فلما كانت الليلة ٨٣٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد طلع هو وجعفر إلى الصيد والقنص، وسارَا حتى وصَلَا إلى البرية، وقد كان أمير المؤمنين هو والوزير جعفر راكبَيْن على بلغتين، فتشاغَلَا في الحديث مع بعضهما وسبقهما العسكر، وقد حما عليهما الحر فقال الرشيد: يا جعفر، إني قد لحقني العطش الشديد. ثم إن الرشيد مدَّ نظره فرأى زوالًا على كوم عالٍ، فقال للوزير: هل أنت ناظِرٌ ما أنا ناظره؟ فقال له الوزير: نعم يا أمير المؤمنين، أنظر زوالًا على كوم عالٍ، وهو إما حارس بستان أو حارس مقات، وعلى كلِّ حالٍ فلا تخلو جهته من الماء. ثم قال الوزير: أنا أمضي إليه وآتيك بالماء من عنده. فقال الرشيد: إنَّ بغلتي أسرع من بغلتك، فقِفْ أنت هنا من أجل العسكر، وأنا أروح بنفسي وأشرب من عند هذا الشخص وأعود. ثم إن الرشيد ساقَ بغلتَه، فخرجَتْ مثل الريح في المسير أو مثل الماء في الغدير، ولم تَزَلْ منطلقة به حتى وصل إلى ذلك الزوال في مقدار لمح البصر، فلم يجد ذلك الزوال إلا خليفة الصياد؛ فرآه الرشيد وهو عريان ملتَفٌّ بالشبكة وعيناه من غاية الاحمرار كأنهما مشاعل النار، بصورة هائلة وقامة مائلة، وهو أشعث أغبر كأنه عفريت أو غضنفر، فسلَّمَ عليه الرشيد، فردَّ عليه السلام وهو غضبان، ومن نفسه تلتهب النيران. فقال له الرشيد: يا رجل، هل عندك شيء من الماء؟ فقال له خليفة: يا هذا، هل أنت أعمى أو مجنون؟ فدونك بحر الدجلة، فإنه وراء هذا الكوم. فدار الرشيد من خلف الكوم ونزل إلى بحر الدجلة وشرب وسقى بغلته، ثم طلع من وقته وساعته ورجع إلى خليفة الصياد. فقال له: ما شأنك يا رجل واقفًا هنا؟ وما صنعَتُكَ؟ فقال له خليفة: إن هذا السؤال أعجب وأغرب من سؤالك عن الماء، أَمَا تَرَى آلةَ صنعتي على كتفي؟ فقال له الرشيد: كأنك صيَّاد. فقال له: نعم. فقال له الرشيد: فأين جبتك؟ وأين شملتك؟ وأين حرامك؟ وأين ثيابك؟ وقد كانت الحوائج التي راحَتْ من خليفة مثل التي ذكرها له سواء بسواء؛ فلما سمع خليفة ذلك الكلام من الخليفة، ظنَّ في نفسه أنه هو الذي أخذ ثيابه من على شاطئ البحر، فنزل خليفة من وقته وساعته من فوق الكوم أسرع من البرق الخاطف، وقبض على لِجَام بغلة الخليفة وقال له: يا رجل، هاتِ لي حوائجي وخلِّ عنك اللعب والمزاح. فقال له الخليفة: أنا والله ما رأيتُ ثيابك ولا أعرفها. وقد كان الرشيد له خدود كبار وفم صغير، فقال له خليفة: لعل صنعتك أنك مغنٍّ أو زمَّار، ولكن هات لي ثيابي بالتي هي أحسن وإلا أضربك بهذه العصا حتى تبول على نفسك وتلوث ثيابك.
ثم إن الخليفة لمَّا عايَنَ العصا مع خليفة قال في نفسه: والله أنا ما أحمل من هذا الصعلوك نصف ضربة بهذه العصا. وكان على الرشيد قباء من أطلس فقلعه، وقال لخليفة: يا رجل، خُذْ هذا القباء عوضًا عن ثيابك. فأخذه خليفة وقلَّبه وقال: إن ثيابي تساوي عشرة مثل هذه العباءة المزوَّقة. فقال الرشيد: البسه حتى أجيء لك بثيابك. فأخذه خليفة ولبسه فرآه طويلًا عليه، وقد كان مع خليفة سكين مربوطة في أذن القفة، فأخذها وقطع بها ذيل القباء مقدار ثلثه حتى صار لتحت ركبته، ثم إنه التفت إلى الرشيد وقال له: بحق الله عليك يا زمَّار أن تخبرني عن قدر جامكيتك في كل شهر عند أستاذك في صنعة المزمار. فقال له الخليفة: جامكيتي في كل شهر عشرة دنانير ذهبًا. فقال له خليفة: والله يا مسكين لقد حمَّلتني همَّكَ، والله إن العشرة دنانير أكتسِبُها في كل يوم؛ فهل تريد أن تكون معي في خدمتي وأنا أعلِّمك صنعة الصيد وأشاركك في المكسب؟ فتعمل في كل يوم بخمسة دنانير، وتكون غلامي وأحميك من أستاذك بهذه العصا؟ فقال له الرشيد: رضيتُ بذلك. فقال له: انزل الآن من فوق ظهر الحمارة واربطها حتى تبقى تنفعنا في حمل السمك، وتعالَ حتى أعلِّمَكَ الصيد في هذه الساعة. فعند ذلك نزل الرشيد عن ظهر بغلته وربطها وشمَّرَ أذياله في دور منطقته؛ فقال له خليفة: يا زامر، امسك هذه الشبكة كذا، واعملها على ذراعك كذا، وارميها في بحر الدجلة كذا. فقوَّى الرشيد قلبه وفعل مثل ما أراه خليفة ورمى الشبكة في البحر وسحبها، فما قدر أن يطلعها، فجاء إليه خليفة وسحبها معه فلم يقدر على تطليعها. فقال له خليفة: يا زامر النحس، إن كنتُ أخذتُ عباءتَكَ عوضًا عن ثيابي في المرة الأولى، ففي هذه المرة آخذ حمارتك في شبكتي إن رأيتها تقطَّعَتْ، وأضربك حتى تنساب على روحك. فقال له الرشيد: أسحب أنا وأنت معًا. فسحبها الاثنان معًا، فما قدرَا أن يطلعَا تلك الشبكة إلا بالمشقة، فلما أطلعاها نظرَاها، فإذا هي ملآنة من جميع أنواع السمك ومن سائر ألوانه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.