فلما كانت الليلة ٨٣٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما فرغ من مغانيه، حمل القفة على كتفه وسار، ولم يزل سائرًا إلى أن دخل مدينة بغداد، فلما دخلها عرفه الناس فصاروا يصبِّحون عليه ويقولون: أي شيء معك يا خليفة؟ وهو لا يلتفت إلى أحدٍ منهم حتى وصل إلى سوق الصيارف، وفات الدكاكين كما أوصاه القرد، ثم نظر إلى ذلك اليهودي فرآه جالسًا في الدكان والغلمان في خدمته، وهو كأنه ملك من ملوك خراسان؛ فلما رآه خليفة عرفه، فمشى حتى وقف بين يدَيْه، فرفع اليهودي إليه رأسه فعرفه وقال له: أهلًا بك يا خليفة، ما حاجتك؟ وما الذي تريد؟ فإنْ كان أحد كلَّمَك أو خاصَمَك فقُلْ لي حتى أروح معك إلى الوالي، فيأخذ لك حقك منه. فقال: لا وحياة رأسك يا قيِّمَ اليهود، ما كلَّمني أحد، وإنما أنا سرحت اليوم من بيتي على بختك، ومضيتُ إلى البحر ورميتُ شبكتي في الدجلة فطلعت هذه السمكة. ثم فتح المقطف ورمى السمكة قدام اليهودي، فلما رآها اليهودي استحسنها وقال: وحقِّ التوراة والشعر والكلمات إني كنتُ نائمًا البارحة، فرأيتُ في المنام كأني بين يدَيِ العذراء وهي تقول لي: اعلم يا أبا السعادات أني قد أرسلتُ إليك هديةً مليحةً. فلعل الهدية هذه السمكة من غير شكٍّ.
ثم إنه التفت إلى خليفة وقال له: بحقِّ دينكَ هل رآها أحد غيري؟ فقال له خليفة: لا والله، وحقِّ أبي بكر الصديق يا قيِّمَ اليهود ما رآها أحد غيرك. فالتفَتَ اليهودي إلى أحد غلمانه وقال له: تعالَ خُذْ هذه السمكة ورُحْ بها إلى البيت، وخل سعادة تجهِّزها وتقلي وتشوي إلى حين أقضي شغلي وأجيء. فقال له خليفة أيضًا: رُحْ يا غلام خل امرأة المعلم تقلي منها وتشوي منها. فقال الغلام: سمعًا وطاعة يا سيدي. ثم إنه أخذ السمكة وذهب بها إلى البيت، وأما اليهودي فإنه مدَّ يده بدينار وناوَلَه لخليفة الصياد وقال له: خذ هذا لك يا خليفة واصرفه على عيالك. فلما نظره خليفة في كفه قال: سبحان مالك الملك. وكأنه ما نظر شيئًا من الذهب في عمره، وأخذ الدينار ومشى قليلًا، ثم إنه تذكَّرَ وصيةَ القرد، فرجع ورمى له الدينار وقال له: خُذْ ذهبك وهاتِ سمك الناس، هل أنت عندك الناس سخرية؟ فلما سمع اليهودي كلامه ظنَّ أنه يلعب معه، فناوَلَه دينارين على الدينار الأول، فقال له خليفة: هات السمكة بلا لعب، هل أنت تعرف أني أبيع السمك بهذا الثمن؟ فمَدَّ اليهودي يده إلى اثنين آخَرين وقال له: خذ هذه الخمسة دنانير حق السمكة واترك الطمع. فأخذها خليفة في يده وتوجَّهَ بها وهو فرحان، وصار ينظر إلى الذهب ويتعجَّب منه ويقول: سبحان الله، ليس مع خليفة بغداد مثل ما معي في هذا اليوم.
ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى رأس السوق، ثم تذكَّرَ كلامَ القرد والوصية التي أوصاه بها، فرجع إلى اليهودي ورمى له الذهب؛ فقال له: ما لك يا خليفة؟ أي شيء تطلب؟ أتأخذ صرف دنانيرك دراهم؟ فقال له: لا أريد دراهم ولا دنانير، وإنما أريد أن تعطيني سمك الناس. فغضب اليهودي وصرخ عليه وقال له: يا صياد، أتجيء لي بسمكة لا تساوي دينارًا وأعطيك فيها خمسة دنانير فلا ترضى؟ هل أنت مجنون؟ قُلْ لي: بكَمْ تبيعها؟ فقال له خليفة: أنا لا أبيعها بفضة ولا بذهب، وما أبيعها إلا بكلمتين تقولهما لي. فلما سمع اليهودي قوله كلمتين، قامت عيناه في أم رأسه وضاقت أنفاسه، وقرط على أضراسه وقال له: يا فظاعة المسلمين، هل تريد أن أفارق ديني لأجل سمكتك، وتُفسِد عليَّ ملتي وعقيدتي التي وجدتُ عليها آبائي من قبلي؟ وصاح على غلمانه فحضروا بين يدَيْه، فقال لهم: ويلكم، دونكم هذا النحس، قطعوا بالصك قفاه، وأكثروا من الضرب أذاه. فنزلوا عليه بالضرب، وما زالوا يضربونه حتى وقع تحت الدكان، فقال لهم اليهودي: خلوا عنه حتى يقوم. فقام خليفة على حيله كأنه لم يكن به شيء، فقال له اليهودي: قُلْ لي أي شيء تريده في ثمن هذه السمكة وأنا أعطيك إياه؟ فإنك ما نلتَ منَّا خيرًا في هذه الساعة. فقال خليفة: لا تخف عليَّ يا معلم من الضرب؛ لأني آكل ضربًا قدر عشرة حمير. فضحك اليهودي من كلامه وقال له: بالله عليك قُلْ لي أي شيء تريد وأنا وحقِّ ديني أعطيك إياه. فقال له: لا يرضيني منك في ثمن هذه السمكة إلا كلمتان. فقال له اليهودي: أظنُّ أنك تطلب مني أن أُسلِمَ. فقال له خليفة: والله يا يهودي، إن أسلمْتَ فإسلامك لا ينفع المسلمين ولا يضرُّ اليهود، وإنْ بقيتَ على كفرك فكفرك لا يضرُّ المسلمين ولا ينفع اليهود، ولكن الذي أطلبه منك أن تقوم على قدمَيْكَ وتقول: اشهدوا عليَّ يا أهل السوق أني قد أبدلْتُ بقردي قردَ خليفة الصياد، وبحظي في الدنيا حظَّه، وببختي بختَه. فقال اليهودي: إن كان هذا الأمر مرادُكَ فهو عليَّ هيِّن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.