فلما كانت الليلة ٨٤٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة فرح برجوع قوت القلوب، وعرف أن هذا كله من فعال السيدة زبيدة بنت عمه، فزاد غضبه عليها وهجَرَها مدةً من الزمان، وصار لا يدخل عليها ولا يميل إليها؛ فلما تحقَّقَتْ ذلك، حصل لها من غيظه همٌّ عظيم، واصفرَّ لونُها بعد الاحمرار، فلما أعياها الصبر أرسلَتْ إلى ابن عمها أمير المؤمنين تعتذِرُ إليه وتقرُّ بذنبها، وقد أنشدت هذه الأبيات:
فلما وصلَتْ مراسلة السيدة زبيدة إلى أمير المؤمنين وقرأها، عرف أنها اعترفَتْ بذنبها وأرسلَتْ تعتذر إليه مما فعلت، فقال في نفسه: إن الله يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. وأرسل إليها ردَّ الجواب عن مراسلتها مشتمِلًا على الرضا والسماح والعفو عمَّا مضى، فحصل لها الفرح العظيم. ثم إن الخليفة رتَّبَ لخليفةَ في كل شهرٍ خمسين دينارًا جائزة له، وصار له عند الخليفة منزلةٌ عظيمة ومقامٌ عالٍ وحرمةٌ واحتشام. ثم إن خليفة قبَّلَ الأرضَ بين يدَيْ أمير المؤمنين عند خروجه وخرج يمشي ويتبختر، فلما وصل إلى الباب نظر إليه الخادم الذي أعطاه المائة دينار، فعرفه وقال له: يا صياد، من أين لك هذا كله؟ فحدَّثَه بما جرى له من أوله إلى آخره؛ ففرح الخادم بذلك حيث كان هو السبب في غنائه، وقال له: أَمَا تعطيني إنعامًا من هذا المال الذي صار لك؟ فمَدَّ خليفة يده إلى جيبه، فطلع منه كيسًا فيه ألف دينار من الذهب وناوَلَه للخادم، فقال له الخادم: خُذْ مالَكَ بارَكَ الله لك فيه. وتعجَّبَ من مروءته وسماحة نفسه على فقره. ثم إن خليفة خرج من عند الخادم وهو راكب على البغلة، والخدَّام ماسكة كفلها وهو سائر إلى أن أتى إلى الخان والناس يتفرجون عليه ويتعجبون لما حصل له من العز، فتقدَّمَ إليه الناس بعدما نزل من فوق البغلة وسألوه عن سبب تلك السعادة، فأخبرهم بما جرى له من الأول إلى الآخر. ثم إنه اشترى دارًا مليحةَ الأركان، وأنفَقَ عليها جملة من المال حتى صارت كاملةَ المعاني، وسكن في تلك الدار وصار ينشد هذين البيتين:
ثم إنه لما استقرَّ في داره خطب له بنتًا من بنات أعيان أهل المدينة، من البنات الحِسَان، ودخل بها وحصل له غاية الأنس والحظ الزائد والانبساط، وصار في نعمة زائدة وسعادة كاملة، فلما رأى نفسه في ذلك النعيم، شكر الله سبحانه وتعالى على ما أعطاه من النعمة الوافرة والمكارم المتواترة، وصار لربه حامدًا حمدَ الشاكرين مترنِّمًا بقول الشاعر:
ثم إن خليفة صار يتردَّد على الخليفة هارون الرشيد مع القبول عنده، وصار الرشيد يشمله بإحسانه وجوده، ولم يَزَلْ خليفة في أتمِّ نعمةٍ وسرورٍ وعزٍّ وحبور، وفي نعمة زائدة ورفعة متصاعدة، وعيشة طيبة هنية ولذة صافية مرضية، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان مَن له العزُّ والبقاء، وهو حي دائم لا يموت أبدًا.
مسرور وزين المواصف
ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر اسمه مسرور، وكان ذلك الرجل من أحسن أهل زمانه، كثير المال مرفَّه الحال، ولكنه كان يحِبُّ النزهةَ في الرياض والبساتين، ويلتهي بهوى النساء المِلَاح، فاتفق أنه كان نائمًا في ليلة من الليالي فرأى في نومه أنه في روضةٍ من أحسن الرياض، وفيها أربعة طيور ومن جملتهما حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية، فعجبَتْه تلك الحمامة وصار في قلبه منها وَجْدٌ عظيم، وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يده؛ فعَظُمَ ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبه من نومه فلم يجد الحمامةَ، فصار يعالج أشواقَه إلى الصباح، فقال في نفسه: لا بد أن أروح اليومَ إلى مَن يفسِّر لي هذا المنام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.