فلما كانت الليلة ٨٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صندلًا الطواشي لما حكى لجعفر البرمكي حكايةَ خليفة الصياد، قال له بعد ذلك: فهذه قصته وهذا سبب وقوفه. فلما سمع الوزير كلام الطواشي تبسَّمَ منه وقال: يا طواشي، كيف جاء هذا الصياد في وقت حاجته ولم تَقْضِها له؟ أَمَا تعرفه يا رئيس الطواشية؟ قال: لا. قال: هذا معلم أمير المؤمنين وشريكه، وقد أصبَحَ اليومَ مولانا الخليفة ضيِّقَ الصدر حزينَ القلب مشتغل البال، وما له شيء يشرح صدره إلا هذا الصياد، فلا تخله يروح حتى أشاورَ عليه الخليفة وأُحضِرَه بين يدَيْه، فلعل الله يفرج ما به ويسلِّيه على فَقْدِ قوت القلوب بسبب حضوره، فيعطيه شيئًا يستعين به، فتكون أنت السبب في ذلك. فقال له الخادم: يا مولاي، افعل ما تريد، فالله تعالى يُبقِيك ركنًا لدولة أمير المؤمنين، أدام اللهُ ظلَّها وحفظ فرعها وأصلها. ثم إن الوزير جعفر نهض متوجِّهًا إلى الخليفة، والخادم أمر المماليك أنهم لا يفارقون الصياد. فقال خليفة الصياد عند ذلك: ما أجملَ إحسانَكَ يا شقير! قد صار الطالب مطلوبًا؛ لأني جئتُ لأطلب مالي فحبسوني على البواقي. فلما دخل جعفر على الخليفة وجده قاعدًا وهو مُطرِق برأسه إلى الأرض، ضيِّق الصدر كثير الفكر، يترنم بقول الشاعر:
فلما صار جعفر بين يدَيِ الخليفة قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وحامي حرمة الدين، وابن عم سيد المرسلين ﷺ وعلى آله أجمعين. فرفع الخليفة رأسه وقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال جعفر: عن إذن أمير المؤمنين يتكلم خادمه ولا حرج عليه. فقال الخليفة: ومتى كان عليك حرج في الكلام وأنت سيد الوزراء؟ تكلَّمْ بما تريد. فقال له الوزير جعفر: إني خرجتُ يا مولانا من بين يدَيْكَ أريد داري، فرأيت أستاذك ومعلِّمك وشريكك خليفة الصياد واقفًا بالباب، وهو متغيِّر عليك ويشتكي منك ويقول: سبحان الله، قد علَّمته الصيد وذهب ليأتيني بفردين فلم يَعُدْ إليَّ، وما هذا شأن الشركة ولا شأن المعلِّمين. فإن كان لك غرض في الشركة فلا بأس، وإلا فعرِّفْه ليشارِكَ غيركَ. فلما سمع الخليفة كلامه تبسَّمَ وزال ما كان عنده من ضيق الصدر، ثم قال لجعفر: بحياتي عليك، أحقٌّ ما تقوله من أن الصياد واقف بالباب؟ قال جعفر: وحياتك يا أمير المؤمنين إنه واقف بالباب. فعند ذلك قال الخليفة: يا جعفر، والله لَأسعين في قضاء حقه، فإنْ يُرِدِ اللهُ له على يديَّ شقاوةً نالَهَا، وإنْ يُرِدْ له على يديَّ سعادةً نالَهَا.
ثم إن الخليفة أخذ ورقة وقطعها قِطَعًا وقال: يا جعفر، اكتب بيدكَ عشرين قدرًا من دينار إلى ألف دينار، ومراتب الولاية والإمارات من أقل العمل إلى الخلافة، وعشرين صنفًا من أنواع النكال من أقل التعزير إلى القتل. فقال جعفر: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. ثم كتب الأوراق بيده كما أمره الخليفة، ثم بعد ذلك قال الخليفة: يا جعفر، أقسِمُ بحقِّ آبائي الطاهرين واتصالي بحمزة وعقيل، إني أريد أن أُحضِر خليفة الصياد وآمره أن يأخذ ورقة من هذه الأوراق لا يعرف ما فيها إلا أنا وأنت، فأي شيء كان فيها ملَّكْتُه له، ولو كان فيها الخلافة نزعتُ نفسي منها وملَّكْتُه إياها، ولا أبخل بها عليه، وإنْ كان فيها شنْقٌ أو قطْعٌ أو هلاكٌ فعلْتُه به، فاذهب وَأْتِنِي به. فلما سمع جعفر هذا الكلام قال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربما يطلع لهذا المسكين شيء بإتلافه فأكون أنا السبب، ولكن الخليفة قد حلف وما بقي إلا أنه يدخل، ولا يكون إلا ما يريده الله. ثم توجَّهَ إلى خليفة الصياد وقبض على يده وأراد الدخول به، فطار عقل خليفة من رأسه وقال في نفسه: أي شيء عبثيٍّ حتى جئتُ إلى هذا العبد النحس شقير، فجمع بيني وبين كرش النخال؟ ثم إن جعفر لم يزل سائرًا به والمماليك خلفه وقدامه وهو يقول: ما كفى الحبس حتى يكون هؤلاء خلفي وقدامي فيحرموني أن أهرب؟ ولم يزل جعفر سائرًا به حتى قطع سبعة دهاليز، ثم قال الخليفة: ويلك يا صياد، إنك تقف بين يدي أمير المؤمنين وحامي الدين. ثم رفع الستر الأكبر، فوقعَتْ عين خليفة الصياد على الخليفة وهو جالس على سريره، وأرباب الدولة قيام في خدمته، فلما عرفه تقدَّمَ إليه وقال: أهلًا وسهلًا يا زمَّار، ما يصحُّ منك أن تعمل صيَّادًا ثم تتركني قاعدًا أحرس السمك وتروح ولا تجيء، فما شعرتُ إلا والمماليك قد أقبلوا على دوابَّ مختلفة الألوان، فخطفوا السمك مني وأنا واقف وحدي، وهذا كله من تحت رأسك، فلو كنتَ جئتَ بالأفراد سريعًا كنَّا بعنَا منه بمائة دينار، ولكن أنا جئتُ في طلب حقي فحبسوني، وأنت مَن حبَسَك في هذا الموضع؟ فتبسَّمَ الخليفة ثم رفع طرف الستارة وأخرج رأسه من تحتها وقال له: تقدَّمْ وخُذْ لك ورقةً من هذه الأوراق. فقال خليفة الصياد لأمير المؤمنين: أنت كنتَ صيَّادًا وأراكَ اليوم منجِّمًا، ولكن مَن كَثُرَتْ صنائعه كَثُرَ فقره. فقال جعفر: خُذِ الورقة بسرعة من غير كلام وامتثل ما أمرَكَ به أمير المؤمنين. فتقدَّمَ خليفة الصياد ومدَّ يدَه وقال: هيهات إن كان هذا الزمَّار يرجع غلامي ويصطاد معي. ثم أخذ الورقة وناوَلَها للخليفة وقال: يا زمَّار، أي شيء طلع لي فيها لا تُخْفِ منه شيئًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.