فلما كانت الليلة ٨٤٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خليفة الصياد لما نام على الصندوق استمرَّ ساعة، وإذا بشيء يتحرَّك، ففزع وطار عقله وقام من النوم وقال: كأنَّ فيه جن، الحمد لله الذي ما جعلني فتحتُه؛ لأني لو كنتُ فتحته لَقاموا عليَّ في الظلام وأهلكوني ولم يحصل لي منهم خير. ثم إنه رجع ونام وإذا بالصندوق يتحرَّك ثاني مرة أكثر من الأول، فنهض خليفة قائمًا وقال: هذه نوبة أخرى لكنها مزعجة. ثم بادَرَ إلى سراج فلم يجده، ولم يكن معه ما يشتري به سراجًا، فخرج من البيت وصاح: يا أهل الحارة. وكان أكثر أهل الحارة نائمين، فانتبهوا على صياحه وقالوا: ما لك يا خليفة؟ فقال: الحقوني بسراج، فإن الجن خرجوا عليَّ. فضحكوا عليه وأعطوه سراجًا، فأخذه ودخل به بيته وضرب قفل الصندوق بحجر فكسره وفتح الصندوق، وإذا هو بجارية كأنه حورية، وهي نائمة في الصندوق وكانت مبنَّجَة، وقد تقيَّأَتِ البنجَ في تلك الساعة فاستفاقت وفتحت عينَيْها وحسَّتْ بالضيق فتحرَّكَتْ، فلما رآها خليفة نهض إليها وقال: بالله يا سيدتي، من أين أنت؟ ففتحت عينها وقالت: هاتِ لي ياسمينًا ونرجسًا. فقال خليفة: ما هنا إلا تمر حناء. فاستفاقت في نفسها ونظرت خليفة فقالت له: أي شيء أنت؟ ثم إنها قالت: وأين أنا؟ قال لها: أنت في بيتي. قالت: أَمَا أنا في قصر الخليفة هارون الرشيد؟ فقال لها: أي شيءٍ الرشيد يا مجنونة؟ ما أنتِ إلا جاريتي، وفي هذا اليوم اشتريتُكِ بمائة دينار ودينار، وجئتُ بكِ إلى بيتي، وكنتِ في هذا الصندوق نائمةً.
فلما سمعت الجارية كلامه قالت له: ما اسمك؟ قال: اسمي خليفة، ما بال نجمي قد سعد وأنا أعرف نجمي غير ذلك! فضحكت وقالت: دعني من هذا الكلام، هل عندك شيء يُؤكَل؟ فقال: والله ولا شيء يُشرَب، وأنا والله لي يومان ما أكلتُ شيئًا، وأنا الآن محتاج إلى لقمة. فقالت له: أَمَا معك دراهم؟ فقال: الله يحفظ هذا الصندوق الذي أفقَرَني؛ لأني أوردتُ ما كان معي فيه وبقيتُ مُفلِسًا. فضحكت عليه الجارية وقالت: قُمِ اطلب من جيرانك شيئًا آكله فإني جائعة. فقام خليفة وخرج من البيت وصاح: يا أهل الحارة. وقد كانوا راقدين فانتبهوا وقالوا: ما لك يا خليفة؟ فقال: يا جيراني أنا جائع، وما عندي شيء آكله. فنزل له واحد برغيف، وآخَر بكسرة، وآخَر بقطعة جبن، وآخَر بخيارة، فامتلأ حجره ودخل البيت وحطَّ الجميع بين يدَيْها وقال لها: كلي. فضحكت عليه وقالت له: كيف آكل من هذا ولا عندي كوز ماء أشرب منه؟ فأخاف أن أشرق بلقمةٍ فأموت. فقال خليفة: أنا أملأ لك هذه الجرة. ثم أخذ الجرة وخرج في وسط الحارة وصاح: يا أهل الحارة. فقالوا له: ما مصيبتك في هذه الليلة يا خليفة؟ فقال لهم: أنتم أعطيتموني فأكلتُ، ولكن عطشتُ فاسقوني. فنزل له هذا بكوز، وهذا بإبريق، وهذا بقلة، فملأ الجرة ودخل بها البيت وقال لها: يا سيدتي، ما بقي لك حاجة. فقالت: صحيح، ما بقي لي حاجة في هذه الساعة. فقال لها: كلِّميني وحدِّثيني بحديثك. فقالت: ويلك، إن كنتَ لم تعرفني فأنا أعرِّفُكَ بنفسي؛ أنا قوت القلوب جارية الخليفة هارون الرشيد، وقد غارَتْ مني السيدة زبيدة وبنَّجَتْني ووضعتني في هذا الصندوق. ثم قالت: الحمد لله الذي كان هذا الأمر السهل ولم يكن غيره، ولكن ما جرى لي هذا إلا من أجل سعادتك، فلا بد أن تأخذ من الخليفة الرشيد مالًا كثيرًا يكون سببًا في غنائك. فقال لها خليفة: أَمَا هو الرشيد الذي كنتُ في قصره محبوسًا؟ قالت: نعم. قال: والله ما رأيتُ أبخل منه ذلك الزمَّار القليل الخير والعقل، فإنه ضربني أمسِ مائةَ عصًا، وأعطاني دينارًا واحدًا، مع أني علَّمْتُه الصيدَ وشاركْتُه فغدَرَ بي. فقالت له: دَعْ عنك هذا الكلام القبيح، وافتح عينك، وعليك بالأدب إذا رأيْتَه بعد هذا المرة، فإنك تبلغ مرادك. فلما سمع كلامها كان كأنه نائم واستيقظ، وكشف الله عن بصيرته لأجل سعادته. فقال لها: على الرأس والعين. ثم قال لها: باسم الله نامي. فقامت ونامت ونام هو بعيدًا عنها إلى الصباح.
فلما أصبحَتْ طلبَتْ منه دواةً وورقة، فأحضرهما لها، فكتبَتْ إلى التاجر الذي هو صاحب الخليفة تُخبِره بحالها وما جرى لها من أنها عند خليفة الصياد، وقد اشتراها، ثم دفعَتْ له الورقة وقالت له: خُذْ هذه الورقة وامضِ بها إلى سوق الجواهر، واسأل عن دكان ابن القرناص الجوهري وأَعْطِهِ هذه الورقةَ ولا تتكلَّم. فقال لها خليفة: سمعًا وطاعة. ثم إنه أخذ الورقة من يدها ومضى بها إلى سوق الجواهر، وسأل عن دكان ابن القرناص فأرشدوه إليه، فأتاه وسلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام واحتقره في عينه وقال له: أي حاجة لك؟ فناوَلَه الورقة، فأخذها ولم يقرأها لظنِّه أنه صعلوك يطلب منه صدقةً. فقال لبعض غلمانه: أعطه نصف درهم. فقال له خليفة: لا حاجةَ لي بالصدقة، ولكن اقرأ الورقة. فأخذ الورقة وقرأها، ففهم ما فيها، فلما عرف ما فيها قبَّلَها ووضعها على رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.