فلما كانت الليلة ٨٢٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما دخل على زوجته رأى ولدَيْه وسمعها تنشد الأبيات التي ذكرناها، وقد التفتَتْ يمينًا وشمالًا لترى سببَ صياح ولدَيْها وندائهما لأبيهما، فلم تَرَ أحدًا، ولما لم تَرَ أحدًا تعجَّبَتْ من ذِكْر ولدَيْها لأبيهما في هذا الوقت. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر حسن فإنه لما سمع شِعْرها بكى حتى غُشِي عليه، وجرَتْ دموعه على خدَّيْه مثل المطر، ودَنَا من الولدَيْن وكشف الطاقية، فلما رأياه عرفاه وصاحا بقولهما: يا أبانا. فبكَتْ أمهما حين سمعتهما يذكران أباهما وقالت: لا حيلةَ في قَدَر الله. وقالت في نفسها: يا للعجب! ما سبب ذِكْرهما لأبيهما في هذا الوقت وندائهما له؟ ثم بكَتْ وأنشدت هذه الأبيات:
فلم يُطِقْ حسنٌ الصبرَ دون أن يكشف الطاقية عن رأسه، فنظرَتْه زوجته، فلما عرفَتْه زعقت زعقة أزعجَتْ جميع مَن في القصر، ثم قالت له: كيف وصلتَ إلى هنا؟ هل من السماء نزلتَ أو من الأرض طلعتَ؟ ثم تغرغرت عيونها بالدموع، فبكى حسن، فقالت له: يا رجل، ما هذا وقت بكاء ولا وقت عتاب، قد نفذ القضاء وعمي البصر وجرى القلم بما حكم الله في القدم، فبالله عليك، من أي مكانٍ جئتَ رُحْ واختَفِ لئلا ينظرك أحدٌ فيُعلِم أختي بذلك فتذبحني وتذبحك. فقال لها حسن: يا سيدتي وسيدة كل ملكة، أنا خاطرتُ بروحي وجئتُ إلى هنا، فإما أن أموت، وإما أن أخلِّصَكِ من الذي أنتِ فيه وأسافر أنا وأنتِ وولدَيَّ إلى بلادي على رغم أنف هذه الفاجرة أختك. فلما سمعت كلامه تبسَّمَتْ وضحكَتْ وصارت تحرِّك رأسها زمانًا طويلًا وقالت له: هيهات يا روحي أن يخلِّصني أحد مما أنا فيه إلا الله تعالى، ففُزْ بنفسك وارحلْ ولا تَرْمِ روحك في الهلاك، فإن لها عسكرًا جرارًا ما قدر أحد أن يقابله، وهَبْ أنك أخذتَني وخرجتَ، فكيف تصل إلى بلادك وتخلص من هذه الجزائر وصعوبة هذه الأماكن؟ وقد رأيت في الطريق الذي نظرته من العجائب والغرائب والأهوال والشدائد ما لا يخلص منه أحد من الجن المتمردة؛ فَرُحْ من قريب ولا تزدني همًّا على همي، ولا غمًّا على غمي، ولا تدَّعِي أنك تخلِّصني من هذا، فمَن يوصلني إلى بلادك في هذه الأودية والأرض المعطشة والأماكن المهلكة؟ فقال لها حسن: وحياتك يا نور عيني ما أخرج من هنا ولا أسافر إلا بك. فقالت له: يا رجل، كيف تقدر على هذا الأمر؟ أي شيء جنسك؟ فإنك لا تعرف الذي تقوله، ولو كنتَ تحكم على جان وعفاريت وسَحَرة وأرهاط وأعوان، فإنه لا يقدر أحد أن يتخلَّص من هذه الأماكن؛ ففُزْ أنت بنفسك سالمًا، وخلني لعل الله يُحدِث بعد الأمور أمورًا. فقال لها حسن: يا سيدة الملاح، أنا ما جئتُ إلا لأخلِّصكِ بهذا القضيب وبهذه الطاقية.
ثم حكى لها حكايته مع الولدين، فبينما هو في الحديث وإذا بالملكة دخلَتْ عليهما فسمعت حديثهما، فلما رأى الملكة لبس الطاقية، فقالت لأختها: يا فاجرة، مَن الذي كنتِ تتحدثين معه؟ فقالت لها: ومَن عندي يكلِّمني غير هذين الطفلين؟ فأخذت السوط وصارت تضربها به وحسن واقف ينظر، ولم تَزَلْ تضربها حتى غُشِيَ عليها، ثم أمرت بنقلها من ذلك المحل إلى محل آخَر، فحلوها وخرجوا بها إلى محل غيره، وخرج حسن معهم إلى المكان الذي أوصلوها إليه، ثم ألقوها مغشيًّا عليها ووقفوا ينظرون إليها، فلما أفاقت من غشيتها أنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها خرج من عندها الجواري، فعند ذلك قلع حسن الطاقية فقالَتْ له زوجته: انظر يا رجل ما حلَّ بي، هذا كله إلا لكوني عصيتُكَ وخالفتُ أمرك وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا رجل لا تؤاخذني بذنبي، واعلم أن المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتى تفارقه، وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممَّا وقع مني، وإنْ جمَعَ الله شملنا لا أعصي لك أمرًا بعد ذلك أبدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.