فلما كانت الليلة ٧٣٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما فرغ من شعره ضمته بنت الملك إلى صدرها وقبَّلت فاه وما بين عينيه، فعادت إليه روحه وصار يشكو إليها ما قاساه من شدة العشق وجور الغرام، وكثرة الشوق والهيام، وما جرى له من قسوة قلبها؛ فلما سمعت كلامه قبَّلَتْ يدَيْه وقدمَيْه، وكشفت رأسها فأظلم الديجور وأشرقت فيه البدور، وقالت: يا حبيبي وغاية مرادي، لا كان يوم الصدود ولا جعله الله بيننا يعود. فعندها تعانقا وتباكيا وأنشدت بنت الملك هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها، فاض عليها الغرام، وهامت وبكت بدموع غزار سجام، فأحرقت قلب الغلام فتغنَّى في هواها وهام، وتقدم إليها وقبَّل يديها وبكى بكاءً شديدًا، ولم يزالا في عتاب ومنادمات وأشعار إلى أن أذَّن العصر، ولم يكن بينهما غير ذلك، فهَمَّا بالانصراف، فقالت له بنت الملك: يا نور عيني وحشاشة كبدي، هذا وقت الفراق فمتى يكون التلاق؟ قال الغلام وقد أصابه من كلامها سهام: والله لا أحبُّ ذِكْرَ الفراق. ثم إنها خرجت من القصر، فالتفت إليها فوجدها تئنُّ أنينًا يذيب الحجر، وتبكي بدموع كالمطر، فغرق من العشق في بحر الهلكات، وأنشد هذه الأبيات:
فلما سمعت ذلك بنت الملك في وصفها، رجعت إليه واعتنقته بقلب حريق أضرم ناره الفراق، ولا يُطْفِئه غير التقبيل والعناق، وقالت: إن صاحب المثل السائر يقول: الصبر على الحبيب ولا فقده. ولا بد أن أدبِّر حيلةً في الاجتماع. ثم ودَّعَتْه وراحت وهي لا تدري أين تضع قدمها من شدة عشقها. ولم تزل سائرة حتى ألقت نفسها في مقصورتها، وأما الغلام فإنه قد زاد به الشوق والهيام، وحُرِم لذيذ المنام. ثم إن الملكة لم تذق طعامًا، وفرغ صبرها وضعف جلدها، فلما أصبح الصباح طلبت الداية، فلما حضرت بين يديها وجدت حالها تغيَّر، فقالت لها: لا تسألي عمَّا أنا فيه؛ لأن جميع ما أنا فيه من يدك. ثم قالت لها: أين محبوب قلبي؟ قالت لها العجوز: يا سيدتي، ومتى فارقك؟ هل بعد عنك غير هذه الليلة؟ قالت لها: وهل يمكنني أن أصبر عنه ساعة واحدة؟ قومي تحيَّلِي واجمعي بيني وبينه بسرعةٍ، فإن روحي كادت أن تخرج. قالت لها الداية: طوِّلي روحك يا سيدتي حتى أدبِّر لكما أمرًا لطيفًا لا يشعر به أحد. فقالت لها: والله العظيم إذا لم تأتِ به في هذا اليوم لَأقولن للملك وأخبره أنكِ أفسدتِ حالي، فيبر عنقك. قالت العجوز: سألتك بالله أن تصبري عليَّ، فإن هذا الأمر خطر. ولم تزل تخضع لها حتى صبَّرتها ثلاثة أيام، وبعد ذلك قالت لها: يا دايتي، إن الثلاثة أيام مقوَّمة عليَّ بثلاث سنين، فإن فات اليوم الرابع ولم تحضريه عندي سعيتُ في قتلك. فخرجت الداية من عندها وتوجهت إلى منزلها.
فلما كان صبح اليوم الرابع دعت بمواشط البلد، وطلبت منهم نقشًا مليحًا من أجل تزويق بنتٍ بِكْرٍ وتنقيشها وتكتيبها، فأحضرن إليها مطلوبها من أحسن ما يكون، ثم دعت بالغلام فحضر، وفتحت صندوقها وأخرجت منه بقجة فيها حلة من ثياب النساء تساوي خمسة آلاف دينار بعصابة مطرزة بأنواع الجواهر، وقالت: يا ولدي، أتحب أن تجتمع بحياة النفوس؟ قال لها: نعم. فأخرجت محفة وحفَّفَتْه بها وكحَّلته، ثم أعرته وركبت النقش على يديه من ظفره إلى كتفه، ومن مشط رجليه إلى فخذيه، وكتبت سائر جسده، فصار كأنه ورد أحمر على صفايح المرمر، ثم بعد مدة لطيفة غسلته ونظفته وأخرجت له قميصًا ولباسًا، ثم ألبسته تلك الحلة الكسروية وعصبته وقنَّعته وعلَّمته كيف يمشي، وقالت له: قدِّمِ الشمال وأخِّرِ اليمين. ففعل ما أمرته به ومشى قدامها، فصار كأنه حورية خرجت من الجنة، ثم قالت له: قوِّ قلبك فإنك قادم على قصر ملك، ولا بد أن يكون على باب القصر جنود وخدم، ومتى فزعت منهم أو حصل عندك وهم، تفرَّسوا فيك وعرفوك، فيحصل لنا الأذى وتروح أرواحنا، فإن لم يكن عندك مقدرة على ذلك فأَعْلِمْني. قال: إن هذا الأمر لا يروِّعني، فطيبي نفسًا وقرِّي عينًا. فخرجت تمشي أمامه إلى أن وصلا إلى باب القصر وهو ملآن بالخدام، والتفتت العجوز إليه لتنظر هل حصل عنده وهم أم لا؟ فوجدته على حاله ولم يتغيَّر، فلما وصلت العجوز نظر إليها رئيس الخدام فعرفها، ووجد خلفها جارية تتحيَّر العقول في وصفها، فقال في نفسه: أما العجوز فهي الداية، وأما التي خلفها فما في أرضنا مَن يشبه شكلها ولا يقارب حُسْنها ولا ظرفها، إلا إن كانت الملكة حياة النفوس، ولكنها محجوبة لا تخرج أبدًا، فيا ليت شعري كيف خرجت في الطريق؟ ويا ترى هل خرجت بإذن الملك أم بغير إذنه؟ فنهض قائمًا على قدميه حتى يكشف خبرها فتبعه نحو ثلاثين خادمًا، فلما نظرتهم العجوز طار عقلها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد راحت أرواحنا في هذه الساعة بلا شكٍّ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.