فلما كانت الليلة ٧٢٣
قالت: بلغني إيها الملك السعيد، أن العجوز قد أخذت ما كتبته حياة النفوس وسارت إلى أن أعطت الغلام إياه وهو في دكانه، وقالت له: اقرأ جوابك واعلم أنها لما قرأت الكتاب اغتاظت غيظًا عظيمًا، وما زلت ألاطفها بالحديث حتى ردت لك الجواب. فأخذ الكتاب بفرحة وقرأه وفهم معناه، فلما فرغ من قراءته بكى بكاءً شديدًا، فتألم قلب العجوز وقالت: يا ولدي، لا أبكى الله لك عينا، ولا أحزن لك قلبًا، فأي شيء ألطف من هذا في جواب كتابك حين فعلتَ هذه الفعال؟ فقال: يا أمي، وماذا أفعل من الحيل ألطف من هذا، وهي ترسل تهدِّدني بالقتل وبالصلب، وتنهاني عن مكاتبتها؟ وإني والله أرى موتي خيرًا من حياتي، ولكن أريد من فضلك أن تأخذي هذه الورقة وتوصليها إليها. فقالت له: اكتب وعلي رد الجواب، والله لأخاطرن معك بروحي في حصول مرادك، ولو هلكت في رضاك. فشكرها وقبَّلَ يديها وكتب إليها هذه الأبيات:
ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها صرتين فيهما مائتا دينار، فامتنعت من أخذهما، فحلف عليها، فأخذتهما وقالت: لا بد أنني أبلغك مناك على رغم أنف عداك. وسارت حتى دخلت على حياة النفوس وأعطتها الكتاب، فقالت لها: ما هذا يا دايتي؟ قد صرنا في مراسلة وأنت رائحة جائية، إني أخاف أن ينكشف خبرنا فنُفضَح. قالت العجوز: وكيف ذلك يا سيدتي؟ ومَن يقدر أن يتكلم بهذا الكلام؟ فأخذت الكتاب منها وقرأته وفهمت معناه ودقت يدًا على يدٍ، وقالت: قد بُلِينا بهذا، ما عرفنا من أين جاءنا هذا الغلام! قالت العجوز: يا سيدتي، بالله عليك أن تكتبي له كتابًا، ولكن أغلِظِي عليه القول وقولي له: إنْ أرسلتَ كتابًا بعد ذلك ضربتُ عنقك. فقالت لها: يا دايتي، أنا أعرف أن هذا ما ينتهي على هذه الصورة والأليق عدم المكاتبة، وإن لم يرجع هذا الكلب بالتهديد السابق ضربتُ عنقه. قالت لها العجوز: اكتبي له كتابًا وعرِّفيه بهذا الحال. فدعت بنت الملك بدواة وقرطاس وكتبت له تهدِّده بهذه الأبيات:
ثم طوت الكتاب وأعطت العجوز إياه وهي في حال عجيب من أجل هذا الكلام، فأخذته العجوز وسارت حتى وصلت به إلى الغلام فناولته إياه، فأخذه منها وقرأه وأطرق برأسه إلى الأرض يخط بإصبعه ولم يتكلم، فقالت له العجوز: يا ولدي، ما لي أراك لا تبدي خطابًا ولا ترد جوابا؟ قال لها: يا أمي، أي شيء أقول وهي تهدِّدني وما تزداد إلا قسوةً ونفورًا؟ قالت: اكتب لها كتابًا بما تريد وأنا أدافع عنك ولا يكون قلبك إلا طيبًا، فلا بد أن أجمع بينكما. فشكر فضلها وقبَّلَ يديها وكتب إليها هذه الأبيات:
ثم طوى الكتاب وأعطى العجوز إياه وأعطاها ثلاثمائة وقال لها: هذه غسيل يدك. فشكرته وقبَّلت يديه وسارت حتى دخلت على بنت الملك وأعطتها الكتاب، فأخذته وقرأته إلى آخِره ورمته من يدها ونهضت قائمة على رجليها، وتمشَّتْ على قبقاب من الذهب مرصَّع بالدر والجوهر حتى وصلت إلى قصر أبيها وعرق الغضب قائم بين عينيها، وما جسر أحد أن يسأل عن حالها، فلما وصلت إلى القصر سألت عن الملك والدها، فقال لها الجواري والمحاظي: يا سيدتي، إنه قد خرج إلى الصيد والقنص. فرجعت وهي مثل الأسد الضاري ولم تكلم أحدًا إلا بعد ثلاث ساعات، وقد راق وجهها وسكن غيظها، فلما رأت العجوز أنها زال عنها ما عندها من الكدر والغيظ، تقدمت إليها وقبَّلَتِ الأرض بين يديها وقالت لها: يا سيدتي، أين كانت هذه الخطوات الشريفة؟ قالت لها الملكة: إلى قصر أبي. قالت: يا سيدتي، أَمَا كان أحد يقضي حاجتك؟ قالت: أنا ما رحت إلا لأجل أن أعلمه بما جرى لي من كلب التجار، وأسلط عليه أبي فيمسكه ويمسك جميع مَن كان في سوقه ويصلبهم على دكاكينهم، ولا يدع أحدًا من التجار الغرباء يقيم في مدينتنا. فقالت لها العجوز: وهل ما ذهبت إلى أبيك يا سيدتي إلا لهذا السبب؟ قالت لها: نعم، إلا أني ما وجدته حاضرًا، بل رأيته غائبًا في الصيد والقنص، وأنا منتظرة رجوعه. قالت العجوز: أعوذ بالله السميع العليم يا سيدتي، الحمد لله أنت أعقل الناس، وكيف تعلمين الملك بهذا الكلام الهذيان الذي لا ينبغي لأحد إفشاؤه؟ قالت: ولِمَ ذلك؟ قالت العجوز: افرضي أنك لقيت الملك في قصره وعرَّفتِه بهذا الحديث، وأرسل خلف التجار وأمر بشنقهم على دكاكينهم ورآهم الناس، أَلَا يسألون عن ذلك ويقولون: ما سبب شنقهم؟ فيقال لهم في الجواب: إنهم أرسلوا ليفسدوا بنت الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.