحية الذاتية).
لكن كما هو الحال دومًا، لا بد من مزيد من الأبحاث لاستقصاء هذه الديناميات. في الواقع، كثيرًا ما تجاهل الباحثون الحيوية، وهو ما قد يعكس طبيعة الدراسات الأكاديمية المتمحورة حول الغرب، إلى جانب تجاهل الغرب، نسبيًّا، التجسيد أو التشخيص، مقارنةً بالثقافات الأخرى. لذلك السبب، أضافت مبادرة الرفاه العالَمي بندًا حول الحيوية إلى استطلاع جالوب العالَمي عام ٢٠٢١. وكانت صياغته عسيرة بسبب فقر المفردات الإنجليزية المتعلقة بهذه المساحة. وبعد كثير من النقاش، فضَّلنا أن نسأل عن «الحماس» حيث إنه يدمج، على ما يبدو، الجانبَين: الجسدي (النشاط مثلًا) والذهني (المنظور مثلًا). من خلال تلك التحليلات، يُحتمل أن نكتشف أن سعادة الحيوية تشكِّل فعلًا جانبًا مهمًّا من الرفاه الذهني.
التقديرية
أمَا وقد استعرضنا أشكالًا من السعادة تتعلق بالمشاعر في المقام الأول، فسوف نُوجِّه اهتمامنا الآن إلى أربعة أشكال متعلقة أكثر بالتفكير. ولا أقصد بذلك الأفكار المسترسلة فقط لكن كذلك الإدراك بمعناه الأعم، شاملًا وسائل مثل الإدراك الحسي والانتباه.
قد يكون هذا الشكل الأول أكثر أنواع السعادة دراسةً، حيث يشكل ٥٠ في المائة على الأقل من الأبحاث التجريبية حسب تقديري التقريبي. إنني أشير إلى الجانب الرئيسي الثاني من الرفاه الذاتي، الذي أُسميه السعادة التقديرية. رغم أنها كثيرًا ما تُدرَج مع سعادة المتعة، كما ذكرت أعلاه، فمن المنطقي أن نعاملها باعتبارها منفصلة. لأنه بينما سعادة المتعة وجدانية في المقام الأول، فالسعادة التقديرية معرفية أو «إدراكية» في الأساس، فهي تجربة ذهنية طيبة ذات جودة فيما يتعلق بتقدير المرء لحياته (سواء في مجملها، أو في نواحٍ مُعيَّنة منها، كالعمل مثلًا).
هذه مفاهيم مهمة ومؤثرة. فعلى سبيل المثال، كان التأثير الهائل الذي أحدَثه تقرير السعادة العالَمي — إذ أبرز أهمية السعادة في دوائر مثل الاقتصاد ووضع السياسات — يُعزى بالكامل إلى سُلم كانتريل (في استطلاع جالوب العالَمي). وقد جاء اختيار هذا البند موفقًا. فإذا كان بإمكانك أن تسأل الناس سؤالًا واحدًا عن الرفاه، فسيكون سؤال سلم كانتريل غالبًا الأفضل، بما أنه يدعوهم إلى تأمُّل حياتهم كلها. وهو مع ذلك ربما لا يعبِّر عن كل ما يتعلق بالسعادة؛ فقد يعطي الناس أولوية لشكل آخَر منها — مثل اتباع طريق مستقيم، وفقًا لمفهوم اليودايمونيا — حتى إن كان ينتقص من جوانب أخرى من حياتهم؛ ومن ثَم يحول دون تقديرهم لحياتهم عمومًا.
غير أنه سيكون لدينا المزيد لنقوله عن السعادة التقديرية خلال الكتاب. فحين نستعرض الآليات (الفصل الرابع)، والعوامل (الفصل الخامس)، والتدخلات (الفصل السادس) المتعلقة بالسعادة، نرى أن أغلب هذه الأبحاث تركز على هذا الشكل بالأخص.
المغزى
إلا أنه يجوز القول بأن اليودايمونيا قد صارت الآن فئةً جامعة لأي شيء يمتُّ للسعادة بصلة لكنه ليس من المتعة. من ثَم فإن هذا التصنيف الموسَّع يتيح الفرصة لتنقيح فهمنا لليودايمونيا؛ إذ يفرد لبعض السمات، التي عادةً ما تُحشَد معها، مساحتها الخاصة، باعتبارها أشكالًا مستقلة قائمة بذاتها من السعادة. من هذا المنطلَق، دعونا نقصر اليودايمونيا على النمو الشخصي — تنمية الشخصية والفضيلة في الأساس، كما سنفصل في موضع لاحق — بما أن هذا الجانب أشد ارتباطًا بالتصور الكلاسيكي للمفهوم. وبذلك نتمكن من استعراض الأبعاد الأخرى لنموذج ريف، التي لا تتعلق بالضرورة بالنمو الشخصي، بصورة مستقلة.
بَيْد أننا بهذا الوصف نستطيع أن نرى كيف أن العثور على مغزًى أو الغاية في الحياة لا ينطوي ﺑ «الضرورة» على تنمية الشخصية بمفهوم اليودايمونيا. فالعديد من الناس مثلًا يجدون مغزًى وغاية في تشجيع فرق رياضية، ومنهم أنا (تحية لناديَي برينتفورد وليفربول لكرة القدم!). من المؤكَّد أن تلك الأنشطة تتفق مع تعريف سليجمان، إلا أنها لا تتطلب أي تنمية للشخصية أو سَعْي إلى الفضيلة. لأسباب من هذا القبيل، من المفيد أن نفصل سعادة المغزى عن اليودايمونيا، فنسمح بالاعتراف بأهميتها في حد ذاتها، أي باعتبارها تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بمغزى الحياة وغايتها لدى الفرد.
آخِر نقطة سأذكرها هنا هي أن هذا النوع يتداخل مع سعادة النضج من حيث إنه من الممكن أن يشمل أيضًا تجارب ذات تكافؤ سلبي لكن تُفسَّر إيجابيًّا بطُرق أخرى. فأنا مثلًا قضيت عدة سنوات خلال العشرينيات من عمري أعمل في وظيفة مساعد تمريض نفساني. وقد شهدت أثناء عملي ذلك العديد من الوقائع العصيبة، التي أثارت لديَّ مشاعر صعبة شتَّى. إلا أنها كانت تجربة عظيمة المغزى لديَّ؛ بالأخص لأنني كنت أشعر أنني أؤدِّي عملًا نافعًا مفيدًا. وهي تختلف عن السعادة التقديرية؛ إذ إنني في هذه المرحلة لم أكُن راضيًا تمامًا عن حياتي عمومًا لأسباب متعدِّدة، ولا عن مسيرتي المهنية في حد ذاتها بالتأكيد. إلا أنني رغم ذلك وجدت فيما كنت أفعله مغزًى حقيقيًّا. مرَّةً أخرى تبرهن تلك التعقيدات على أهمية وجود تصنيف أدق.
الفكرية
ما زال لدينا في نطاق التفكير شكل من السعادة أغفلته الدراسات الحديثة بدرجة كبيرة، لكن ربما يستحق أن نضمِّنه هنا. وهو يتعلق بتنمية الشخصية والفضيلة، وهو الشيء المحوري في اليودايمونيا، كما سنوضح، ويمكن إدراجه تحتها ببساطة باعتباره أحد عناصرها أو مظاهرها. وهو يتداخل بالمثل مع سعادة السَّكينة. إلا أن الفائدة من التصنيف الموسَّع هي أنه يفتح المجال لفهم أشكال السعادة كما هي، دون تضمينها داخل فئات أعم، كما حدث مع هذا النوع بالتحديد.
وإننا نجد أهميته مطروحة في كتاب أرسطو «الأخلاق النيقوماخية»، الذي كان محوريًّا في إرساء مفهوم اليودايمونيا. فالنص يزعم قرب نهايته أن أقصى أشكال السعادة تأتي من ممارسة أسمى أشكال الفضيلة؛ أي الدراسة المتأنية لأفضل وأنبل ما في الحياة وتدبره وفهمه. بالنسبة لأولئك ذوي الميول الروحانية، قد يتخذ ذلك التفكر أو التدبر طابعًا دينيًّا صريحًا (ومن هنا جاء تداخله مع سعادة السَّكينة). فعلى سبيل المثال، توما الأكويني، في شروحه المؤثرة لأرسطو، يصف التفكر بأنه السعادة الشاملة، بما يحققه من إشباع تام للرغبة يتأتى من الرؤية الفكرية المطلقة المكتملة للرب.
تشير هذه الأفكار لسعادة فكرية أو تدبرية، ترقى بالمرء إلى حالات رفيعة وخاصة من الوجود من خلال التفكر في فائدة عظيمة، وفهمها كذلك. وقد اخترتُ استخدام لفظة «فكرية» هنا إذ إن كلمة «تدبرية» وإنْ كانت تتماشى مع الطريقة التي ناقش بها أرسطو هذا الموضوع، فإنها في الخطاب الحديث تحمل دلالات إلى الحالات التأملية، المتعلقة أكثر بسعادة الاستغراق والسَّكينة والنيرفانا. وخلاصة القول، يجوز أن نصِفَ هذا الشكل بأنه تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بالكيان الفكري أو التدبري للشخص (أي جوانب الحياة الذهنية المتعلقة خصوصًا بالفكر والمدركات والفهم).
الاستغراق
الشكل الأخير من السعادة المتعلقة بالتفكير — وهنا أستخدم التفكير بأوسع معانيه للإشارة إلى الإدراك بصفة عامة — يشمل حالات مهمة متنوِّعة بتسميات مثل الاستغراق والانهماك والتركيز والإبداع والانخراط. تتفق هذه مع مفهوم الانهماك في نموذج بيرما الخاص بسليجمان، وتركز بالأخص على كيفية استخدام وسائل الانتباه. من ثَم يمكن وصف هذا الشكل بأنه تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بالاستحواذ على انتباه الفرد.
وتنطوي الحالة الذهنية الناتجة على انخراط أو استغراق أو تركيز أو استحواذ تام على الانتباه. إذ يكون الفرد منكبًّا كليةً على العمل، فلا تَرِد له أي أفكار متطفلة أو دخيلة. يؤدِّي ذلك التركيز إلى ضياع الإحساس الذاتي بالنفس والوقت، وهو ما ينتج عنه عادةً شعور بالتحرر. الأهم أن هذه الأنشطة ليست ممتعة في حد ذاتها — وإلا جازَ تصنيفها تحت فئة المتعة — حتى إنْ وصفَها الناس بذلك فيما بعد. إنها ليست حالات وجدانية في المقام الأول على الإطلاق، وإنما بالأحرى نسَق ذهني مختلف كليًّا.
تتداخل بعض أشكال تركيز الانتباه مع التدفق. يمكن أن يدخل المرء في حالة استغراق عميق بالتركيز بإمعان على محفِّز واحد، ليكُن التنفس مثلًا. لكن ليس هذا ما يحدث في التدفق بالضرورة؛ إذ يكمن اختلاف حاسم في الحضور النسبي للإدراك الواعي بينهما. أثناء التدفق «يتوه» الناس عمومًا في النشاط، ولا يكون حضورهم الذهني حضورًا واعيًا بحق. على النقيض، تتَّسم أغلب أنشطة التأمل بارتفاع الإدراك الواعي والحضور الزائد في اللحظة. غير أن تلك الفروق ما زالت غير مفهومة كما ينبغي، ولا بد من المزيد من الأبحاث للتمييز بين هاتين الظاهرتين على نحو أفضل.
في المقابل، تجلب أشكال أخرى من التأمل حالات انفتاح الوعي. فبدلًا من التركيز على محفِّز محدَّد، يسعى المرء إلى أن يستقبل بانفتاح كل الكيفيات المحسوسة التي تمرُّ بالوعي، فيدركها لكنه يدعها تمرُّ دون أن يتشبَّث بها. من الاستعارات التي يكثر استحضارها في هذا الشأن مشاهدة السحاب وهو يجري في السماء. ممارسة اليقظة الذهنية هو أحد أمثلة انفتاح الوعي — حتى إنْ كانت العديد من جلسات اليقظة الذهنية تبدأ بتركيز الانتباه لموازنة الذهن — كما سنتبيَّن أكثر في الفصل السادس.
اليودايمونيا
أخيرًا، سننتقل إلى أشكال السعادة المرتبطة أكثر ﺑ «الفعل» (وإن كانت تنطوي أيضًا على الشعور والتفكير بالطبع). سننطلق من مفهوم اليودايمونيا، الذي ناقشنا بالفعل معناه العام باستفاضة. إلا أنني سأستخدمه هنا بمعنًى أدَق. كما ذكرت سابقًا، صارت اليودايمونيا مصطلحًا جامعًا لكل الظواهر المتعلقة بالسعادة خارج دائرة المتعة، من المغزى والهدف إلى البراعة والإنجاز. إلا أن التصنيف الموسَّع يتيح لنا تقدير هذه الظواهر باعتبارها أشكالًا من السعادة قائمة بذاتها.
الإنجاز
بينما تركز اليودايمونيا على تنمية الشخصية، تتمحور سعادة الإنجاز أكثر حول «المهارات». إذ يُقصَد بها في الأساس أن يكون المرء قادرًا على حُسن التعامل مع بيئته، وهو أمر أساسي لا محالة لتحقيق الرفاه. وهو ينعكس في مفاهيم متعددة، تمتد من الاعتلال إلى الصحة. فهو في حالة الاعتلال يتجلى في مفاهيم مثل التأقلم والمرونة. أما من الناحية الأكثر إيجابية، فينطوي هذا النوع على الازدهار في السياقات التي يجد فيها المرء نفسه، منعكسًا في مفاهيم مثل البراعة أو التفوق (أحد الأبعاد في نموذج ريف).
رغم أن البراعة كثيرًا ما تُدرَج تحت اليودايمونيا، فإنني أقصر اليودايمونيا على تنمية الشخصية، كما أوضحت سابقًا، لأتيح لنا تأمل البراعة بصفة مستقلة. ومع أن المهارات والشخصية كثيرًا ما يتداخلان، فإنهما ليسا متطابقَين. فالابتكار، على سبيل المثال، قد يكون ميزة في الشخصية، أما الرسم فمهارة. في الواقع، من الممكن أن يكون الشخص متمكنًا من مهارات لا وزن لها من ناحية قيمه الشخصية، لكنها على ذلك تؤدِّي إلى رفاهه.
علاوةً على ذلك، لا تتعلق المهارات بالضرورة بأن يصبح الإنسان أفضل صورة من ذاته — وهو جوهر اليودايمونيا — وإنما بالأحرى بتفاعل المرء مع بيئته وتأقلمه معها. ومن هذا المنطلَق، غالبًا ما تكون المهارات معتمدة على السياق ومتعلقة بالموقف. فعلى سبيل المثال، من الوارد أن يكون ساكنُ المدينة ماهرًا في التنقل في البيئات الحضرية (من ناحية التعامل مع الطرق المزدحمة مثلًا)، لكن ليس في البيئات الريفية (من ناحية التعرف على الكائنات البرية مثلًا)، والعكس صحيح بالنسبة لساكن الريف.
وأخيرًا، لا يتعلق هذا النوع من السعادة بالمهارات نفسها فحسب، ولكن كذلك بالمكافآت التي نحوزها من حسن توظيفها، وفقًا لمفهوم الإنجاز في نموذج بيرما لسليجمان. وهذه المكافآت قد تكون اجتماعية (مثل المكانة المرموقة والتقدير) وغير اجتماعية (فوائد مادية، مثل اجتياز المرء تحديات بيئته المحيطة). كلا النوعين من المكافآت مؤثِّران قويان على تشكيل أفكار البشر وسلوكهم. من ثَم يمكن اعتبار سعادة الإنجاز تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق باجتياز الفرد تحديات الحياة.
الانسجام
ومن هذا المنظور، يستتبع الرفاه العديد من تلك الموازنات، التي يكون الشكل الإجمالي الأمثل لها هو الانسجام. من ثَم، فإن سعادة الانسجام هي تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بجودة اتساق عناصر حياة الفرد وتآلُفها. علاوةً على ذلك، رغم أنه من الممكن اعتبار هذه المبادئ شكلًا مستقلًّا من السعادة، فهي تنطبق أيضًا على الأشكال الأخرى عمومًا، كما أشرت سابقًا. من ثَم فإنه من الوارد أن يكون أكمل شكل من السعادة بمعناها الأتم الأعمق متمثلًا في تحقيق الانسجام بين أشكالها كلها.
العلاقات
رغم أنني عرَّفت السعادة باعتبارها شاملة البعد الذهني من الرفاه، فإن بعض أشكالها تتجاوز حدوده، وتتداخل مع أبعاد الرفاه الأخرى. فقد رأينا سعادة السكينة وسعادة الحيوية تتداخلان مع الرفاه الروحاني والجسدي، على التوالي. واستكمالًا للجوانب الثلاثة، تستحضر سعادة العلاقات الرفاه الاجتماعي.
من ثَم فإنها تنتمي إلى فئة أنطولوجية مختلفة عن تلك التي تنتمي إليها الأشكال الأخرى التي نستعرضها هنا، والتي تُعَد غالبًا تجارب فردية. صحيح أن بعضها قد يشمل الآخَرين (مثل سعادة المغزى التي تنشأ عن الانضمام لمجتمع)، لكنها في العموم تُعتبر قائمة بداخل الفرد باعتبارها حالة نفسية. وربما يعكس هذا التركيز على السعادة الكائنة داخل النفس النزعةَ الفردية لدى الثقافات الغربية التي شكَّلَت مسيرة تطوُّر علم النفس.
ولا بد أن نذكر هنا الفرق الدقيق بين سعادة العلاقات والرفاه الاجتماعي. فالثاني يتعلق بجودة علاقات الناس ومجتمعاتهم، دالًّا على اتساعها وعمقها ورسوخها وما إلى ذلك. أمَّا سعادة العلاقات فهي في المقابل «تجربة» مشتركة، وهو الشيء المختلف نوعًا ما. ولكونها مشتركة، فهي مختلفة أيضًا عن الشعور بأشكال أخرى من السعادة «الناتجة» عن علاقة ما. من ثَم فإنه يجوز اعتبار سعادة العلاقات تجربة ذهنية مشتركة حسنة مُستحَبة ناشئة عن دينامية علاقة ما.
تفيد الأبحاث القليلة عن سعادة العلاقات بأنها محل اهتمام في الثقافات التي تُعَد أكثر نزوعًا لروح الجماعة (في الشرق مثلًا)، بينما لا توليها الثقافات التي تُعَد الأكثر ميلًا للفردية عناية بالقدر نفسه (في الغرب مثلًا). ولمَّا كان الأمر كذلك، فقد تجاهلتها بدرجة كبيرة الدراساتُ الأكاديمية المعاصرة نظرًا لتمحورها حول الغرب. إلا أننا قد نجد — كما الحال مع الأشكال المهملة الأخرى — أن هذا النوع يقدره الناس ويشعرون به عالَميًّا أكثر مما نظن.
علاوةً على ذلك، فإنه حتى إذا كان الغرب تغلب عليه النزعة الفردية إجمالًا، يظل لدى شعوبه حاجة إلى العلاقات وإدراك لأهميتها، كما يتجلى في الأدبيات الغزيرة عن رأس المال الاجتماعي. ولعل أقوى مظاهر سعادة العلاقات هي الحب — على الأقل الحب المتبادل بين الكائنات الحية؛ إذ للحب أشكال أخرى — وهو ما يعُدُّه أغلب الناس قطعًا مفهومًا عالميًّا. من ثَم فإننا لا بد أن نحذر من افتراض أن سعادة العلاقات (وغيرها من الأشكال هنا) حكرًا على ثقافات معينة، ونكون على استعداد لقبول أن أهميتها قد تكون أعم.
النيرفانا
غطى هذا الفصل كثيرًا من الموضوعات، بهذا التصنيف الموسَّع الذي يتيح لنا شرح الفروق الدقيقة بين أشكال السعادة باستفاضة. لكن حتى تنوع الأشكال المذكورة سالفًا قد يكون غير كامل. فرغم غزارة الأبحاث على مدار القرن الماضي، يظل فهمنا لها مبدئيًّا وبحاجة إلى مزيد من الدراسة. إذ إننا ربما لم نقترب بعدُ من أقصى قدرات البشر فيما يتعلق بالرفاه.
من هذا المنطلَق، ركَّز هذا الفصل في أغلبه على المفاهيم الأكاديمية المعاصرة عن السعادة، التي نشأت في علم النفس كما يُمارس في الغرب، لكن تلك ليست المساحة الوحيدة التي تشكَّلَت فيها الأفكار المعنية. فكما رأينا في الفصل الثاني، وضعت العديد من الموروثات الدينية والروحانية والفلسفية هي الأخرى نظريات مفصلة في هذا المجال. وتلك ليست مجرد أفكار تاريخية، حلَّت محلَّها الأفكارُ الأكاديمية الحديثة. فالعديد من تلك الموروثات يظل قائمًا، ولا يزال له مساهمات كبيرة في فهمنا للسعادة.
لنتأمل البوذية. وهي اختيار يعكس عوامل متعددة. أولًا: من بين كل الموروثات المناظرة، قد تكون هي الأكثر استنادًا إلى الجانب النفسي؛ إذ تزخر بنظريات مفصلة عن الذهن والرفاه. ثانيًا: ربما لذلك السبب، حصلت البوذية على أغلب الاهتمام في علم النفس المعاصر، وهو ما ينعكس في الآلاف من الدراسات عن التأمل، التي تركز أكثرها على ممارسات مستوحاة من البوذية مثل اليقظة الذهنية. ثالثًا: لقد انجذبت لهذا التراث لأكثر من ٢٠ عامًا بصفة شخصية ومهنية (إذ كان موضوع رسالتي للدكتوراه)، وقد وجدته مرتبطًا بالسعادة بدرجة كبيرة.
من ناحية، ينصبُّ كاملُ اهتمام البوذية على مساعدة الناس في إيجاد السعادة — بأعمَق معانيها — وقد تراكمت لديها التعاليم والأنشطة المعقَّدة لتحقيق هذا الهدف على مدار ألفَين وخمسمائة عام. لكننا لا نستطيع التعمُّق في تفاصيلها هنا؛ لذلك سيكون كافيًا حتمًا أن نشير محض إشارة لسعادة «النيرفانا» المحورية في الرؤية البوذية.
أحد أهم عناصر البوذية هو الطريق النبيل الثُّماني، وهو وصف مفصَّل ﻟ «العيش الصحيح» كما قدَّمناه في الفصل الثاني. فالتقدم ولو قليلًا في هذا الطريق من المرجَّح أن يزيد الرفاه، بما يشمله من أشكال السعادة المذكورة سالفًا. أمَّا غايته النهائية فهي بلوغ حالة النيرفانا. رغم أنها أساسًا مفهوم مُراوِغ وعسير على الوصف، فمن الممكن الإلمام بجوانب من معناها بتأمل أصلها اللغوي، وهو يعني يطفئ أو يخمد. وتتنوع الظواهر التي قد تنطبق عليها هذه العملية؛ إذ تمتد من الأنماط النفسية المؤدية إلى «الدوكها» (مثل الاشتهاء والتعلق)، وصولًا إلى إحساس المرء الخاص بذاتيته. فمن الجائز، بإقدام المرء على إخماد تلك الجوانب، أن يشعر بالسعادة المُطلَقة التي تشير إليها مصطلحات مثل النيرفانا.
ومن ناحية أكثر خصوصية، تَعِد النيرفانا بالانعتاق من «السامسارا»، الدائرة الأبدية للميلاد والموت والميلاد مجدَّدًا التي تسود فيها «الدوكها» أبدًا (في ميتافيزيقا البوذية والموروثات المشابهة). يمكن تفسير هذه الدائرة وفقًا لأُطر زمنية متنوِّعة، بدءًا من الحيوات المادية المتعاقبة التي تشير إليها نظريات تناسخ الأرواح إلى الطريقة التي تتجدَّد بها الذات البشرية لحظةً بلحظة باستمرار. لما كان الأمر كذلك، وبعيدًا عن المزاعم الميتافيزيقية لتناسخ الأرواح، يعتقد أغلب البوذيين أنه من الممكن بلوغ النيرفانا في الحياة الحالية.
من الجلي أننا نستكشف هنا مساحةً حصرية وخاصة، وللقرَّاء أن يتبحَّروا أكثر في الموضوع. إنما يكفي القول إن النيرفانا لا يمكن فهمها باعتبارها مجرد شعور أو فكرة، فهي بالأحرى نسق كامل من الكينونة أو الوجود (ولذلك أدرجتها هنا باعتبارها نوعًا من السعادة يتأتى بالفعل). ومن ناحية خيطنا المشترك التعريفي، فيجوز أن نصِفَ سعادة النيرفانا بأنها تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بتحرُّر المرء النسبي من المعاناة. غير أن هذا الوصف الجاف لا يعبِّر عن الآمال العريضة للنيرفانا في البوذية، حيث تُعتبر من فئة وجودية مختلفة جذريًّا عن سائر الحالات البشرية؛ إذ قد تنطوي على الذروة الحقيقية للازدهار. وبهذا نختتم جولتنا الواسعة لاستعراض أشكال السعادة، وإنْ ظلَّت غير مكتمِلة.