فلما كانت الليلة ٨٤٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرور التاجر لما انتبَهَ من نومه، صار يعالج أشواقه إلى الصباح، فلما أصبح الصباح قال: لا بد أن أروح اليومَ إلى مَن يفسِّر لي هذا المنام. فقام وصار يمشي يمينًا وشمالًا إلى أنْ بَعُدَ عن منزله، فلم يجد مَن يفسِّر له هذا المنام، ثم بعد ذلك طلب الرجوع إلى منزله، فبينما هو في الطريق إذ خطَرَ بباله أنه يميل إلى دارٍ من دُورِ التجار، وكانت تلك الدار لبعض الأغنياء، فلما وصل إليها وإذا به يسمع بها صوتَ أنينٍ من كَبِد حزين، وهو ينشد هذه الأبيات:
فلما سمع مسرور ذلك الصوت نظَرَ في داخل البيت، فرأى روضةً من أحسن الرياض، في باطنها سِتْرٌ من ديباج أحمر مكلَّل بالدر والجوهر، وعليه من وراء السِّتْر أربعُ جوارٍ بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية، كأنها البدر المنير والقمر المستدير، بعينين كحيلتين، وحاجبين مقرونين، وفَمٍ كأنه خاتم سليمان، وشفتين وأسنانٍ كالدر والمرجان، وهي تسلب العقولَ بحُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها، فلما رآها مسرور دخل الدار وبالَغَ في الدخول حتى وصل إلى الستر، فرفعَتْ رأسها إليه ونظرته، فعند ذلك سلَّمَ عليها فردَّتْ عليه السلام بعذوبة الكلام، فلما نظرها وتأمَّلَها طاشَ عقله وذهب قلبه، ونظر إلى الروضة وكانت من الياسمين والمنثور والبنفسج والورد والنارنج، وجميع ما يكون فيها من المشموم، وقد توشَّحَتْ جميعُ الأشجار بالأثمار، والماءُ منحدرٌ من أربعة لواوين يقابل بعضها بعضًا، فتأمَّلَ في الليوان الأول فرأى مكتوبًا على دائره بالزنجفر الأحمر هذان البيتان:
ثم تأمَّلَ في الليوان الثاني، فرأى مكتوبًا في دائره بالذهب الأحمر هذه الأبيات:
ثم تأمَّلَ في الليوان الثالث، فرأى مكتوبًا في دائره باللازورد الأزرق هذان البيتان:
ثم تأمَّلَ الليوان الرابع، فرأى مكتوبًا في دائره بالمدار الأصفر هذا البيت:
وفي تلك الروضة طيورٌ من قرى وحمام وبلبل ويمام، وكل طير يغرِّد بصوته، والصبِيَّة تتمايل في حُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها يفتتن بها كلُّ مَن رآها، ثم قالت: أيها الرجل، ما الذي أقْدَمَكَ على دارٍ غير داركَ، وعلى جَوَارٍ غير جواريكَ من غير إجازة أصحابها؟ فقال لها: يا سيدتي، رأيتُ هذه الروضةَ فأعجبني حُسْن اخضرارِها وفيح أزهارها وترنُّم أطيارها، فدخلتها لأتفرج فيها ساعة من الزمان وأروح إلى حال سبيلي. فقالت له: حبًّا وكرامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامَها، ونظر إلى طَرْفها ورشاقة قَدِّها، تحيَّرَ من حُسْنها وجمالها، ومن لطافة الروضة والطير؛ فطار عقله من ذلك وصار متحيِّرًا في أمره، وأنشد هذه الأبيات:
فلما سمعت زين المواصف شعر مسرور، نظرَتْ له نظرةً أعقبَتْه ألفَ حسرة، وسلبَتْ بها عقلَه ولبَّه، وأجابته على شعره بهذه الأبيات:
فلما سمع مسرور كلامها تجلَّدَ وصبر، وكتم أمرها في سره وتنكَّر، وقال في نفسه: ما للبَلِيَّة إلا الصبر. ثم داموا على ذلك إلى أن هجم الليل، فأمرَتْ بحضور المائدة فحضرت بين أيديهما وفيها من سائر الألوان، من السمان وأفراخ الحمام ولحوم الضأن، فأكَلَا حتى اكتفَيَا، ثم أمرت برفع الموائد فرُفِعت، وحضرت آلات الغسل فغسَلَا أيديهما، ثم أمرَتْ بوضع الشمعدانات فوُضِعت وجُعِل فيها شمعُ الكافور، ثم بعد ذلك قالت زين المواصف: والله إن صدري ضيَّق في هذه الليلة لأني محمومة. فقال لها مسرور: شرح الله صدرك، وكشف غمَّك. فقالت: يا مسرور، أنا معوَّدة بلعب الشطرنج، فهل تعرف فيه شيئًا؟ قال: نعم، أنا عارف به. فقدَّمَتْه بين أيديهما، وإذا هو من الأبنوس مقطَّع بالعاج، له رقعة مرموقة بالذهب الوهَّاج، وحجارته من درٍّ وياقوت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.