فلما كانت الليلة ٨٣٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما وضع المائة دينار في جيبه، أخذ قفَّته وعصاه وشبكته وذهَبَ إلى بحر الدجلة ورمى شبكته فيه، ثم سحبها فلم يطلع له شيء، فانتقل من ذلك الموضع إلى موضعٍ غيره ورمى شبكته فيه، فلم يطلع له شيء، ولم يزل ينتقل من مكان إلى مكان حتى بَعُدَ عن المدينة مسافة نصف يوم وهو يرمي الشبكة ولا يطلع له شيء؛ فقال في نفسه: والله إني ما بقيتُ أرمي شبكتي في الماء إلا هذه المرة، فإما عليها وإما بها. فطرح الشبكة بقوة عزمه لشدة غيظه، فطارت الصرة التي فيها المائة دينار من طوقه ووقعَتْ في وسط البحر وراحت في قوة التيار، فرمى الشبكة من يده وتجرَّدَ من ثيابه وتركها على البر ونزل في البحر وغطس خلف الصرة، ولم يَزَلْ يغطس ويطلع نحو مائة مرة حتى ضعفت قوَّته، فلم يقع بتلك الصرة. فلما يَئِسَ منها طلع إلى البر، فلم يجد سوى العصا والشبكة والقفة، وطلب ثيابه فلم يقع لها على أثر؛ فقال في نفسه أهجن ما يُضرَب به المَثَل: «لا تكمل الحجة إلا بنيك الجمل.» ثم إنه فرد الشبكة والتفَّ فيها، وأخذ العصا في يده والقفة على كتفه وسار يهرول مثل الجمل الهائم، يجري يمينًا وشمالًا وخلفًا وأمامًا، أشعَثَ أغبر كالعفريت المتمرِّد إذا انطلق من السجن السليماني.
هذا ما كان من أمر خليفة الصياد، وأما ما كان من أمر الخليفة هارون الرشيد فإنه كان له صاحب جوهري يقال له ابن القرناص، وقد كان جميع الناس والتجار والدلالين والسماسرة يعرفون أن ابن القرناص تاجر الخليفة، وجميع ما يباع في مدينة بغداد من التحف وغيرها من الأمور المثمنة لا يباع حتى يُعرَض عليه، ومن جملة ذلك المماليك والجواري. فبينما ذلك التاجر— الذي هو ابن القرناص — جالس في دكانه يومًا من الأيام، وإذا بشيخ الدلالين قد أقبَلَ عليه ومعه جارية ما رأى الراءون مثلها، وهي في غايةٍ من الحسن والجمال والقدِّ والاعتدال، ومن جملة محاسنها أنها تعرف في جميع العلوم والفنون، وتنظم الأشعار وتضرب على جميع آلات الطرب؛ فاشتراها ابن القرناص الجوهري بخمسة آلاف دينار ذهبًا، وكساها بألف دينار، وأتى بها إلى أمير المؤمنين، فباتَتْ عنده تلك الليلة واختبرها الخليفة في كلِّ فنٍّ، فرآها عارفة بجميع العلوم والصنائع، ليس لها في عصرها نظير، وكان اسمها قوت القلوب، وهي كما قال الشاعر:
وأين هذا من قول الآخَر:
فلما أصبح الصباح أرسَلَ الخليفة هارون الرشيد إلى ابن القرناص الجوهري، فلما حضَرَ رسم له بعشرة آلاف دينار ثمن تلك الجارية، ثم إن الخليفة اشتغَلَ قلبُه بتلك الجارية المسمَّاة بقوت القلوب، وترك السيدة زبيدة بنت القاسم وهي بنت عمه، وترك جميع المحاظي وقعد شهرًا كاملًا لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة، ثم يعود إليها على الفور؛ فعَظُمَ ذلك على أرباب الدولة، فشَكَوْا هذا الأمر إلى الوزير جعفر البرمكي، فصبر الوزير على أمير المؤمنين حتى كان يوم الجمعة، فدخل الجامع واجتمَعَ بأمير المؤمنين وحكَى له جميع ما وقع له من القصص التي تتعلَّق بالعشق الغريبة؛ لأجل أن يستخرج ما عنده، فقال له الخليفة: يا جعفر، والله إن ذلك الأمر ليس باختياري، ولكن قلبي تعلَّقَ في شَرَكِ الهوى، وما أدري كيف يكون العمل. فقال له الوزير جعفر: اعلم يا أمير المؤمنين أن هذه المحظية قوت القلوب قد صارت تحت أمرك ومن جملة خدمك، وما تملكه اليد تزهده النفس، وأنا أخبرك بشيء آخَر، وهو أن أحسن ما تفتخر به الملوك وأبناء الملوك هو الصيد والقنص واغتنام اللهو والفرص، فإذا فعلتَ ذلك ربما تشتغل به عنها وربما تنساها. فقال له الخليفة: نِعْمَ ما قلتَه يا جعفر، فامضِ بنا على الفور في هذه الساعة إلى الصيد. فلما انقضَتْ صلاةُ الجمعة خرَجَا من الجامع وركبَا من وقتهما وساعتهما وسارَا إلى الصيد والقنص. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.