فلما كانت الليلة ٨٢٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز ذات الدواهي لما قالت: إذا كانت الملكة نور الهدى تفعل هذه الفعال مع أختها، فكيف يكون حال الغريب معها إذا غضبَتْ عليه؟ ثم قالت: أقسمتُ عليك أيها الشيطان بالحنَّان المنَّان، العظيم الشأن القوي السلطان، خالق الإنس والجان، وبالنقش الذي على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، أن تكلِّمَني وتُجِيبَني. فأجابها حسن وقال لها: ما أنا شيطان، أنا حسن الولهان الهائم ثم الحيران. ثم قلع الطاقية من فوق رأسه فظهر للعجوز وعرفته، فأخذته واختلَتْ به وقالت له: أي شيء حصل لك في عقلك حتى عبرت إلى هنا؟ رُحِ اختَفِ، فإن هذه الفاجرة صنعَتْ بزوجتك ما صنعَتْ من العذاب وهي أختها، فكيف إذا وقعت بك؟ ثم حكَتْ له جميعَ ما وقع لزوجته، وما هي فيه من الضيق والعقوبة والعذاب، وكذلك حكَتْ له ما وقع لها من العذاب، ثم قالت له: إن الملكة ندمت حيث أطلقَتْكَ، وقد أرسلَتْ إليك مَن يحضرك لها وتعطيه من الذهب قنطارًا، وتجلُّه في رتبتي عندها، وحلفَتْ إنْ أرجَعُوكَ قتلَتْكَ وتقتل زوجتك وولدَيْك. ثم إن العجوز بكَتْ وأظهرَتْ لحسن ما فعلَتْه الملكة بها، فبكى حسن وقال: يا سيدتي، كيف الخلاص من هذه الديار ومن هذه الملكة الظالمة؟ وما الحيلة التي توصِّلني إلى أن أخلِّص زوجتي وولدَيَّ، ثم أرجع بهم إلى بلادي؟ فقالت له العجوز: ويلكَ انجُ بنفسك. فقال: لا بد لي من خلاصها وخلاص ولادَيَّ منها قهرًا عنها. فقالت له العجوز: وكيف تخلِّصهم قهرًا عنها؟ رُحْ واختَفِ يا ولدي حتى يأذن الله تعالى. ثم إن حسنًا أراها القضيبَ النحاس والطاقية، فلما رأتهما العجوز فرحَتْ بهما فرحًا شديدًا وقالت له: سبحان مَن يُحيِي العظام وهي رميم، والله يا ولدي ما كنتَ أنت وزوجتك إلا من الهالكين، والآن يا ولدي قد نجوتَ أنت وزوجتك وولداك؛ لأني أعرف القضيب وأعرف صاحبه، فإنه كان شيخي الذي علَّمَني السحر، وكان ساحرًا عظيمًا مكث مائةً وخمسًا وثلاثين سنة حتى أتقَنَ هذا القضيب وهذه الطاقية، فلما انتهى من إتقانهما أدرَكَه الموت الذي لا بد منه، وسمعْتُه يقول لولدَيْه: يا ولديَّ، هذان ما هما من نصيبكما، وإنما يأتي شخص غريب الديار يأخذهما منكما قهرًا ولا تعرفان كيف يأخذهما. فقالَا: يا أبانا، عرِّفنا كيف يصل إلى أخذهما؟ فقال: لا أعرف ذلك. فكيف وصلتَ يا ولدي لأخذهما؟ فحكى لها كيف أخذهما من الولدَيْن. فلما حكى لها فرحَتْ بذلك وقالت له: يا ولدي، كما ملكت زوجتك وولديك، اسمعْ مني ما أقول لك عليه؛ أنا ما بقي لي عند هذه الفاجرة إقامة بعدما تجاسرَتْ عليَّ ونكَّلَتْني، وأنا راحلة من عندها إلى مغارة السَّحَرة لأقيم عندهم وأعيش معهم إلى أن أموت، وأنت يا ولدي البس الطاقية وخُذِ القضيبَ في يدك وادخل على زوجتك وولدَيْك في المكان الذي هم فيه، واضرب الأرضَ بالقضيب وقُلْ: يا خدَّامَ هذه الأسماءِ. تطلع إليك خدَّامه، فإن طلع لك أحد من رءوس القبائل فَأْمُره بما تريد وتختار. ثم إنه ودَّعها وخرج ولبس الطاقية وأخذ القضيب معه ودخل المكان الذي فيه زوجته، فرآها في حالة العدم مصلوبة على السلم، وشعرها مربوط فيه، وهي باكية العين حزينة القلب في أسوأ حالٍ، لا تدري طريقةً لخلاصها، وولداها تحت السلم يلعبان، وهي تنظرهما وتبكي عليهما وعلى نفسها بسببِ ما جرى لها ممَّا أصابها، وهي تقاسي من العذاب والضرب المؤلم أشد النكال، فلما رآها في أسوأ الحالات سمعها تنشد هذه الأبيات:
ثم إن حسنًا لما رأى ما هي فيه من العذاب والذلِّ والهوان، بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق ورأى ولدَيْه وهما يلعبان وقد غُشِيَ على أمهما من كثرة التألُّمِ، كشف الطاقية عن رأسه فصاحا: يا أبانا. فغطَّى رأسه، واستفاقت أمهما من غشيتها على صياحهما، فلم تنظر زوجها، وإنما نظرَتْ ولدَيْها وهما يبكيان ويصيحان: يا أبانا. فبَكَتْ لما سمعتهما يذكران أباهما ويبكيان، وانكسر قلبها وتقطَّعَتْ أحشاؤها، ونادَتْ من كبدٍ قد تصدَّعَ وقلبٍ مُوجَع: أين أنتما وأين أبوكما؟ ثم تذكَّرَتْ أوقاتَ اجتماع شملهم، وتذكَّرَتْ ما جرى عليها بعد فراقه، فبكَتْ بكاءً شديدًا حتى جرحت دموعُها خدَّيْها وبلَّتِ الأرضَ، وصارت خدودها غريقة في دموعها من كثرة البكاء، وليس لها يد مطلوقة حتى تمسح دموعَها بها عن خدودها، وشبع الذباب من جلدها، ولم تجد لها مساعدًا غير البكاء والتسلِّي بإنشاد الأشعار، فأنشدت هذه الأبيات:
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.