هجرة الحشرات
ليس للحشرات في التعبير الدارج تحديد في الأذهان، فكلمة حشرة تُطلق في هذا التعبير على كل حيوان تافه صغير قد يكون ضارًّا أو قد لا يكون، فالعقارب والعناكب والفاش والقراد والديدان وُصِفت أنها حشرات، حتى الثعابين أطلق عليها بعض الأدباء الحشرات، ولكن الحشرات في التحديد العلمي مفصليات ذات ست أرجل؛ أيْ أن أرجلها ستٌّ في العدد لا تنقص ولا تزيد، كم أن هذه الأرجل تتركب كل منها من قطع تتصل مع بعضها اتصالًا مفصليًّا، وعلى أساس هذا التعريف الواضح تخرج كل الحيوانات التي عددناها في هذه الفقرة من رتبة الحشرات، فلها في رتب أخرى مقاعد تتربع عليها.
وللحشرات تطوُّر أو تحوُّر في تاريخ الحياة، فقد يكون هذا التاريخ خِلْوًا من هذا التطور فتفقس البيضة عن حشرة صغيرة تُشبه أبوَيْها تمام الشبه، فلا تتحور وإنما تنمو فقط، ومن أمثلتها السمك الفضي الذي أشرنا إليه؛ أو قد يكون التطور ناقصًا أو غير كامل، إذ تفقس البيضة عن حورية تشبه أبويها كثيرًا ولكنها تختلف عنها في غياب الأجنحة وعدم نضج الأعضاء التناسلية، ثم تُكمِل الحورية تطوُّرَها إلى الحشرة اليافعة، ومن أمثلة هذا النوع الصراصير والجراد والبق وغيرها، وأخيرًا قد يكون التطور كاملًا تفقس فيه البيضة عن يرقة تختلف عن أبويها في الشكل كثيرًا، ثم تتحوَّر هذه إلى عذراء عادةً ما تقضي حياتها داخل شرنقة في سكون فلا تتغذَّى، ثم تتطور في النهاية إلى الحشرة اليافعة، ومن أمثلة هذا النوع الفراش والنمل والنحل والخنافس والذباب والبعوض وغيرها.
ويُعرَف عن أنواع أخرى من النمل، وكذلك عن النمل الأبيض وهو نمل جد مختلف، وكذلك يُعرَف عن النحل، تجوُّلٌ وارتحالٌ يصحبه في بعض الأحيان طيران التزاوج؛ أيْ تطير الملكة ومن خلفها الذكور كلٌّ يسعى للحاق بها لتلقيحها.
يقضي أبو دقيق السلطاني هذا شتاءه في الولايات الجنوبية خاملًا، ثم يصحو مع الربيع ليبدأ رحلته إلى الشمال، وهو يطير بسرعة، وتقف الإناث هنا وهنالك لتضع البيض، ثم تنضم إلى السرب، ويطير السرب أثناء الليل، وكذلك أثناء النهار فوق مساحة كبيرة من الأرض، يُقدَّر عرضها بآلاف الأميال، وتتكون أسراب عديدة، فلا يخلو الجو منها في هذا الفصل، وقد تصادفها أجواء سيئة فتهبط إلى الأرض إذا ما اشتدت عليها الريح؛ لأنها تعرف أن تأثير الريح فوق سطح الأرض أقل منه فوقه، أو قد تعلو إلى طبقة عالية من الجو حتى تختفي عن الأنظار، وهي بين هذه وتلك تقع تحت تأثير الرياح التي قد تقذف بها بعيدًا، تارةً تعبر بها المحيط الأطلسي شرقًا وتصل بها فوق الجزر البريطانية، وإلى أبعد من ذلك أحيانًا، فقد وصل أبو دقيق السلطاني إلى أستراليا وجزر الفلبين، وإلى جزر الرأس الأخضر، وبنت في كلِّ تلك البقاع مستعمرات، ثم إنها تتجمع من جديد لتهاجر إلى الشمال فتصل إلى الملايو وإلى أفريقيا.
وإذا ما أقبل على جموع أبي دقيق السلطاني الخريف، تجمعت هي، أو أبناؤها، لتترك مصايفها في الولايات الشمالية وكندا لتتجه إلى الجنوب، إلى مشاتيها التي تبعد عن مصايفها بعدة آلاف من الأميال.
ويُقدَّر عدد أنواع أبي دقيق والفَرَاش التي تهاجر بمائتين، ومنها ما يستطيع عبور البحار طيرانًا لا دفعًا بالريح، فهناك أنواع تعبر البحر الأبيض المتوسط شمالًا وجنوبًا، وقد شُوهِدت مثل هذه الأنواع تحطُّ على سطح الماء لتستريح عليه كأنها النوارس وجلم الماء وغيرها من طيور الماء التي تتوغل في البحار والمحيطات.
ويبلغ طول الجرادة اليافعة أربعة سنتيمترات ونصفًا، قد تزيد واحدًا، وهي صفراء اللون، تكتسبه بعد نضجها التناسلي، أما قبله فتكون حمراء؛ ولذلك يسهل التمييز بين اليافع وغير اليافع من الجراد الصحراوي باللون.
وتُغِير أسراب الجراد على مصر كثيرًا، آخِرها كان في شتاء ١٩٥٦، فقد مرَّ السرب فوق القاهرة، وكان غير ناضج تناسليًّا؛ ذلك لأن لونه كان أحمر. وقد مرت أسراب أخرى كثيرة بدأت عام ١٩٢٧ وانتهت عام ١٩٣٢، وبلغت ذروتها في عامي ١٩٢٩، ١٩٣٠. وبالطبع أغارت على مصر أسراب عديدة قبل هذه السنوات، في عام ١٩١٥، ثم ١٩٠٥، ثم ١٨٩١ فيما قبلها على قدر ما يعي التاريخ الحديث، ولكن لا بد أن تكون مصر قد قاست منه الكثير على مر العصور، فالجراد كان معروفًا للقدماء المصريين، فهم قد نقشوا صوره على معابدهم، أقدمها ترجع إلى عام ٢٤٠٠ قبل الميلاد على حائط مقبرة مصرية.
ويتزاوج الجراد على مدار السنة، فهو يضع البيض في حفرات تحفرها الأنثى بآلة وضع البيض القوية المتصلة بنهاية جسمها من الخلف، ثم تفرز عليه مادة كالرغوة تتجمد عند تعرضها للهواء لكي تحفظ البيض من العوامل الطبيعية ومن الأعداء. ويفقس البيض بعد فترة تتراوح بين عشرة وسبعين يومًا، على حسب درجتي الحرارة والرطوبة، عن حوريات تكون في البداية ضعيفة صغيرة، ولكنها سرعان ما تتجمع وتتغذَّى وتكبر في الحجم، ويكون لونها في البداية أسود به بقع خضراء مصفرة أو العكس، ثم تنسلخ، أيْ تغيِّر جلدها، فيزيد طولها على سنتيمتر واحد بقليل، ثم تدخل الحوريات بعد ذلك في طور جديد، ذلك أنها تنسلخ مرة أخرى ويزداد طولها إلى حوالي ستة عشر مليمترًا، وتنبت الأجنحة وإن كانت هذه لا تكون ظاهرة كثيرًا فهي غير فعالة في هذه المرحلة.
وتتغذى الحوريات بشراهة فتزداد خطورتها، وفي الطور التالي، أي الرابع، تزيد في الحجم فتصل إلى ستة وعشرين مليمترًا في الذكر، واثنين وثلاثين مليمترًا في الأنثى، وتظهر الأجنحة في هذا الطور بشكلٍ ملموس. وتزداد قدرة الحوريات على التجمع والسير إلى مسافات قد تمتد إلى مئات الأمتار، ثم تنسلخ هذه مرة أخرى.
ومع الانسلاخ الجديد يشتد ضرر الحوريات، وتزداد شراهتها، وفي النهاية تصل الحشرة إلى الطور الكامل عندما تغدو جرادة كبيرة الأجنحة قوية الطيران. وقد تتجمع وتهاجر كما حدث في شتاء ١٩٥٦ عندما أغارت على مصر بأسراب كبيرة العدد، وإن كان خطرها لم يكن شديدًا؛ ذلك لأنها لم تستقر فيها، وإنما اتجهت إلى الشمال الشرقي ناحية فلسطين.
وتمتد مناطق الجراد إلى مساحات واسعة بين شرق أفريقيا وأواسطها وبلاد العرب؛ حيث تعيش في تلك المناطق جموع من الجراد في المظهر الانفرادي، ثم إن الجراد بعد ذلك يتحول إلى المظهر الرحال، ويتجمع تجمعات كبيرة، فتتكوَّن منها أسراب، ينتظم السرب ملايين عديدة من الأفراد، فإذا ما طار السرب حجب الشمس، ذلك أنه يبلغ في الطول من ثلاثين إلى ستين ميلًا وفي العمق نصف ميل أو أكثر بعرض يصل إلى عشرين ميلًا؛ وقد يطير السرب الواحد مسافة طويلة جدًّا، إلى ألف وخمسمائة ميل دون توقف في بعض الأحيان، وقد يكون طيرانه قريبًا من سطح الأرض، وقد يرتفع السرب في طيرانه إلى ارتفاع عظيم، لا يوقفه شيء، لا الرياح ولا الحر، ولو أن الأمطار قد تؤثر عليه إلى حين.
فإذا ما حطَّ السرب في النهاية فوق أرض منزرعة لم يُبقِ فيها عودًا أخضر أو يابسًا إلَّا أكله، فهو مخرب إلى أقصى درجات التخريب ولا يترك الأرض إلا قاعًا صفصفًا، خرابًا يبابًا.
أما لماذا تجمع الجراد، ومن ثم تحرك في تلك الأسراب العجيبة فأمر لا يزال بعيدًا عن التفسير، فهل هو الغذاء ينضب معينه فيسعى الجراد إلى الأرض المنزرعة يسد حاجته من نباتها؟ الواقع أن ذلك ليس هو السبب الحقيقي، فكثيرًا ما يبدأ الجراد التحرك من مكان يكثر فيه النبات ويرتحل ويحط في مكانٍ قفر لا نبات فيه ولا زرع!
وهل يدفع بالجراد إلى الهجرة تغير داخلي فسيولوجي ينادي بالطيران؟ الذي يؤدي إلى أداء وظيفة من وظائف الجسم، ذلك أننا قد عرفنا أن دخول الهواء في القصبات الهوائية وخروجه منها إنما يتم بفضل تحركات عضلات الجسم، وكلما كانت حركة العضلات من انقباض وانبساط كبيرة، كما يحدث أثناء الطيران، كلما زاد دخول الهواء وخروجه من الجسم، وبذلك تتم «تهويته» ويزداد الأكسجين اللازم لعملية الاحتراق، وهذه بدورها تساعد على نمو أعضاء التناسل فيتم في النهاية نضجها؛ ولذلك يتغير لون الجراد من الأحمر إلى الأصفر عقب هذا الطيران؛ ولا يزال كثير من العلماء الحشريين يعتنقون هذا المذهب في تفسير الهجرة، وإن كان الجزم به ليس من الصواب في شيء.
- المرحلة الأولى: هي مرحلة التكاثف، ذلك أن أعداد الجراد تزيد في منطقة محدودة، ويتكوَّن جيلان في تلك المنطقة تحد من انتشارهما أمطار الشتاء الغزيرة.
- المرحلة الثانية: هي مرحلة التجمع، ذلك أن الحوريات تتجمع على أعواد الذرة العويجة التي كثيرًا ما تكون هي النبات المنزرع في المنطقة، فتحميها أعواد الذرة من الرياح، ويكون لدرجة الحرارة تأثير مباشر على الحوريات للانتقال إلى المرحلة الثالثة، فهي عندما تنتقل عند ارتفاع درجة الحرارة حول الظهيرة إلى أماكن أقل حرارة تتجاوز الأفراد في تلك الفترة وإن كانت تتفرق بين أعواد الذرة إذا ما هبطت درجة الحرارة، وتتكرر هذه العملية عدة مرات فتصحو فيها الغريزة الكامنة وتنادي بها إلى التجمهر.
- المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التجمهر، وهي تبدأ مع عادة الفرار من درجة الحرارة العالية يوميًّا، وعندئذٍ لا تفترق وإنما تبدأ زحفها طائرة كأنها لا تلوي على شيء، والواقع أن هذه الغريزة كما يظن كثير من الحشريين، هي التي تدفع بالجراد بعد وصوله إلى تلك المرحلة إلى الطيران كي يستفيد منه الفائدة الفسيولوجية التي أشرنا إليها؛ أي لنضج الأعضاء التناسلية ومِن ثَمَّ التكاثر.
ويحق لنا أن نقف متسائلين: ما دام المظهر الانفرادي قادرًا على التكاثر، وهو فعلًا يتكاثر دون أن يلجأ إلى الطيران، فهل حقيقة أن الهدف من الهجرة عند الجراد النضج التناسلي؟ وما دامت المشاهدات الكثيرة قد دلَّت على أن الجراد كثيرًا ما يبدأ هجرته من مكان كثير النبات والشجر، وكثيرًا ما يحط في مناطق لا زرع فيها ولا نبت، فما الذي حدا به أن يسلك هذا المسلك العجيب الشاذ؟
أغلب الظن أن الدافع لهجرة الجراد سر من أسرار الطبيعة التي تحافظ به على التوازن بين الكائنات الحية التي تحتضنها، ذلك أن تلك الأسراب المهاجرة تتعرض لكلِّ أنواع الهلاك، فمن طيور تخصصت في اصطيادها إلى حيوانات ثديية تقضي عليها، إلى رياح تعصف بها، حتى الإنسان يتبعها فيبيد منها الملايين بكافة وسائله القاتلة، حتى الطيارات يستخدمها الآن في مكافحة الجراد. وهل مثل الجراد مثل ذلك الحيوان الثديي «اللمنج» الذي أشرنا إليه من قبل [الفصل الأول: الهجرة في الثدييات – الثدييات البرية] الذي يهاجر في جموع هائلة ينتهي بها المطاف في النهاية إلى البحر فتموت غرقًا؛ أي أن هجرته انتحارية.