هجرة الأسماك
تتمتع الأسماك بحرية الحركة في الماء، ولكن الظروف الطبيعية لهذا الماء تختلف من منطقة إلى أخرى، كما تتغير من فصل إلى آخر؛ ولذلك كثيرًا ما تخضع تحركات الأسماك لتلك الظروف الطبيعية، وإن كنا كثيرًا ما نجد الأسماك تُقْدم على الانتقال من منطقة إلى أخرى غير آبهة بالظروف الطبيعية للمنطقة الجديدة، كما هي الحال مع بعض الأسماك التي تعيش في المياه العذبة فتهجرها إلى البحر في فصل التزاوج، أو العكس؛ تعيش في البحر ثم تهجره إلى الأنهار لتضع فيها بيضها، وشتان ما بين ماء البحر وماء النهر، ولكن في تلك الحالتين تتحمل الأسماك المهاجرة هذا التغير في فصل تزاوجها دون أن يكون في هذا خطر على حياتها، بينما نجد أسماكًا أخرى لو نُقِلت من ماء البحر إلى ماء النهر أو العكس، لَانتفخت أو انكمشت مما يودي بحياتها.
وتنتقل الأسماك أيضًا من طبقة معينة من الماء إلى أخرى صعودًا أو هبوطًا بحثًا عن الغذاء أو لوضع البيض، كما يتحرك الكثير منها من المحيط المتسع إلى المياه الضحلة بالقرب من الشواطئ لوضع البيض أيضًا. والبيض في أغلب الأحوال كثير العدد ويفقس عن صغار ضعاف دقاق لا قِبَل لها على مقاومة الموج الشديد في البحر الفسيح، فيحرص آباؤها على أن تتنحى بها مكانًا أكثر أمنًا، وقد يجرف الصغارَ المدُّ دون أن تستطيع هذه أن تردَّ عن نفسها شدةَ سحبه، وكثيرًا ما يكون في ذلك هلاك الكثير منها، وهذا يفسر لنا لماذا تضع معظم الأسماك أعدادًا كبيرة من البيض، تُقدَّر بالملايين للأنثى الواحدة في بعض الأحيان.
وقد كان السلف قديمًا يرقبون التنة من تلٍّ عالٍ على الشاطئ، فتظهر تجمعاتها قادمةً من البحر نحو الشاطئ، وعندئذٍ يخرج إليها الصيادون بشباكهم، ولا تزال بعض أمم البحر الأبيض المتوسط تستخدم نفس الوسيلة مع قليلٍ من التحريف، ذلك أن المراقب يصعد فوق سلم عالٍ يثبت إلى الشاطئ. وقد كان يُظَن قديمًا، كما ردَّد ذلك أرسطو وغيره من الكُتَّاب القدماء، أن التنة تهاجر من المحيط الأطلسي إلى البحر الأبيض المتوسط متتبِّعةً تيار البحر على طول الشاطئ الشمالي لأفريقيا إلى مصر وفلسطين، ومنهما إلى البحر الأسود، وقد كانوا يظنون أن التنة تضع بيضها في بحر أزوف المتصل بشمال ذلك البحر، ولكن الأبحاث الحديثة قد أثبتت أن هذه الهجرة كما صوَّرها القدماء لا تتم على تلك الصورة، ذلك أنه توجد بالبحر الأبيض أطوار كثيرة من هذا السمك، اليافع منه والصغير، اليافع الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى مترين في الطول؛ وكل ذلك في فصل واحد هو الصيف، وقد عُرِف الآن أن التنة تقضي غير هذا الفصل في المياه العميقة بعيدة عن الشواطئ، وعندما يقترب فصل وضع البيض تصعد من الطبقات العميقة إلى سطح الماء، ومن ثَمَّ تتجمع وتسبح أفقيًّا تجاه الشاطئ، وهذه التحركات الأفقية، التي تحدث في جماعات هذا السمك هي التي كانت تدفع بالصيادين إلى مراقبتها للخروج إلى صيدها.
وليس البحر الأبيض المتوسط هو وحده بحر التنة المفضل، وإنما أعظم مصائدها هي خليج قادس الواقع في المحيط الأطلسي إلى الشمال الغربي من جبل طارق، وتهاجر جموع التنة إلى شواطئ هذا الخليج لوضع البيض، وتتوغل التنة أيضًا في البحار الشمالية حتى مياه أيسلنده، ولكن هذه الجموع لا تضع البيض وإنما تتبع جموع الأسماك الأخرى كالسردين والرنكة.
ويتجمع السردين كذلك فيكثر في مياهنا الشمالية كثرةً زائدة، وبخاصة عند رشيد، وتصل هذه التجمعات إلى أشدها بعد فيضان النيل، ذلك أن هذا النهر العظيم يُلقي بطميه الفائض في البحر، وهذا الطمي بما فيه من أملاح معدنية سماد عظيم للدياتوميا وما أشبهها من نباتات مجهرية، هي طعام السردين المفضل، يستخلصها من الماء بمصفاة تتصل بخياشيمه فيزيد حجم السردين ويكتنز كثيرًا من الدهن مع نهاية هذا الفصل؛ أيْ في شهرَيْ أكتوبر ونوفمبر.
أما كيف يعيش سمك سليمان في النهر دون غذاء يجمعه لنفسه من الماء، فالرد على ذلك أنه يعتمد في هذه المرحلة من حياته على المواد التي اختزنها في أنسجة جسمه إبان مُكثه في البحر؛ أيْ قبل أن يصل إلى النهر، وقد تمتد هذه الفترة التي يقضيها في النهر إلى عام، ومع ذلك فإنه يقضي هذا العام كله دون غذاء، ويبدو أن سمك سليمان وهو في النهر يُريد أن يتغذى ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك، فصيامه هذا رغمًا منه، وهو بالنسبة إليه مأساة، ولكن الحقيقة هي أن جسم سمك سليمان عندما يدخل النهر يكون مخزنًا عظيمًا للطاقة وذا قوة كبيرة فائقة، فهو حيث يصعد في النهر من مصبه إلى منبعه ضد تيار الماء ومنحدرات النهر، كثيرًا ما تعترضه سدود من شلالات وغيرها، فيقفز فوقها بقوة عظيمة، حتى إنه لَيبدو من بعيد كأنه سمكٌ طيَّار، وهو ليس كذلك، وإنما هو يعتمد في قفزه على قوة عضلاته.
وإذا كان سمك سليمان ذكرًا فعليه أن يُحارب الذكور الأخرى، كما أن عليه أن يدفع عن الإناث الأعداءَ من الأسماك التي تهاجمها، ثم إنه إذا ما وصل إلى منبع النهر فعليه أن يُعِدَّ مكانًا أمينًا للأنثى كي تضع فيه البيض، وبعد أن تضعه هذه يفرغ عليه سائله المنوي، وعليه أن يرعى البيض مع الأنثى حتى يفقس عن الصغار.
وبعد أن ينتهي سمك سليمان الذكر من مهمته الشاقة المتعددة الواجبات يكون التعب بل الإرهاق قد أخذ منه كل مأخذ، وبخاصة أنه كان طيلة هذه المدة صائمًا عن الطعام، فيترك نفسه منهَكًا لتيار الماء فيجرفه هذا منحدرًا به إلى مصب النهر، متقدِّمًا بذيله متأخرًا برأسه، ويقذف به الماء إلى البحر، وفي أغلب الأحوال لا يصل إلى البحر سالمًا، وإنما تنتهي الرحلة بموته، وإن كانت بعض ذكور من سمك سليمان قد شُوهِدت تقوم بالرحلة بين البحر والنهر مرتين أو ثلاث مرات. وقد يُدهَش القارئ لهذا التحديد، إذ كيف يتأتَّى لنا أن نعرف عدد هذه المرات؟ والواقع أن أمر هذا ميسور من فحص القشور التي تُغطِّي جسم السمك، فعلى كل قشرة توجد خطوط دائرية تُسمَّى بخطوط النمو كأنها الحلقات السنوية الموجودة في خشب الأشجار المُعمرة، فهي تتكوَّن مع تقدُّم عمر السمكة، ذلك أن المواد الجديدة تُضاف إلى القشرة حول الحافة فتبدو كالحلقة وتزداد الحلقات قِدَمًا مع الزمن، ويمكن من عدِّ هذه الحلقات تقديرُ عمر السمكة.
والغالب أن سمك سليمان يموت بعد رحلته الأولى إلى النهر فلا يعود إلى البحر، وبخاصة إذا كان النهر الذي يدخل إليه من البحر طويلًا، كما هي الحال مع أنهار أمريكا الشمالية التي يصل طول بعضها إلى ألف ميل يقطعها سمك سليمان ويقفز فوق حواجزها الكثيرة حتى يصل إلى منابعها.
وتُشير الأمثلة التي ضربناها حتى الآن إلى أهمية وضع البيض في مكان أمين هادئ، فتهاجر الأسماك من المياه العميقة إلى المياه الضحلة، ويغالي سمك سليمان في هذا فيصل إلى منابع الأنهار حيث الهدوء المطلق، للبُعْد بصغاره عن هِياج البحر وثورته ضمانًا لها من الهلاك في المحيط المُتسع الفسيح، ولكن توجد أسماك تضع بيضها أينما كانت، وهذه تتغلب على خطورة المكان بوضع كميات هائلة جدًّا من البيض الصغير الحجم، غير أن لدينا من الأسماك ما يسلك مسلكًا آخر جد مختلف هو على النقيض مما سمعنا به، فهذه الأسماك تنتقل من النهر الآمِن الوادع نسبيًّا إلى عُرْض المحيط المتلاطم الأمواج لتضع بيضها فيه، أو بالأحرى لتلقي بيضها فيه إلقاءً وتتركه لرحمة تلك الأمواج تفعل به ما تشاء، ومن أشهر الأمثلة لهذا النوع من الهجرة، أيْ من النهر إلى البحر، ثعبان السمك.
ثعبان السمك، وهو من أسماك النيل المشهورة ويكون طعامًا شعبيًّا يشتهيه كثير من الناس، سمك شاذ له تاريخ حياة عجيبة حيَّرت العلماء سنين طويلة امتدت إلى قرون، فهو يصل إلى نضجه الجنسي في فترة تتراوح بين عشر سنين إلى أربع عشرة سنة (في النهر، مضافًا إليها ثلاث سنوات أخرى في البحر)، بينما لا يقتضي هذا النضج التناسلي من كثير من الأسماك سوى عام أو ثلاثة أعوام على الأكثر.
في عام ١٨٩٣ عثر اثنان من علماء الأسماك الإيطاليين على عدد كبير من اللبتوسفالس في خليج مسينا، ولكن لم يعثر أحد حتى ذلك العام على أي منها خارج البحر الأبيض المتوسط، وفي عام ١٩٠٤ تمكَّن الدكتور يوهانس شميدت من العثور على لبتوسفالس عند شواطئ جزر فارو الواقعة بين أيسلنده وأسكتلنده، وكان طوله سبعة سنتيمترات ونصفًا، وكان يُعرف لدى المشتغلين في المعامل العلمية بأنه يرقة ثعبان السمك، ومنذ ذلك العام بدأ البحث الجدي عن هذه اليرقة، فطلب من السفن التجارية وغيرها المعاونة في هذا البحث، فكانت كل سفينة تشد إليها شبكة خاصة تجمع بها من الماء صغار الحيوانات، ذلك أن لهذه الشبكة شكلًا خاصًّا، فهي مخروطية الشكل ضيقة العيون وتنتهي بعلبة جدرانها من القماش، وكانت تجمع العينات من كل مكان في المحيط ومن أعماق مختلفة، وقد دلَّت المشاهدات الأولى؛ أي في فحص العينات التي جمعتها السفن التجارية، على أن عينات اللبتوسفالس كانت تتناقص في الحجم كلما اتجهت السفن غربًا، ولكنها كانت تزيد في العدد كلما كان اتجاه السفن عكس ذلك؛ أي شرقًا؛ وعلى ذلك توغلت السفن في بحثها ناحية الغرب حتى وصلت إلى جزر برمودا، وقد دلت العينات التي جُمِعت من تلك المنطقة على وجود عينتين اثنتين من اللبتوسفالس، عينة من يرقات ثعبان السمك الأوروبي، وعينة أخرى من يرقات ثعبان السمك الأمريكي، ولكن النوعين لا يجتمعان أبدًا، ذلك أن يرقات ثعبان السمك الأمريكي كانت توجد في المنطقة الواقعة بين الأرض الرئيسية (أي أمريكا) وجُزر الهند الغربية لا شرقها أبدًا.
وبمقدم الربيع، تتجمع ثعابين السمك الأوروبية والأمريكية اليافعة في أعداد لا حصر لها، ويستمر هذا التجمع حتى نهاية الصيف، في المياه العميقة للمحيط الأطلسي، ويغلب على الظن أن كل هذه الجموع العديدة من الثعابين تهلك في تلك المياه، ولكن بعد أن تكون قد حلَّت مكانها الملايين التي لا حصر لها من اليرقات (اللبتوسفالس).
أما اليرقات الأمريكية فتتجه غربًا إلى أمريكا فتصل إليها في حوالي عام، ولكن اليرقات الأوروبية تتجه شرقًا، وهي تسبح في البداية قريبًا من قاع المحيط، ثم تصعد تدريجيًّا إلى أعلى مع تقدم الشهور، وبالطبع تموت منها نسبة كبيرة، خلال ثلاث سنوات طويلة تصل في نهايتها إلى شواطئ أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وهي تتغذى في بداية الأمر من الكائنات الدقيقة فتهاجمها من كل اتجاه، كما أنها هي بدورها تكون هدفًا لأعداء كثيرين، منها الأسماك ومنها الطيور البحرية الكثيرة التي تكون على دراية بتجمعاتها.
وسرعان ما يتغير شكل اليرقة الورقي إلى الشكل الأسطواني، ويتغير الجسم المستشف إلى جسم زيتوني أخضر اللون، وتزداد شهيتها للأكل فتهاجم كل ما يصغرها في الحجم، وما إن تصل هذه إلى الأنهار حتى تدخلها فلا ينجو منها نهر واحد.
وما أن يحل بها أول صيف منذ وصولها إلى النهر (أي بعد ثلاث سنوات) حتى تكون قد تحوَّلت إلى ثعابين كبيرة، تهاجم وتأكل وتحطم كل ما يصادفها من حيوان، فقد استطالت أجسامها وتحوَّلت ذيولها إلى أعضاء سباحة، بل وإلى أعضاء تثبيت، تُثبِّت بها نفسها في الطمي لتتقي شدة تيار النهر، كما أنها تتحرك في الماء بتموجات عضلاتها؛ أي حركة ثعبانية، وتستطيع أن تكمن بين الصخور وتطل برءوسها فقط منها لتتلقف أي حيوان تقدر عليه يمر من أمامها.
وكلما نمت ثعابين السمك زادت قدرتها على الحركة، لا في الماء فحسب بل وعلى اليابسة أيضًا، إذ يستخدم ثعبان السمك زعانفه في المشي على اليابسة! فلثعبان السمك القدرة على التجول على الأرض بفضل ما يختزنه من ماء حول خياشيمه، وكذلك لأن جلده عارٍ إلَّا من قشور صغيرة غائرة في أدمة الجلد فهو؛ أي الجلد، يُعين على التنفس كما يذهب في ذلك كثير من العلماء، وهو بالطبع يفضل التجول على الأرض الرطبة التي تكسوها الحشائش المنداة بالماء، لا على الأرض الصلبة الجافة، وتجول ثعبان السمك على الأرض يفسر وجوده في بعض بحيرات سويسرة التي تعلو عن الأرض ببضعة آلاف من الأقدام.
وتعيش الذكور منفصلة عن الإناث في الأنهار؛ والإناث أضخم من الذكور وكثيرًا ما تهاجم الإناث الذكور فتلتهمها، أو العكس على حسب حجم المهاجم، ولكن ثعابين السمك تتواءم وتتحاب عندما تصل إلى نضجها الجنسي، ويتم ذلك في سبع سنين أو أكثر أو أقل، فذلك من المسائل التي لم تعرف بعد على وجه التحديد، وما أن يتم لها نضجها الجنسي حتى تتدافع ناحية البحر، من كل مكان كانت فيه، في نهر أوروبي أو أفريقي، أو بحيرة سويسرية أو غيرها، وهي عندئذ تكون قد بلغت عنفوانها قوة وبدنًا واكتنازًا بالشحم، ويتغير لونها من الزيتوني الأخضر إلى الفضي فتعرف عندئذ بالثعابين الفضية، والناس على دراية بهجرتها فيتلقفونها بكل الوسائل، بالشباك والسنارة وما أشبه، وما تنطلق ثعابين السمك إلى البحر حتى تتنبه إليها ذئاب البحر الكبيرة كالقروش والقوابع وغيرها، فهذه لم تُعرها التفاتًا إبان طفولتها؛ أي عندما كانت يرقات صغيرة قادمة من الغرب إلى الشرق، أما وهي يافعة يانعة فكلها إغراء.
وبالرغم من تلك الأعداء مجتمعة، الإنسان ووحوش السمك فإن ثعابين السمك لم تقل أبدًا عن ذي قبل، بل هي باقية تكون مددًا من الطعام للإنسان منذ أن عرفها، وذلك بفضل ما تتمتع به من ملاءمتها للطبيعة وقدرتها على التكاثر، فهي تعيش في البحر وتتعرض لشروره وملوحته في طفولتها وتعيش في النهر وتتجول على الأرض وتصعد فوق الجبال وتتحمل الجفاف بأن تدفن نفسها في الطين، في أطوارها اليافعة، كما أنها تضع ملايين البيض، وهذا كله يُفسِّر سر عظمة ثعبان السمك.
ومن الأسماك المعروفة بالهجرة في مياهنا المصرية البوري والطوبار، وهما يسلكان نفس السبيل كما يشبه كل منهما الآخر شبهًا وثيقًا، ويصعب على سكان المدن الداخلية التمييز بينهما، وإن كان هذا ميسورًا لدى سكان المدن الساحلية ولدى الصيادين بطبيعة الحال.
ويعيش البوري والطوبار في البحر الأبيض المتوسط، ويعتبران من أكثر الأسماك عدًّا في المصائد المصرية بعد البلطي، والبوري أكبر حجمًا من الطوبار ويدخل كل منهما البحيرات، المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط، ويعمل رجال المصائد على نقل صغارهما إلى تلك البحيرات، وإلى بحيرة قارون بكافة الوسائل، ذلك أن البوري والطوبار يضعان البيض في البحر في فصل يمتد من شهر مايو حتى نوفمبر، وبعد أن يفقس البيض عن صغار تتجه هذه إلى البحيرات ومصبي النيل. ويكون الصيادون على دراية بخروج الكبار إلى البحر فيتلقفونها بشباكهم، كما أنهم على دراية برجوع الصغار (أو الذريعة) إلى البحيرات والنيل، فيصيدونها بشباك ضيقة العيون لبيعها بالمكيال طعامًا للدجاج، وهذا من أسوأ ما يفعله الصيادون بثروة أسماكهم؛ ولذلك عمدت الحكومة إلى سن القوانين المختلفة لمنع صيد مثل هذه الصغار خاصة، ويراقب رجال المصائد الصيادين في تلك المناطق لمنع هذا الصيد المبني على الجهل والسفه، وبالطبع يحاول رجال المصائد إكثار البوري بتخصيص أحواض كبيرة لتربية الصغار فيها، ثم نقلها إلى البحيرات المصرية المختلفة إبقاءً على هذا السمك الشهي بكثرة في المياه المصرية.
والبوري والطوبار من الأسماك الاجتماعية، فيظهران في مجموعات كبيرة تقدر أحيانًا بعدة مئات لكل مجموعة، وهي تفضل الأماكن العميقة في البركة، وكثيرًا ما تشاهد وهي تقفز فوق الماء إلى علو متر أو يزيد وتحط على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، وتتكرر هذه العملية عدة مرات، ثم ينتهي قفزها بعد أن تكون قد غيرت أمكنتها من قاع البحيرة. وتتغذَّى هذه الأسماك من النباتات؛ ولذلك نجد لها قانصة عضلية قوية تُشبه قانصة الطيور، تطحن بها جدران الخلايا النباتية وجدران النباتات الدقيقة المعروفة بالدياتوميا.
ولو أن هذه الأسماك تُفضِّل المعيشة في البحيرات إلَّا أنها تستطيع أن تتوغل في نهر النيل إلى مسافات بعيدة قد تصل بها إلى أسوان، وإن كان هذا نادرًا، وتشتهر مدن كثيرة من مدن الوجه البحري كالمنصورة بصيد البوري وتمليحه لعمل «الفسيخ».
ومجمل القول بخصوص الهجرة في الأسماك أنه ينبغي التفرقة بين دافع التجول بحثًا عن الغذاء وبين دافع الهجرة، فالهدف من الأول الحصول على شيء «هو الغذاء» بينما هدف الثاني التخلُّص من شيء «هو البيض» والثاني أشد دفعًا للسمك من الأول، حتى إن بعض العلماء يصفونه بأنه مَرضي، فهو يؤثر على كلِّ جزء من الجسم ويصل من القوة درجة أن السمكة تتجاهل كل ما يحيق بها من متاعب ومصاعب ولو كان في ذلك هلاكها، فسمك سليمان عندما يقفز فوق حواجز النهر، وهو في طريقه إلى منبع ذلك النهر، كثيرًا ما يسقط فوقه الصخور فيتهشم رأسه، أو ثعابين السمك، عندما تصل إلى أحجامها العظيمة في النهر، حيث تكون فيها سادة، تخرج إلى البحر مخاطرة وسط أعداء أشداء أقوياء من قروش وقوابع وغيرها، وفي كلتا الحالتين يمتثل السمك ويستجيب لنداء التزاوج ويصحب هذا النداء، وهو تعبير دارج لا تحديد له من الناحية العلمية، تغير داخلي في الدم، وربما في «ضغط الدم»، فكلما زاد «ضغط الدم» كلما زادت الحاجة إلى وسط خارجي مرتفع الضغط، وهو الماء المالح، أي ماء البحر؛ وعلى ذلك عندما يحل فصل التزاوج يرتفع «ضغط الدم» في ثعبان السمك فيندفع إلى البحر اندفاعًا شديدًا، وبالعكس بالنسبة للأسماك التي تدخل النهر من البحر كسمك سليمان فإن «ضغط الدم» فيها يقل فتندفع إلى النهر من البحر.
ولنترك الماء الآن لنتحدث عن الهجرة في الهواء، وإن كنا سوف نعود إليه قليلًا فيما بعد.