فلما كانت الليلة ٨٣١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما اجتمع بالبنات حكى لأخته جميع ما قاساه وقال لها: أنا ما أنسى الذي فعلتِه معي من أول الزمان إلى آخِره. فالتفتَتْ أخته إلى زوجته منار السنا وعانقَتْها وضمَّتْ ولدَيْها إلى صدرها، ثم قالت لها: يا بنت الملك الأكبر، أَمَا في قلبك رحمة حتى فرَّقْتِ بينه وبين ولدَيْه وحرقتِ قلبه عليهما؟ فهل كنتِ تريدين بهذا الفعل أن يموت؟ فضحكت وقالت: بهذا حكَمَ الله سبحانه وتعالى، ومَن خادَعَ الناس خدَعَه الله. ثم أحضروا شيئًا من الأكل والشرب وأكلوا جميعًا وشربوا وانشرحوا، ثم إنه أقام عندهم عشرة أيام في أكل وشرب وفرح وسرور، ثم بعد العشرة أيام تجهَّزَ حسن للسفر، فقامت أخته وجهَّزَتْ له من المال والتحف ما يعجز عنه الوصف، ثم ضمَّتْه إلى صدرها لأجل الوداع وعانقَتْه، فأشار إليها حسن وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن حسنًا أعطى الشيخ عبد القدوس القضيب، ففرح به فرحًا شديدًا وشكر حسنًا على ذلك، وبعد أن أخذه منه ركب ورجع إلى محله، ثم ركب حسن هو وزوجته وأولاده من قصر البنات، ثم خرجوا معه يودِّعْنَه، وبعد ذلك رجعْنَ، ثم توجَّهَ حسن إلى بلاده فسار في البر الأقفر مدة شهرين وعشرة أيام حتى وصل إلى مدينة بغداد دار السلام، فجاء إلى داره من باب السر الذي يفتح إلى جهة الصحراء والبرية، وطَرَقَ الباب، وكانت والدته من طول غيبته قد هجرت المنام ولزمت الحزن والبكاء والعويل حتى مرضت وصارت لا تأكل طعامًا ولا تلتذُّ بمنام، بل تبكي في الليل والنهار، ولا تفتر عن ذِكْر ولدها وقد يئست من رجوعه إليها، فلما وقف على الباب وسمعها تبكي وتنشد هذه الأبيات:
فلما فرغت من شِعْرها سمعت ولدها حسنًا ينادي على الباب: يا أماه، إن الأيام قد سمحت بجمع الشمل. فلما سمعت كلامه عرفته، فجاءت إلى الباب وهي ما بين مصدِّق ومكذِّب، فلما فتحت الباب رأَتْ ولدها واقفًا هو وزوجته وولداه معه، فصاحَتْ من شدة الفرح ووقعت في الأرض مغشيًّا عليها، فما زال حسن يلاطفها حتى أفاقَتْ وعانقته ثم بكَتْ، وبعد ذلك نادت غلمانه وعبيده وأمرتهم أن يُدخِلوا جميعَ ما معه في الدار، فأدخلوا الأحمالَ في الدار، ثم دخلت زوجته وولداه فقامَتْ لها أمه وعانقَتْها وقبَّلَتْ رأسها وقبَّلَتْ قدمَيْها، وقالت لها: يا ابنة الملك الأكبر، إنْ كنتُ أخطأتُ في حقكِ، فها أنا أستغفر الله العظيم. ثم التفتَتْ إلى ابنها وقالت له: يا ولدي، ما سبب هذه الغيبة الطويلة؟ فلما سألته عن ذلك أخبَرَها بجميع ما جرى له من أوله إلى آخِره، فلما سمعَتْ كلامه صرخَتْ صرخةً عظيمة ووقعَتْ في الأرض مغشيًّا عليها من ذِكْر ما جرى لولدها، فلم يزل يلاطفها حتى أفاقت وقالت له: يا ولدي، والله لقد فرَّطْتَ في القضيب والطاقية، فلو كنتَ احتفظتَ عليهما وأبقيتهما لَكنتَ ملكتَ الأرضَ بطولها والعرض، ولكن الحمد لله يا ولدي على سلامتك أنت وزوجتك وولدَيْك. وباتوا في أهنأ ليلة وأطيبها، فلما أصبح الصباح غيَّرَ ما عليه من الثياب، ولبس بدلة من أحسن القماش، ثم خرج إلى السوق وصار يشتري العبيد والجواري والقماش والشيء النفيس من الحلي والحلل والفراش، ومن الأواني المثمنة التي لا يوجد مثلها إلا عند الملوك، ثم اشترى الدور والبساتين والعقارات وغير ذلك، ثم أقام هو وولداه وزوجته ووالدته في أكل وشرب ولذَّة، ولم يزالوا في أرغد عيش وأهنأه حتى أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان ذي الملك والملكوت، وهو الحي الباقي الذي لا يموت.
خليفة الصياد
ومما يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، بمدينة بغداد رجلٌ صياد يُسمَّى خليفة، وكان ذلك الرجل فقيرَ الحال صعلوكًا لم يتزوَّج في عمره قطُّ، فاتفق له يومًا من الأيام أنه أخذ شبكته ومضى بها إلى البحر مثل عادته ليصطاد قبل الصيَّادين، فلما وصل إلى البحر تحزَّمَ وتشمَّرَ، ثم تقدَّم إلى البحر ونشر شبكته ورماها أول مرة وثاني مرة، فلم يطلع فيها شيء، ولم يَزَل يرميها إلى أن رماها عشر مرات فلم يطلع فيها شيء أبدًا، فضاقَ صدره وتحيَّرَ فكره في أمره وقال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، الرزق على الله عز وجل، وإذا أعطى الله عبدًا لا يمنعه أحد، وإذا منع عبدًا لا يعطيه أحد. ثم إنه من كثرة ما حصل له من الغم أنشد هذين البيتين:
ثم جلس ساعة يتفكَّر في أمره وهو مطرق برأسه إلى الأرض، وبعد ذلك أنشد هذه الأبيات:
ثم قال في نفسه: أرمي هذه المرة الأخرى وأتوكَّلُ على الله لعله لا يخيِّب رجائي. ثم إنه تقدَّمَ ورمى الشبكة على طول باعه في البحر، وطوى حبلها وصبر عليها ساعة زمانية، ثم بعد ذلك سحبها فوجدها ثقيلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.