فلما كانت الليلة ٨٤٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن القرناص لما قرأ الورقة وفهم ما فيها قبَّلَها ووضعها على رأسه ونهض قائمًا وقال له: يا أخي، أين بيتك؟ فقال له خليفة: وما تريد ببيتي؟ فهل مرادك أن تروح إليه وتسرق جاريتي؟ فقال له: لا، بل أشتري لك شيئًا تأكله أنت وإياها. فقال له: بيتي في الحارة الفلانية. فقال له: أحسنت، لا أعطاك الله عافيةً يا مندبور. ثم صاح على عبدَيْن من عبيده وقال لهما: امضيا مع هذا الرجل إلى دكان محسن الصيرفي وقولَا له: يا محسن، أعطِ هذا ألف دينار من الذهب وارجعَا به إليَّ بسرعة. فمضى العبدان مع خليفة إلى دكان الصيرفي وقالَا له: يا محسن، أعطِ هذا الرجل ألفَ دينار من الذهب. فأعطاه إياها، فأخذها خليفة ورجع مع العبدين إلى دكان سيدهما، فوجدوه راكبًا زرزورية تساوي ألف دينار والمماليك والغلمان حوله، وفي جنب بغلته بغلة مثلها مسرَّجة ملجمة، فقال لخليفة: باسم الله اركبْ هذه البغلة. فقال خليفة: أنا لا أركب، والله إني أخاف أن ترميني. فقال له التاجر ابن القرناص: والله لا بد من ركوبك. فتقدَّمَ خليفة ليركبها، فركبها مقلوبًا ومسك ذنبها وصرخ، فرمته على الأرض فضحكوا عليه، ثم قام وقال: أَمَا قلتُ لك ما أركب هذا الحمار الكبير؟ ثم إن ابن القرناص ترك خليفة في السوق وراح إلى أمير المؤمنين وأعلمه بالجارية، ثم رجع ونقلها إلى بيته، ثم إن خليفة ذهب إلى البيت لينظر الجارية، فرأى أهل الحارة مجتمعين وهم يقولون: إن خليفة اليومَ مرهوبٌ بالكلية، يا تُرَى هذه الجارية من أين له؟ فقال واحد منهم: هذا قوَّاد مجنون، لعله وجدها في الطريق سكرانة فحملها وأتى بها إلى بيته، وما غاب إلا لأنه عرف ذنبه.
فبينما هم في الكلام، وإذا بخليفة أقبَلَ عليهم فقالوا له: أي شيء حالك يا مسكين؟ أَمَا تعرف أي شيء جرى لك؟ فقال: لا والله. فقالوا: في هذه الساعة جاء مماليك وأخذوا جاريتك وطلبوك فما وجدوك. فقال خليفة: كيف أخذوا جاريتي؟ فقال واحد: لو كان وقع كانوا قتلوه. فلم يتلفت خليفة إليهم، بل رجع يجري إلى دكان ابن القرناص، فرآه راكبًا فقال له: والله ما يصحُّ منكَ، فإنك شاغَلْتَني وأرسلتَ مماليكك فأخذوا جاريتي. فقال: يا مجنون، تعالَ وأنت ساكت. ثم أخذه وأتى به إلى دار مليحة البناء، فدخل به هناك، فنظر الجارية قاعدة فيها على سريرٍ من ذهب، وحولها عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، فلما رآها ابن القرناص قبَّلَ الأرض بين يدَيْها، فقالت له: ما فعلتَ بسيدي الجديد الذي اشتراني بجميع ما يملك؟ فقال لها: يا سيدتي، أعطيتُه ألف دينار من الذهب. وحكى لها خبر خليفة من أوله إلى آخره، فضحكت وقالت: لا تؤاخذه فإنه رجلٌ عاميٌّ. ثم قالت: وهذه ألف دينار أخرى هبة مني إليه، وإن شاء الله تعالى يأخذ من الخليفة ما يُغنِيه.
فبينما هم في الحديث، وإذا بخادمٍ من عند الخليفة قد أقبَلَ يطلب قوتَ القلوب؛ لأنه علم أنها في بيت أبي القرناص، وحين علم ذلك لم يصبر عنها فأمر بإحضارها، فلما توجَّهَتْ إليه أخذَتْ خليفة معها وذهبت حتى أقبلت على الخليفة، فلما وصلَتْ إليه قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه، فقام إليها وسلَّمَ عليها ورحَّبَ بها وسألها كيف كان حالها مع مَن اشتراها. فقالت له: إنه رجل يُسمَّى خليفة الصياد وها هو واقف بالباب، وقد ذكر لي أن له مع مولانا أمير المؤمنين مُحاسَبة من أجل الشركة التي كانت بينه وبينه في الصيد. فقال: هل هو واقف؟ قالت: نعم. فأمر بإحضاره، فحضر وقبَّلَ الأرض بين يدَيِ الخليفة ودعَا له بدوام العز والنِّعَم، فتعجَّبَ الخليفة منه وضحك عليه وقال له: يا صياد، هل كنت أمسِ شريكي حقيقةً؟ ففهم خليفة كلامَ أمير المؤمنين فقوَّى قلبه وثبَّتَ جنانه وقال له: وحقِّ مَن أنعَمَ عليك بخلافة ابن عمك، ما أعلمها على أي حالة، وما كان مني غير النظر والحديث. ثم أعاد عليه جميع ما جرى له من الأول إلى الآخِر، وصار الخليفة يضحك عليه. ثم إنه حدَّثَه بحديث الخادم وما جرى له معه، وكيف أعطاه المائة دينار على الدينار الذي أخذه من الخليفة، وحدَّثَه أيضًا بدخوله السوق واشترائه الصندوق بالمائة دينار وهو لا يعلم ما فيه، وحكى له جميع الحكاية من المبتدأ إلى المنتهى؛ فضحك عليه الخليفة وانشرح صدره وقال له: نحن على ما تريد يا موصل الحق إلى أهله. ثم سكَتَ، وبعد ذلك أمَرَ له الخليفة بخمسين ألف دينار ذهبًا، وخلعة سنية من ملابس الخلفاء الكبار وبغلة، وأهدى إليه عبيدًا من السودان يخدمونه، وصار كأنه بعض الملوك الموجودة في ذلك الزمان، وقد فرح الخليفة بقدوم جاريته، وعلم أن هذا كله من فعال السيدة زبيدة بنت عمه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.