الهجرة في الثدييات
الثدييات اسم لجماعة كبيرة من جماعات الحيوان، تكون رتبة هي أعلى رتبة على الإطلاق، وقد اشتقت اسمها من «الثدي» فهي ترضع صغارها اللبن منه، وهذه صفة لا تشاركها فيها رتبة أخرى من رُتب الحيوان، وهي كذلك تتصف بصفات أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا، وإن كان يجمل بنا أن نشير إلى الشعر الذي لا يُعرَف إلَّا فيها، وقد يختفي هذا الشعر من بعضها، وإن كان هذا يعتبر بين الثدييات شذوذًا، أضف إلى ذلك أن الثدييات تضم أشكالًا وضروبًا شتى من الحيوان، وصلت في سلم الرقي أعلى مرتبة، فأجسامها دافئة، لا تشاركها في هذه الصفة سوى الطيور، ولكنها تمتاز عن هذه بأن المخ قد وصل فيها إلى أعلى صوره، وبخاصة مراكز التعقل والتبصُّر وحسن التدبير والحيلة التي تصل إلى منتهاها في الإنسان الذي يعتبر من الناحية العلمية أحدها وأرقاها قاطبة.
ومعظم الثدييات يعيش على الأرض يتجول عليها ويقتات منها، ولكثير من هذه الثدييات البرية القدرة على خوض الأنهار وعبورها فمنها السباحون المهرة، ومنها أيضًا ما استقر في الماء وتكيَّف للمعيشة فيه، تلك هي الثدييات البحرية، القياطس وعرائس البحر وسباع البحر والفُقَم، ومن بين هذه وتلك ما يهاجر في فصلين؛ وعلى ذلك سوف نتحدث عن كلِّ منها منفصلة.
(١) الثدييات البرية
يجدر بنا قبل أن نتعرض للثديات البرية، الخيل والإبل والأيائل والرنة والبقر الوحشي والجرذان وأشباهها من اللمنج، وغير ذلك مما سوف نورد ذكره في هذا الفصل أن نتحدث عن الإنسان في هذا المجال، فقد كان للإنسان تأثير مباشر على كثيرٍ من هذه الثدييات في تجوالها وترحالها، فهو، بفضل ما أوتي من قوة الحيلة وسعة الفكر والتعقل والتبصر قد أذل أعناق كثير من ضروب الوحش، فاستأنسه وغيَّر من طباعه وصرفه عن كثير من عاداته، وقد برهن الإنسان منذ الزمن الغابر السحيق، الذي يُقدَّر بنصف مليون من السنين أو يزيد، منذ أن فتت الحجر ليتخذ منه أداة وفأسًا إلى العصر الذي يعيش فيه الآن، حيث فتَّت الذرة فأطلق الطاقة الكامنة فيها من عقالها، استطاع أن يعمر اليابسة كلها إلَّا القليل من أطرافها، فهو يقطن بالوديان الخصبة والسهول والبراري وبالجبال والصحارى، فانتشر على سطحها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من مشرقها إلى مغربها، لم يُقعِده البرد القارس عن أن يعمر مناطق يتخذ فيها من الثلوج بيوتًا، ولا الحر اللافح عن أن يتخذ من جلود الحيوان خيامًا يضربها ليرعى قطعانًا من حيوانات كانت تجوب هذه الأصقاع حرة طليقة، فبرهن بذلك على أنه أجدر هذه الحيوانات جميعها بالبقاء، فغزل الصوف وبنى البيوت واستأنس الحيوانات وخطَّط الحقول ونقش بيده حروفًا كتبها، ومِن ثَمَّ قرأها، ثم قايض بسلعه مع أفراد جنسه سلعًا أخرى، وهو لا يزال منذ أقام بأور ومصر وبابل وأثينا وروما وبغداد مدنية تلو أخرى يصارع الطبيعة فيُسخِّرها بكافة الوسائل، ولا يزال يلهث صاعدًا على سلم المجد والخلود على مرِّ السنين وكر العصور بما يتوصل إليه من كشف وفتح وتصوير للمُثل العليا التي تسمو به عن مراتب الحيوان.
وتدفع فصول السنة، وما يتبعها من تغير كبير في درجة الحرارة، ومِن ثَمَّ في نمو النباتات الذي يخضع لهذه الحرارة من استقامة ووفرة غلة مع اعتدالها، إلى كمون وسكون أشبه بالموت مع انخفاضها الشديد أو ارتفاعها الشديد؛ نقول تدفع هذه الفصول كثيرًا من قبائل بني الإنسان إلى الرحيل إلى حيث يطيب المرعى الذي تعتمد عليه ماشيتها في معاشها؛ لأن تلك القبائل إنما تستمد من هذه الماشية كيانها، صوفها وجلودها ولحمها ولبنها؛ ولا شك أن إمكانيات المدنية الحديثة توفر لبني البشر الذين كانوا يسلكون مسلك الحيوان في التجوال والترحال ما يغنيهم عنه، ولكن على الرغم من وجود هذه الإمكانيات إلا أنها ليست متوفرة لكثير من بني الإنسان، فمن هؤلاء من لا يزال يعيش على فطرته التي جُبِل عليها وما يصحب هذه من بدائية العصور الأولى، فتضطر تلك القبائل إلى النزوح من الشمال إلى الجنوب تارة، ومن الجنوب إلى الشمال تارة أخرى، أو أن تنزل من أعالي الجبال إلى سفوحها، ثم ترقى إليها مرة أخرى، ذلك أن درجة الحرارة تنخفض في الشتاء في أعالي الجبال حتى تكسوها الثلوج، وتذوب تلك الثلوج مع مقدم الربيع فتعود إلى الجبال حياتها ورخاؤها، ويفعل القيظ الشديد فعلته في الصحراء المنبسطة كما يفعل البرد القارس على الجبل العالي، فيذب من الأرض سُكَّانها إلى عود عندما يطيب الجو وتطيقه الحياة البشرية.
ولن نستطرد مع الإنسان إلى أبعد من ذلك، فهو على كل حال يستطيع أن يُدبِّر من شئون نفسه بما أوتي من حرية الفكر بيديه والتفكير بعقله، فيستقر ويبني الدور ويقيم الحصون ويختزن القوت لنفسه وماشيته ودواجنه، فيمر بالأشهر العجاف صابرًا حتى تغيثه السماء، وحسبنا ما نعرف عن قبائل الإسكيمو التي تقطن بالمناطق القطبية، وقبائل التبت التي تعيش على تلك الهضاب العالية في أواسط آسيا، وما تقوم به كل منها من ترحال وتجوال مع تقلب الجو في الشتاء فينقلب زمهريرًا عاتيًا ينفذ إلى العظام، وكل هذه الأمثلة تضم قبائل من البشر اتخذوا لهم من الرعي حرفة، فيعرفون بالرعاة، ويتسمون بالبساطة وتحمل المكاره وشظف العيش لما يصيب مناطقهم من عجف في فصل من فصول السنة أو في فصول متوالية قد تمتد سنينًا.
كانت قطعان هذا البيسون الهائلة العدد ترحل مع الفصول في البراري التي لم يكن ينازعها فيها إلَّا القليل من ضروب الوحش، فكانت ترحل إلى الشمال تارةً وإلى الجنوب تارةً أخرى طلبًا للكلأ والماء، حتى دخل أمريكا الشمالية الرجل الأبيض فهالته من تلك القطعان جموعها التي لا تُعد، فنظَّم فرقًا، عرفت فيما بعد برعاة البقر، أخذت تقتل منها كلَّ ما تُصادفه من هذا البقر سعيًا وراء لحمه، فلما زادت كمية اللحم عن حاجة أولئك، عمدوا إلى قتلها وراء ألسنتها، فكان الثور يجندل بالرصاص، ثم ينتزع منه لسانه وتترك جثته في العراء للنسور حتى أوشك هذا الحيوان البائس أن يبيد كلية، وعندئذٍ تنبهت الحكومة إلى مصيره التعس، فسنَّت قانونًا حرَّمت به صيده، ولكن بعد أن كاد يبيد كلية، ثم خصَّصت له منطقة محدودة من مناطقه التي لم يكن ينازعه فيها أحد فأمن فيها من بنادق الرعاة وجبروتهم.
وكذلك تدخَّلَ الإنسان في حياة تلك العواشب الحافرية التي تستهلك من النبات كثيرًا، فقد تتبعها وحاربها لأنه احتاج في نهاية الأمر مع كثرة ذراريه إلى الأرض؛ أي إلى معاشب تلك الحوافر، فأخذ يسويها ويفلحها ويُخرِج منها غذاءه الذي يريد من فومها وعدسها وبصلها وقثائها، فذب عن حقوله التي كانت في الأصل مرعى خصبًا لكثير من تلك الدواب هذه عنها، ثم أقام مع الحقول القرى وشَيَّد المدائن وأخذ يجوب بين هذه وتلك مسالمًا تارة، ومتجبرًا تارة أخرى حتى انزوى كثير من تلك العواشب الحافرية في مساحات قليلة نسبيًّا؛ أي بالنسبة لما كانت تتمتع به تلك الدواب في الزمن القديم، قبل وجود الإنسان، من حرية في التحركات، فلا نجد في عصرنا الحاضر من المساحات الملائمة لتحركات هذه الدواب إلَّا في بعض البراري كتلك الكائنة في جنوب أفريقيا حول صحراء كلاهاري، وعلى هضبة التبت أو على سفوح الجبال الشاهقة كجبال الأنديز في أمريكا الجنوبية وجبال روكي في أمريكا الشمالية، أو في تلك البقاع الفسيحة التي تقع حوالي القطبين الشمالي والجنوبي وما يحيق بها من ظروف جوية قاسية، تلك هي آخر المعاقل لتلك العواشب الحفرية تجد فيها بعضًا من الراحة والدعة دون أن يُعكر عليها الإنسان صفوها إلا قليلًا.
ولو رجعنا إلى الوراء مائة سنة لوجدنا قارة أفريقيا، وفي الجنوب على وجه الخصوص، تزخر بجموع من العواشب الحافرية تعيش في قطعان كثيرة العدد، من ظباء وغزلان وتياتل من جميع الأنواع، ومن زراف وحُمر وحش وجاموس، ولكن هذه القطعان قد تناقصت على مرِّ تلك السنين المائة، ولم يعد منها في عصرنا الحاضر إلا جماعات صغيرة يتركها الإنسان حفظًا عليها من الفناء، فلم تعد تتمتع بحرية الحركة كما كانت تفعل في القديم، فهي في ترحالها تصطدم بالإنسان في قراه وحقوله، فيدفعها عنها، فانزوت في بقاع ضيقة محدودة؛ ونجد نفس الشيء في آسيا حيث كانت جموع الخيل تهاجر في مناطق واسعة بين الشمال والجنوب، والغنم تهبط إلى سفوح الجبال أو ترجع الكرة صاعدة إلى قممها حيث يطيب الهواء ويكثر العشب عندها في الصيف، وتنزل إلى سفوحها في الشتاء عندما تكسو قممها الثلوج البيضاء.
أما الأيائل فإنها تتشبث بالغابات فتقضي الشتاء في أطرافها الجنوبية، بينما في الربيع مع شهر مايو نجدها ترحل في صفوف طويلة إلى الشمال فتقطع رحلة طويلة شاقة بطول تلك الغابات التي تمتد أميالًا عديدة، فإذا ما وصلت إلى الأطراف الشمالية لتلك الغابات تفرقت الإناث لتضع كلُّ ذاتِ حمل حملها، بينما تتجمع الذكور فتتعهد قرونها النامية، فهذه تظهر في الذكر دون الأنثى، وتغير الذكور قرونها مرة في كل عام، وهي تزداد مع الأعوام بهاء وحسن منظر، فإذا ما حلَّ الخريف مع شهر سبتمبر بدأت هذه الذكور تتشاحن وتشتبك في عراك دامٍ، فتصرخ وتتصارع في سبيل الإناث، وكثيرًا ما تتمخض المعركة بين أيلين عن ضحية أو ضحيَّتين، أما القول بضحية فأمر لا غرابة فيه فأحدهما هو الأقوى يقضي على الضعيف بقرنيه يوخزه بهما فيبقر بطنه، أما أن يهوي الاثنان في حلبة المصارعة فأمر مدهش حقًّا، ولكن ذلك يحدث كثيرًا، ذلك أن الأيلين يشتبكان بقرونهما، وهذه كثيرة التفرع، وقد يحدث أن يخترق قرن أحدهما عين الآخر فينفذ إلى جمجمته، فيقضي هذا في الحال، ثم يحاول الحي منهما أن يخلص نفسه منه، ولكن قرنه يكون قد تثبت كالوتد في أرض صلبة لا فكاك له منها، فيظل كذلك صريعًا لا يملص منه حتى يقضي عليه الجوع والضنى، وقد وصلت هذه القرون المتفرعة في أسلاف لتلك الأيائل درجات معقدة غاية التعقيد، فكانت تعوق أصحابها عن الحركة في الغابات بين الأشجار؛ لأنها كانت تتشابك مع أغصان تلك الأشجار، فلا تستطيع التملُّص منها مما كان يؤدي إلى هلاكها، فبادت تلك الأسلاف ولم تبق منها إلَّا ضروب قصيرة القرون قليلة التفرع نسبيًّا؛ لأن الأنواع الحية على كثرة ما تصل إليه قرونها من التفرع والتعقيد لا تعد شيئًا مذكورًا بالنسبة لقرون تلك الأسلاف البائدة.
وما ينتهي الصراع بين ذكور الأيائل من أجل الإناث حتى تتزاوج، ثم تكر راجعة مولية شطر الجنوب إذا ما أقفرت الغابات من أشجارها المورقة ونباتاتها المزهرة التي كانت تضفي على تلك الغابات بهجة الحياة، وهي إذ تفعل ذلك تتخذ طريقها فوق الأراضي العالية من تلال أو جبال، وإبان تلك الرحلة تشاهد جموع الكاريبو تسير الهوينى متهادية على حواف البحيرات والوديان، وهي تولي شطر الشمال، ونحن ندهش لأول مرة أن نسمع بحيوانات تولي شطر الشمال في الشتاء، ولكن هذا الكاريبو يفعل ذلك فهو لا يغادر الغابات أبدًا، وقد يلتقي بنوع آخر من بني جنسه، ذلكم هو كاريبو التندورا الذي يقوم برحلة الصيف متوغلًا في الدائرة القطبية، ثم يُقفِل راجعًا إلى حدود تلك الغابات جنوبي التندورا.
وثمة أيائل آسيوية تعيش في أطراف سيبيريا الشمالية بالقرب من المناطق القطبية وتستأنسها القبائل التي تعيش في تلك الأصقاع، حيث تنشر قرونها فتصدرها إلى الصين حيث تطحن وتتحول إلى عقار يقال إنه عجيب المفعول في علاج بعض الأمراض.
وهنا نقف قليلًا، لكي نتأمل في مدى نجاح الثدييات في انتشارها بين خط الاستواء والقطبين، إذ أنها وزَّعت نفسها بين أطراف الدنيا، ولم تتجمع في منطقة واحدة أيامها سجسج، أي لا حر فيها ولا برد؛ لأنها لو كانت فعلت ذلك لتكاثرت ذراريها وتزاحمت تزاحمًا شديدًا، فتتدافع بالمناكب لينتزع كل فرد حاجته من القوت المحدود فيها، ومعين هذا لا مناص من نفاذه فيعز عليها طلبه فتقضي في النهاية على نفسها بنفسها، وإنما نجدها قد تفرَّقت وضربت بعصاها في الأرض لتجد عشائرها العديدة مددًا لا ينقطع من الرزق، بشكل أو آخر، حتى تلك الظباء التي تقطن بتلك الأصقاع المقفرة التي يبلغ فيها الزمهرير أشده تنتزع قوتها بين خفايا الجليد؛ فتكتنز أبدانها منه شحمًا ولحمًا.
ومن الصفات التي تميز العواشب الحافرية، التي ربما اكتسبتها من عادة التجوال وقلة الاستقرار، قدرة صغارها على اللحاق بالقطيع بعد ولادته بوقتٍ قصيرٍ لا يعدو ساعات في بعض الأحوال، ذلك أن القطيع إذا ما ألمَّ به أذًى من قرٍّ أو حرٍّ أو وحشٍ كاسر آكل لحم، تجمع وولَّى الأدبار طلبًا للنجاة، وعلى الصغار أن تعدو مع بقية القطيع وإلا تأخرت عن الركب وكان في ذلك هلاكها، وذلك بخلاف آكلات اللحوم من القطط والكلاب وما أشبه التي تضع صغارها ضعيفة عاجزة عمياء لا حول لها؛ ولذلك فإن هذه قلما تهاجر، كما أن أعداءها قلة إلا من أنفسها، فتنال الصغار من عناية أبويها الكثير ولفترة طويلة فيحنوان عليها ويُطعمانها ويلهوان معها ويُدربانها على القنص وكيف تعامل الفريسة، فلا تدعها تفلت من بين مخالبها وأنيابها، فإذا ما اشتد عودها وأصبحت قادرة على خوض غمار الحياة وحدها تركتها وشأنها.
واللمنج حيوان صغير في حجم الفأرة يُغطِي جسمه فراء بُنِّي يضرب إلى الصفرة به خطوط، والأرجل قصيرة بالنسبة للجسم الطويل، كما أن الذَّنَب قصير، وهو يصر صريرًا، ويقطن النوع الذي نحن بصدده ببلاد النرويج، وينقب في الأرض ليبني فيها أفاحيص يكتهف فيها، وهو يقتات من الأعشاب وكل شيء أخضر، ومن أعجب ما يميز هذا اللمنج القارض، بل ومن أعجب الظواهر بين الحيوانات إطلاقًا، أنه، تحت الظروف الملائمة له، والتي لا ندري متى تكون، يتكاثر كثيرًا، فلا تحمل الأنثى مرة أو مرتين في العام كما هي الحال في معظم الثدييات، وإنما هي تحمل ثلاث مراتٍ أو أربعًا في العام، كما أنها لا تضع وليدًا أو اثنين، وإنما تسعة أو عشرة من الصغار، وتمتد هذه الفترة؛ أي فترة التزاوج عامًا أو عامين، وقد تتعداهما إلى ثلاثة أعوام، وعندئذٍ تبلغ جموع اللمنج بعد هذا الفصل التزاوجي ملايين عديدة، فقد تضاعفت عشرات الألوف من المرات في هذا الفصل، ويقال إن فيتامين ﻫ متوفر في أعشاب تلك المناطق التي يعيش فيها؛ فتزداد خصوبة اللمنج في النسل لأن المعروف عن هذا الفيتامين أن نقصانه من طعام بعض الثدييات يؤدي إلى عقمها، والعكس صحيح، فيصل نسل اللمنج إلى تلك الأعداد المخيفة التي تُغطي مناطق بأكملها، وفي هذا الفصل تحس باللمنج وما وصل إليه من تعداد وفير جوارح الطير من صقور وعقبان وبوم، وكذلك الثعالب القطبية والغربان وغيرها من الحيوانات والطيور الكواسر، فتنقض عليها وتأكل منها، فهذا الفصل بالنسبة لتلك الكواسر عيدٌ أيما عيد، تشبع فيه من لحم اللمنج الشهي، ولكنها مهما اقتنصت منه فإنها لن تُؤثِّر على تعداد اللمنج فهو إلى زيادة مع الشهور، زيادة كبيرة مذهلة، ولكن ما يخشاه اللمنج ليس هؤلاء الأعداء الطبيعيون، وإنما هو القوت، فإن أفواه تلك الملايين تُنادي به وتطلبه، فتقرض كل عود أخضر ويابس، حتى الأشجار تقرض قلفها فتعريها إلى الحد الذي تصل إليه تلك الحيوانات الصغيرة، وعندئذٍ تلتقي مع العدو اللدود وهو المجاعة، وعليها أن تقرر، إما البقاء حتى الموت أو الرحيل، فهي دائمًا أبدًا تختار الرحيل، فتتجمع ملايينها العديدة وتهاجر، وهي في هجرتها لا تلوي على شيء، وكثيرًا ما تختار الطبيعة لتلك الجموع وباء يتفشَّى فيها لتقضي على كثير منها حتى تستطيع أن تعولها، ولكن الوباء لن يقضي عليها كلها، فهي إذن تسير وتسير متجهة إلى الجنوب فتخترق الغابات والحقول والحدائق، وهي تقرض وتتزاوج في طريقها، وتبني الأفاحيص في الأرض لصغارها، وقد يعترضها نهر في طريقها فتخترقه، فيغرق الكثير منها، أما ما استطاع التعلق بجسم طافٍ فإنه يصل إلى الشاطئ الآخر من النهر، فاللمنج منذ قرر الهجرة يسير ويسير، وقد يمتد سيره سنة أو اثنتين حتى يصل إلى شاطئ البحر، فقد كان هذا هو هدفه، فيسير إلى البحر نفسه ويُلقي بنفسه في الماء فيحتويه اليم ويلقي به في قاعه، وهكذا تنتهي هجرة اللمنج بانتهاء تلك الملايين العديدة من هذا الحيوان القارض الصغير العجيب، مأساة عجيبة لا يزال سلوك اللمنج إليها محيرًا للعلماء، فمن قائل إنها غريزة ضارة تسيطر على ذلك الحيوان وتدفع به إلى الهجرة وإن كان فيها هلاكه، ومن قائل إن تلك الجموع عندما تلتقي بالبحر تظنه نهرًا داني الشاطئ، ومن قائل إن اللمنج قد اكتسب هذه الهجرة من قديم وإنه كان يسلك طريقًا معينًا لا يحيد عنه، وإن طريقه القديم كان خلوًا من البحر قبل أن تتكوَّن الخلجان الضيقة المعروفة بالفيوردات التي ظهرت على ساحل بلاد النرويج في العصر الحديث، وظل على طبيعته؛ أي غريزته التي تولَّدت معه مع الأجيال، فيسير في طريق كان بريًّا في القديم فأصبح يعترضه البحر في الحديث، ولكنه عندما يسير على الدرب الذي كانت تسلكه أسلافه منذ الزمان الغابر القديم ظل محافظًا عليه تسلكه الأحفاد من بعد الأسلاف دون أن تتنبه إلى أن الأرض قد تغيَّرت، فأصبحت غير الأرض التي كان يسلكها أولئك، وإن كان فيها هلاكها، ولكن الرأي عندنا هو أن خيرًا تفعل تلك الحيوانات بتلك الهجرة الانتحارية ما دامت تصل كل بضع سنوات إلى تعداد لا حصر له، فإنها إذ تُغرِق نفسها بعد هذا التكاثر العجيب تضع حدًّا لمشاكلها على أن تعود إلى ما كانت عليه بعد حين؛ فقد عوَّضتها الطبيعة عن عجزها بخصوبة تناسلية عالية، كما أن الطبيعة في نفس الوقت تحد من هذه الخصوبة بدفع الحيوان إلى الهجرة لإغراق نفسه؛ وعلى ذلك يحدث التوازن المرجو للطبيعة، ونحن إذا ما قلنا بأن الحيوان يُغرق نفسه لا ندَّعي أنه على دراية بما يفعل، وإنما استخدمنا التعبير مجازًا لأن النهاية هي مأساة يفقد بها الحيوان حياته.
ومن الأمثلة التي تضرب بخصوص توازن الطبيعة ما تفعله هذه بالفأر الأسود، وذلك أن هذا الفأر قد اكتسح البلاد الأوروبية في القرن الثامن عشر، وفد إليها من الشرق الأقصى، حتى أصبح وباء ضجَّ منه الناس وبرموا به، فأخذوا يُكافحونه كفاحًا مريرًا بالمصائد تارة وبالسموم تارة أخرى، ولكنه كان في زيادة كل عام فيستفحل أمره ويستشري خطره على مخازنهم ودُورهم، فأشار بعض العارفين من العلماء إلى أن خير علاج لهذا الفأر أن يُترك وشأنه، وما كادوا يفعلون حتى أتى عام لم يظهر فيه الفأر اللعين؛ ذلك أنه تكاثر بشدة فتفشت فيه الأوبئة ونقلتها الأفراد إلى غيرها بحكم اختلاطها ففتكت به فتكًا ذريعًا، فللطبيعة إذن ميزان تُبقي منه على جموع الحيوان تعدادًا معينًا فتحد من الكثير بأعداء كثيرين وتحفظ القليل وتحميه بوسائل عديدة.
وقبل أن ننتقل إلى الثدييات البحرية يجمل بنا أن نلخص بعض ما أوردناه عن الهجرة بين الثدييات البرية، فهي تقل مع الزمن لتدخُّل الإنسان، إما باستئناسها أو بحصرها في مناطق ضيقة لأنه احتلَّ مراعيها ومناطق نفوذها بإصلاحها لنفسه وتعميرها بالقرى والمدن وتخطيط الحقول، فحصرها بين السياج وسخرها بكافة الطرق والوسائل يتصرف فيها كما يحلو له، وإن كان في كثير من الأحيان نراه خادمها يتبعها أينما طلبت السعي، كما هي الحال مع الرعاة الذين يجوبون الأرض خلف ماشيتهم وأنعامهم، ينطلقون وراءها كلما جدت السعي طلبًا للمرعى الخصب بما فيه من كلأ وماء، وعلى الرغم مما وصل إليه الإنسان من مدنية أدنت له القاصي والداني، فإن هناك مناطق لا تزال على طبيعتها الأولى فتسلك الثدييات الرحالة فيها كما كانت تفعل منذ وجدت على الأرض.
أما قصة اللمنج، ذلك القارض الصغير، فإن هجرته، وإن لم يستطع أحد بعد أن يفسرها تفسيرًا لا يقبل الجدل، قد تكون ضربًا من التوازن الذي تلجأ إليه الطبيعة لتحفظ به ذلك العدد اللانهائي من الأفواه الجائعة.
(٢) الثدييات البحرية
والقياطس هي أضخم دواب البحر جثة، وليس ثابتًا بين علماء الحيوان من أي فصائل الثدييات انحدرت هذه الدواب ولا كيف أوت إلى البحر، ووصلت فيه إلى هذه الضخامة غير العادية، وقد قيل بصدد ضخامتها إن وجودها في ماء المحيط معتمدة عليه أدَّى إلى اضمحلال العضلات التي كان يعتمد عليها الحيوان في اليابسة حافظًا بها ثقل بدنه عليها مما أدى بعد ذلك إلى نمو غير عادي لبقية أنسجة الجسم كلها، فوصلت إلى الضخامة التي هي عليها الآن — ولكن هذه الضخامة التي جعلت منها سادة البحار السبعة كثيرًا ما تكون سببًا في هلاكها، إذ أنها لو حُصرت في خليج ضيق أو جنحت إلى الماء الضحل، ثم دفعها الموج إلى الشاطئ ولامست بصدرها اليابسة تعذرت عليها الحركة، فيضغط جسمها بثقله العظيم على صدرها فينوء تحت حمله فيتثاقل التنفس، ثم تختنق وتموت؛ أي إنها قد لاءمت الحياة في الماء ملاءمة تامة، فلا قِبَل لها على الخروج منه، وقد يُخطئ كثيرون في وصف هذه الدواب بالأسماك، فهي أبعد ما تكون عنها لا تجمعها وإياها إلَّا معيشة كل منهما في الماء، فالأسماك تتنفس الهواء الذائب في الماء بواسطة الخياشيم، أما القياطس فإنها تتنفس الهواء الجوي مباشرة برئتين فتصعد إلى سطح الماء لتستنشقه من فتحة أنف واحدة أو فتحتين توجدان في أعلى الرأس، ويخرج هواء الزفير بقوة بالغة، وهو هواء ساخن محمل بكثير من بخار الماء يتكاثف في الهواء الجوي وبخاصة في المناطق الباردة التي يعيش فيها الكثير من القياطس، فيبدو كالنافورة الشديدة شبهها القدماء بالمنارة، وقد يندفع قليل من ماء البحر مع هذا الزفير إذا زفر الحوت قبل أن يبلغ سطح الماء، ويُميِّز الصيادون القياطس بهذه النافورة إن كانت واحدة من فتحة واحدة أو اثنتين من فتحتين.
ويتحوَّر الطرفات الأماميان في القياطس إلى مجدافَين بينما اختفى الطرفان الخلفيان أو صارا أثريين، وينتهي الذيل بزعنفة أفقية عريضة ذات فصين يُسمَّيان الوشيعتين، تميزان القياطس من الأسماك في الحال، إذ أن الزعنفة الذيلية في الأسماك رأسية لا أفقية، وتوجد في كثير من الأنواع زعنفة دهنية على الظهر تظهر فوق سطح الماء فتشقه شقًّا، وقد شبهها القدماء لضخامتها بالشراع.
وجلد القياطس لامع أملس لا يكسوه الشعر فقد اختفى هذا إلا القليل منه يقع حول الفم، قد يظهر في الجنين، ثم يختفي أو يظل باقيًا في القيطس اليافع، وقد جاء اختفاء الشعر نتيجة ملاءمة الحيوان للحركة السريعة في الماء وإلَّا كان احتكاك الشعر به عائقًا لسرعة العوم، وتستعيض القياطس عن الشعر في تدفئة الجسم بطبقة غليظة جدًّا من الشحم تقع تحت الجلد مباشرة، وتصاد القياطس من أجل هذا الشحم الذي يستعمل في شتى الصناعات الزيتية.
وعظام القياطس على وجه العموم إسفنجية تمتلئ تجاويفها بمادة زيتية؛ ولذلك جاءت خفيفة في وزنها نسبيًّا. والقلب مضخة كبيرة تقذف في كل ضربة من ضرباته في دابة العنبر مثلًا من عشرة جالونات إلى خمسة عشر جالونًا من الدم، والأورطى (الوتين أو الأبهر أي الشريان الرئيسي للجسم) أسطوانة ضخمة يبلغ قطرها قدمًا أو يزيد، وتعترض كثيرًا من الشرايين شباك من الأوعية الدموية الدقيقة تساعد الحيوان على اختزان كمية كبيرة من الدم المحمل بالأكسجين، فتساعده على المكث تحت الماء فترات طويلة قد تصل في بعض الأنواع إلى اثنتي عشرة ساعة.
والقياطس حيوانات اجتماعية تعيش في جماعات كبيرة يُسمِّيها الصيادون القطعان أو المدارس في حدِّ تعبيرهم، وتتغذى القياطس من اللحوم، تحصل عليها من الأسماك والقشريات (كالجمبري وأبي جلنبو) والرخويات (كالحبار والأخطبوط) وقناديل البحر والكائنات الدقيقة العالقة بالماء (والتي يُطلق عليها معًا البلانكتون)، ويوجد جنس واحد يُسمَّى بالقيطس القاتل يتغذى من الفُقم ومن القياطس الأخرى الصغيرة منها والكبيرة، فهو بحق وحش البحر الضاري الذي لا يرحم أبدًا.
وتبعًا لنوع الغذاء تقسم القياطس إلى جماعتين كبيرتين، ذوات الأسنان، وعديمة الأسنان.
أما القياطس ذوات الأسنان فإنها تستعين بأسنانها على الإمساك بالفريسة التي قد تكبر أو تصغر لدرجة معقولة بالنسبة لأحجامها، أما القياطس عديمة الأسنان، فإنها تستعيض عن الأسنان بعضوٍ خاصٍّ يتدلَّى من سقف الحلق يُسمَّى عظم الحوت أو البالين، مركب من صفائح قرنية بها خيوط غليظة تُحاكي الشعر الصلب، فيزدحم بها تجويف الفم، وقد يصل طول عظم الحوت هذا في بعض القياطس إلى أربعة أمتار، وطريقة الإطعام به هي أن يفتح القيطس فمه الكهفي فيتدفَّق الماء إليه محملًا بكثير من الحيوانات كالأسماك الصغيرة والقشريات والحيوانات الدقيقة العالقة بالماء التي أشرنا إليها من قبل، فإذا ما أطبق القيطس فمه حجزت هذه الحيوانات في خيوط البالين، ثم يتقلص اللسان العضلي الكبير فيزقها إلى البلعوم.
والهراكلة أضخم الحيوانات على الإطلاق، فمنها الهركول الأزرق، وهو أضخم حيوانات الدنيا فيصل طوله إلى ثلاثين مترًا ونيف، وهو يقضي عامه متجولًا في البحار، ثم يتجمع في شهري أبريل ومايو ليغشى مياه الخلجان الضيقة (الفيوردات) الموجودة على طول ساحل النرويج حيث يكثر هناك في هذين الشهرين حيوان قشري صغير، فيتغذى أكبر الحيوانات طرًّا من واحد من أصغرها.
والهركول العادي أكثر الهراكلة انتشارًا، فينطلق في بحار الدنيا وقد يصل إلى البحر الأبيض ويقذف الموج بأحدها إلى شاطئنا المصري كما حدث في عدة مناسبات، وهو يفتك بسمك الرنكة؛ ولذلك يعتبر خطرًا على المصائد. والهجرة فيه غير معروفة.
أما إذا انتقلنا إلى القياطس ذوات الأسنان، وجدنا منها كثيرًا من الأمثلة كدابة العنبر وكركدن البحر والقاتل والدلفين وغيرها.
ولقد عرف العرب الصلة بين العنبر ودابة العنبر، غير أن كثيرًا منهم ذهب مذاهب شتى في أصله ومنبعه، فتارة هو من أصل شجرة وتارة هو من قاع البحر إلى غير ذلك، وأغلب الظن أن مرجع ذلك إلى أن دابة العنبر كثيرًا ما تلفظ هذه المادة أو أن تموت فتتحلل جثتها وتتبقى مادة العنبر فتطفو فوق سطح الماء، فتعثر عليها السفن أو أن يدفع بها الموج إلى الشاطئ فيجمعها سكان السواحل.
وتفضل دابة العنبر البحار الدافئة فتصل إلى خط الاستواء، وإن كانت لا تبقى عنده إلا قليلًا، وهي إذ تصل إليه تتجمع ويكون ذلك شتاء، ثم تجلو عنه في الصيف. وتؤخذ مثل هذه التجمعات والتحركات على أنها تجول أكثر منها هجرة.
ويصيد قطيع القتلة القياطس الضخمة كما تصيد الذئاب الثيران والوعول على اليابسة، فعندما يشاهد القطيع هركولًا مثلًا، الذي يصل حجمه إلى أضعاف حجم القاتل، دبر له أفراد القطيع خطة محكمة للقضاء عليه كما تفعل الذئاب، فيسرع اثنان من القطيع إلى الأمام ويقبضان على فك الهركول الأسفل بقوة شديدة، واحد من كل ناحية، فالهركول عديم الأسنان كما تقدَّم القول؛ ثم يقفز الآخرون فوق الماء ويضربون الهركول بأذنابهم ومجاديفهم ضربًا شديًا موجعًا، ولا يزالون به على هذه الحال حتى تخور قوى الهركول فيسقط فكه الأسفل الضخم، هنا يَلِج أحد القتلة إلى فمه فينهش لسانه فلا يملك الهركول بعدها حولًا ولا قوة ويصبح فريسة هينة للقتلة فيقطعونه إربًا.
وتستطيع هذه القتلة الغوص تحت طبقات الجليد، ثم تعلو بظهورها فتهشمها فيسقط ما عليها من حيوان إلى الماء ليجد طريقه إلى أفواه تلك القتلة؛ ولهذا كانت جموع الطائر الأكتع (أو البطريق أو البنجوين) الذي يعيش في المناطق المتجمدة الجنوبية فريسة سهلة لها.
أما الدلفين، واسمه بالعامية الدرفيل، فلا يبلغ من ضخامة الجثة ما تبلغه القياطس المتقدم ذكرها بل يبلغ مترًا إلى ثلاثة في الطول فقط، وهو منتشر في كثير من البحار، ونجده في بحرينا الأبيض والأحمر على السواء. وليس معروفًا عن الدلفين أنه يهاجر، ولكنه نظرًا لصغره يستطيع أن يتوغل في الأنهار من مصباتها، وقد ذكر الدميري أن الدلفين يوجد في بحر النيل.
ونحن إذا ما انتقلنا إلى الفصيلة الثانية من فصائل الثدييات البحرية؛ ونعني بها عرائس البحر، وجدناها تضم عددًا قليلًا جدًّا من الأنواع التي تعيش في البحار الدافئة دون الباردة اللهم إلا نوعًا واحدًا كان يقطن ببحر بهرنج، الواقع بين ألاسكا وسيبيريا وتحده من الجنوب جزر ألوشيان التي ذاع صيتها إبان الحرب اليابانية الأمريكية الأخيرة، إلى أواخر القرن الثامن عشر حيث باد آنئذٍ من كثرة ما صيد منه.
وتقف هجرة هذا الفقم بين الشمال والجنوب بين الظواهر البيولوجية الفريدة، فهي في هذا الفقم هجرة حقيقية لا غنى للحيوان عنها، فإنه يموت دونها، فلولاها لما اجتمعت الذكور والإناث لأنها لا تعيش كلها في منطقة واحدة، وإنما تشتي الإناث والأجراء (جمع جرو وهو الصغير) والذكور الصغيرة السن عند سواحل كاليفورنيا، بينما تقضي الذكور الكبيرة؛ أي الفحول، الشتاء جنوبي ألوشيان أو في خليج ألاسكا. فإذا ما أقبل فصل التزاوج مع بداية شهر مايو تُقبِل معه الفحول إلى مواطن تزاوجها عند جزر بريبيلوف الصغيرة التي تبعد عن ألاسكا بمائتي ميل إلى الغرب، وهذه الجزر هي عند الفقم الفردوس بعينه.
عندما تصل الفحول إلى جزر بريبيلوف، وهي تفعل ذلك في شهر مايو، تقضي شهرها الأول كله في عراك شديد، نسميه عراك المنازل، فكل يريد لنفسه منزلًا، هو قطعة من الأرض مساحتها مائة من الأقدام المربعة تغطيها السماء وتحدها الجهات الأربع، وكلما كان المكان قريبًا من الشاطئ كانت المعركة من أجله أشد، فينشب بين الفحول عراك قتال بأنيابهم الحادة وأيديهم القوية يثخنون بعضهم بالجراح، ويتصافعون بالأيدي صفعًا مُوجعًا حتى يستقل كل فحل بمسكنه.
وفي هذه الأثناء تكون الإناث قد بدأن رحلتهن من الجنوب إلى الشمال وهُنَّ حوامل، فيقطعن ثلاثة آلاف من الأميال في رحلة قاسية شديدة، يشققن طريقهن من كاليفورنيا في الجنوب في بحر عاصف شديد النوء حتى يصلن إلى جزر بريبيلوف الصغيرة في الشمال، فيتلقاهن الفحول، وكل غايتهن أن تضع كل ذات حمل حملها، ويحدث ذلك عادة بعد أن يصلن بيوم أو بعض يوم.
وعند وصول الإناث يتخاطفهن الفحول فتبدأ الحلبة الثانية من صراع الفحول، وفي هذه المرة يكون العراك عراك الإناث، أي من أجل الإناث؛ ولذلك يكون هذا صراعًا شديد الهول، وكلما كان الفحل بالغ القوة والبأس حصل على عدد أكبر من الإناث، وهؤلاء في شغل عنهم، فهن من نصيب المصارع القوي، فلا يكلفن أنفسهن عناء، وقد يحوز الفحل على أربعين زوجة أو أكثر لا يلهيه عنهنَّ لاهٍ ولا يشغله شاغل فيصوم عن الطعام، إذ أنه قد اكتنز من مواده الغذائية في أنسجة جسمه قدرًا كبيرًا قبل أن يصل إلى الجزر، فهو يصل إليها مكتنزًا لحمًا وشحمًا فيبدو في عنفوانه، أما الذكور الصغيرة فلا طاقة لها على الصراع، فتجتمع في مكان منزوٍ وتتخذ منه ناديًا للعزاب تمرح فيه وتلعب شأنها في ذلك شأن الصغار، فإذا ما وضعت الإناث أحمالهن يبدأ دور التلقيح فيحملن من جديد، غير أنهن لا يتركن الأجراء، فتتولَّى كلُّ أمٍّ جروها ترضعه على اليابسة، فتتردد عليه مرة كل يومين تحصل أثناء ذلك على قوتها والفحل أو رب العائلة من حولها ساهر عليها جميعها، يرد عنها كل اعتداء ويذود عن حوضه كأشرف الرجال.
وتعلم الأم جروها العوم حتى يتقنه كما نعلم نحن الطفل المشي على الأرض، فتبدو الجزر كأنها فردوس حقيقي يموج بمئات الألوف من هذه الثدييات العجيبة، لا يعكر عليها صفوها ويقطع مرحها سوى الإنسان، إذ هو على علم بمواطنها فتفد أساطيل الصيد إليها لتقتل منها أي عدد تشاء، ثم تترك الباقي إبقاءً على النوع من الفناء، وغاية الصيادين فراء الفُقم الجميل غالي الثمن الذي تقدره النساء أيما تقدير.
ومما يجدر ذكره أن الفحول تصوم عن الطعام منذ وصولها إلى الجزر؛ لأنها لو سعت إليه لا تأمن أن تغتصب منازلها فحول أخرى، فتمسك عنه ثلاثة أشهر كاملة، أما الإناث فقد شغلتها رحلتها عن الطعام فلا يقربنه حتى تضع كل ذات حمل حملها، فإذا ما حلَّ شهر أغسطس ولت الذكور الصغيرة والإناث مع أجرائها شطر الجنوب إلى سواحل كاليفورنيا مرة أخرى حيث تقضي هناك فصل الشتاء، وترجع الفحول إلى أوطانها جنوبي جزر ألوشيان بعد أن تكون قد قضت ثلاثة أشهر جائعة ساهرة قد أدماها القتال وعضها الجوع وأضناها السهر، فتعفو آثار ذلك الفردوس ويقفر إلا من صخور يخر عليها الماء وتُصفر من فوقها الريح، لن يعمره إلَّا ذلك الفقم ذو الفراء، أو دب البحر كما يسميه بعض الناس، في عامه المقبل.
ويعرف الإسكيمو مواطن هذا الفقم عند جُزُر بريبيلوف فيفدون إليها من قديم ليجمعوا منها حاجتهم من اللحم، فهو عندهم طعام رئيسي إلى جانب الأسماك يختزنونه في الثلج ليستعينوا به في فصل الشتاء الموحش الطويل، ولكن أثر هؤلاء الإسكيمو على هذا الفُقم ليس كبيرًا، كما كان الهنود الحُمر على البيسون، أو البقر الأمريكي الذي سبق ذكره، فلم يؤثِّر أي منهم على حياة أي من الحيوانين، ولكن الرجل الأبيض هو الذي هدد حياتهما تهديدًا خطيرًا حتى أوشك البيسون أن يبيد، كما أن هذا الفقم مهدد أيضًا بالإبادة لولا ما فطنت إليه الحكومات الشمالية من الخطر على حياة هذا الفقم بالصيد والتقتيل دون نظام، فاتفقت فيما بينها على تنظيم صيد الفقم فلا تقتل جماعة بأسرها أبدًا بل يترك بعض الأفراد للإبقاء على النوع من الفناء، وقد كان البيسون يُصاد من أجل لسانه الشهي، أما الفقم فمن أجل فرائه الناعم الوثير!
ولحصان البحر نابان طويلان، هما أنياب حقيقية لا كأنياب الفيل (لأن كلمة أنياب الفيل إنما تطلق مجازًا لبروز تلك الأنياب، ولكنها في الواقع قواطع وليست أنيابًا)، غير أن عاجهما أقل أهمية، وهما عضوا دفاع، ولكن وظيفتهما الحقيقية هي الحفر في قاع البحر وعند الشواطئ للبحث عن أنواع المحار المختلفة والقشريات التي يتكوَّن منها طعام هذا الحصان، كما أنه يستعملها في التسلق على الصخور وجبال الجليد التي يقضي فيها كثيرًا من وقته. وطريقة بحثه عن طعامه طريفة، فهو يغوص إلى قاع البحر، ثم يحرث القاع بنابيه في سرعة، ثم يصعد إلى سطح الماء فيملأ رئتيه بالهواء، ثم يعود مسرعًا إلى القاع حيث يجمع ما ظهر من الأصداف المدفونة، فيهشمها بأضراسه ويبتلع الأنسجة الرخوة دون المصراعين اللذين يلفظهما بلسانه.
وحصان البحر، كالفقم ذي الفراء أو دب البحر الذي سبق ذكره، اجتماعي، وهو يلازم الشواطئ أو جبال الجليد العائمة فلا يتركها إلى عرض المحيط، ولكنه لا يهاجر كهجرة الفقم بل يتجول من مكان إلى آخر حيث يتوفر القوت، فهو يقطن بالمناطق المتجمدة الشمالية، وشوهد فيها إلى أقصى ما بلغه الإنسان منها، ثم ينحدر جنوبًا حتى خليج سانت لورنس وعند أيسلنده وشواطئ سيبيريا وبحر بهرنج.
وتضع أنثى حصان البحر جروًا أو اثنين على الأكثر في المدة ما بين أبريل ويونيو، وتحنو عليهما حنوًّا كبيرًا، كما أن حصان البحر من أكثر الحيوانات حبًّا لأفراد نوعه، فإذا ما اعتدى دخيل على واحد منها اجتمعت كلها لتدفع عنه شره، وأكثر ما يكون الدخيل دبًّا قطبيًّا، وعندئذ ترهبه بخوارها العالي وتهاجمه بأنيابها.
ويُصاد حصان البحر من أجل لحمه، فهو غذاء رئيسي عند الإسكيمو كما هي الحال مع أنواع الفقم الأخرى، كما تصنع من عاج نابيه الحلي ومن جلده المناطق والنعال والسيور.
وقبل أن ننتهي من الحديث عن الثدييات البحرية يجدر بنا أن نُجمل أسباب الهجرة بينها، فهي دائمًا أبدًا تتعلق بالجو، وما يتبع من تقلب هذا من وفرة في الغذاء أو قلته، فإذا ما اشتدَّ البرد تكاثف الجليد ونضب معه معين القوت إلا قليلًا، فتولي هذه الثدييات إلى الجنوب إن كانت تقطن بالبحار الشمالية أو إلى الشمال إن كانت تقطن بالبحار الجنوبية، فإذا ما أقبل الصيف وعاد الدفء رجع كل منها إلى مواطنها.
وهنا يجدر بنا أن نقف متأملين متساءلين، ما الذي يدفع بتلك الثدييات في الصيف إلى النزوح تجاه أحد القطبين؟ فلم تبخل عليها البحار التي كانت تجوبها في الشتاء بالقوت! والرد على ذلك مرة أخرى هو حسن التوزيع الذي يضمن للجميع قوتًا ورزقًا، إذا أنها لو بقيت في أمكنتها لاكتظت مع حيوانات تلك البحار الأصلية، ودخلت معها معركة الغذاء بينما هي سوف تجد كفايتها بالقرب من القطبين، فتهيأت أجسامها للمعيشة في تلك المناطق بأن كست جسمها بالشحم الغزير الوفير أو الفراء الكث لتقي نفسها أثر البرد الشديد.
أما هجرة الفُقم ذي الفراء أو دب البحر فتفسيرها قد يبدو سهلًا لو أن الفحول كانت تقضي مع الإناث فصل الشتاء في موطن واحد، أما أن تفترق عنها لتذهب إلى جنوبي جزر ألوشيان وخليج ألاسكا، بينما تتجه الإناث إلى سواحل كاليفورنيا فهذا أمر عجيب حقًّا حير العلماء، ولا يزال هذا السلوك من هذا الحيوان لغزًا بعيدًا عن الحل.
وما دمنا بصدد الثدييات البحرية، حيث جبنا معها البحار الشمالية والجنوبية، فيجدر بنا أن نبقى مع الماء قليلًا لنتعرَّف على أحيائه المهاجرة الأخرى؛ تلك هي الأسماك — حديثنا في الفصل التالي.