قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما أخذَتِ الحجةَ من القاضي مشتملةً
على
أن جميع ما كان مِلْكًا لمسرور صار مِلْكًا لها، قالت له: يا مسرور، اذهبْ إلى حال سبيلك.
فالتفتَتْ إليه جاريتُها هبوب وقالت له: أنشِدْنا شيئًا من الأشعار. فأنشَدَ في شأن لعب
الشطرنج هذه الأبيات:
أَشْكُو الزَّمَانَ وَمَا قَدْ حَلَّ بِي وَجَرَى
وَأَشْتَكِي الْخَسْرَ وَالشَّطَرَنْجَ وَالنَّظَرَا
فِي حُبِّ جَارِيَةٍ غَيْدَاءَ نَاعِمَةٍ
مَا مِثْلُهَا فِي الْوَرَى أُنْثَى وَلَا ذَكَرَا
فَفَوَقَّتْ لِي سِهَامًا مِنْ لَوَاحِظِهَا
وَقَدَّمَتْ لِي جُيُوشًا تَغْلِبُ الْبَشَرَا
حُمْرًا وَبِيضًا وَفُرْسَانًا مُصَادِمَةً
فَبَارَزَتْنِي وَقَالَتْ لِي خُذِ الْحَذَرَا
وَأَهْمَلَتْنِي إِذَا مَرَّتْ أَنَامِلُهَا
فِي جُنْحِ لَيْلٍ بَهِيمٍ يُشْبِهُ الشَّعَرَا
لَمْ أَسْتَطِعْ لِخَلَاصِ الْبِيضِ أَنْقُلُهَا
وَالْوَجْدُ صَيَّرَ مِنِّي الدَّمْعَ مُنْهَمِرَا
بَيَاذِقٌ وَرُخُوخٌ مَعْ فَرَازِنَةٍ
كَرَّتْ فَأَدْبَرَ جَيْشُ الْبِيضِ مُنْكَسِرَا
لَقَدْ رَمَتْنِي بِسَهْمٍ مِنْ لَوَاحِظِهَا
فَصَارَ قَلْبِي بِذَاكَ السَّهْمِ مُنْفَطِرَا
وَخَيَّرَتْنِيَ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ مَعًا
فَاخْتَرْتُ تِلْكَ الْجُيُوشَ الْبِيضَ مُقْتَمِرَا
وَقُلْتُ هَذِي جُيُوشُ الْبِيضُ تَصْلُحُ لِي
قَالَتْ تَصَبَّرْ بِفِكْرِي أَنْقُلُ الْحَجَرَا
وَلَاعَبَتْنِي عَلَى رَهْنٍ رَضِيتُ بِهِ
وَلَمْ أَكُنْ عَنْ رِضَاهَا أَبْلُغُ الْوَطَرَا
يَا لَهْفَ قَلْبِي وَيَا شَوْقِي وَيَا حَزَنِي
عَلَى وِصَالِ فِتَاةٍ تُشْبِهُ الْقَمَرَا
مَا الْقَلْبُ فِي حُرَقٍ كَلَّا وَلَا أَسَفٍ
عَلَى عُقَارِي وَلَكِنْ يَأْلَفُ النَّظَرَا
وَصِرْتُ حَيْرَانَ مَبْهُوتًا عَلَى وَجَلٍ
أُعَاتِبُ الدَّهْرَ فِيمَا تَمَّ لِي وَجَرَى
قَالَتْ فَمَا لَكَ مَبْهُوتًا فَقُلْتُ لَهَا
هَلْ شَارِبُ الْخَمْرِ قَدْ يَصْحُو إِذَا سَكِرَا
إِنْسِيَّةٌ سَلَبَتْ عَقْلِي بِقَامَتِهَا
إِنْ لَانَ مِنْهَا فُؤَادٌ يُشْبِهُ الْحَجَرَا
أَطْمَعْتُ نَفْسِي وَقُلْتُ الْيَوْمَ أَمْلُكُهَا
عَلَى الرَّهَانِ وَلَا خَوْفًا وَلَا حَذَرَا
لَا زَالَ يَطْمَعُ قَلْبِي فِي تَوَاصُلِهَا
حَتَّى بَقِيتُ عَلَى الْحَالَيْنِ مُفْتَقِرَا
هَلْ يَرْجِعُ الصَّبُّ عَنْ عِشْقٍ أَضَرَّ بِهِ
وَلَوْ غَدَا فِي بِحَارِ الْوَجْدِ مُنْحَدِرَا
فَأَصْبَحَ الْعَبْدُ لَا مَالٌ يُقَلِّبُهُ
أَسِيرَ شَوْقٍ وَوَجْدٍ مَا قَضَى وَطَرَا
فلما سمعَتْ زين المواصف هذه الأبيات تعجَّبَتْ من فصاحة لسانه، وقالت له: يا مسرور،
دَعْ
عنك هذا الجنون، وارجعْ إلى عقلك وامضِ إلى حال سبيلك، فقد أفنيتَ مالَكَ وعقارَك في
لعب
الشطرنج ولم تحصل غرضك، وليس لك جهة من الجهات توصِّلك إليه. فالتفَتَ مسرور إلى زين
المواصف وقال لها: يا سيدتي، اطلبي أيَّ شيءٍ ولكِ كلُّ ما تطلبينه، فإني أجيء به إليك
وأحضره بين يدَيْكِ. فقالت: يا مسرور، ما بقي معك شيء من المال! فقال لها: يا منتهى الآمال،
إذا لم يكن عندي شيء من المال تساعدني الرجال. فقالت له: هل الذي يعطي يصير مستعطيًا؟
فقال
لها: إنَّ لي قرائب وأصحابًا، ومهما طلبته يعطوني إياه. فقالَتْ له: أريد منك أربعَ نوافح
من المسك الأدفر، وأربعةَ أوانٍ من الغالية، وأربعة أرطال من العنبر، وأربعة آلاف دينار،
وأربعمائة حلة من الديباج الملوكي المزركش، فإنْ كنتَ يا مسرور تأتي بذلك الأمر، أبحث
لك
الوصال. فقال لها: هذا عليَّ هيِّن يا مخجلة الأقمار. ثم إن مسرورًا خرج من عندها ليأتيها
بذلك الذي طلبَتْه منه، فأرسلت خلفه هبوبَ الجارية حتى تنظر قدره عند الناس الذين ذكرهم
لها، فبينما هو يمشي في شوارع المدينة إذ لاحت منه التفاتة، فرأى هبوبَ على بُعْدٍ، فوقف
إلى أنْ لحقَتْه، فقال لها: يا هبوب، إلى أين ذاهبة؟ فقالت له: إن سيدتي أرسلَتْني خلفك
من
أجل كذا وكذا. وأخبرته بما قالته لها زين المواصف من أوله إلى آخِره. فقال: والله يا
هبوب
إن يدي لا تملك شيئًا من المال. قالت له: فلأي شيء وعدْتَها؟ فقال: كَمْ من وعدٍ لا يَفِي
به صاحبُه، والمَطْل في الحب لا بدَّ منه. فلما سمعت هبوب ذلك منه قالت له: يا مسرور،
طِبْ
نفسًا وقرَّ عينًا، والله لأكونن سببًا في اتصالك بها.
ثم إنها تركته ومشت، وما زالت ماشيةً إلى أن وصلَتْ إلى سيدتها، فبكَتْ بكاءً شديدًا
وقالت لها: يا سيدتي، والله إنه رجل كبير المقدار محترم عند الناس. فقالت لها سيدتها:
لا
حيلةَ في قضاء الله تعالى، إن هذا الرجل ما وجد عندنا قلبًا رحيمًا لأننا أخذنا ماله،
ولم
يجد عندنا مودة ولا شفقة في الوصال، وإنْ ملتُ إلى مراده أخاف أن يشيع الأمر. فقالت لها
هبوب: يا سيدتي، ما سهل علينا حاله وأخذ ماله، ولكن ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب، فمَن
يقدر أن يتكلَّم منَّا فيكِ ونحن جواريك؟ فعند ذلك أطرقَتْ برأسها إلى الأرض، فقال لها
الجواري: يا سيدتي، الرأي عندنا أن ترسلي خلفه وتُنعِمي عليه، ولا تدعيه يسأل أحدًا من
اللئام، فما أمَرَّ السؤال! فقبلت كلامَ الجواري، ودعَتْ بدواةٍ وقرطاسٍ، وكتبَتْ إليه
هذه
الأبيات:
دَنَا الْوَصْلُ يَا مَسْرُورُ فَابْشِرْ بِلَا مَطْلِ
إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ بِالْفِعْلِ
وَلَا تَسْأَلِ الْأَنْذَالَ فِي الْمَالِ يَا فَتًى
فَقَدْ كُنْتُ فِي سُكْرِي وَقَدْ رُدَّ لِي عَقْلِي
فَمَالُكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ جَمِيعُهُ
وَزِدْتُكَ يَا مَسْرُورُ مِنْ فَوْقِهِ وَصْلِي
لِأَنَّكَ ذُو صَبْرٍ وَفِيكَ حَلَاوَةٌ
عَلَى جَوْرِ مَحْبُوبٍ جَفَاكَ بِلَا عَدْلِ
فَبَادِرْ لِتَغْنَمْ وَصْلَنَا وَلَكَ الْهَنَا
وَلَا تُعْطِ إِهْمَالًا فَيَدْرِي بِنَا أَهْلِي
هَلُمَّ إِلَيْنَا مُسْرِعًا غَيْرَ مُبْطِئٍ
وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ الْوَصْلِ فِي غَيْبَةِ الْبَعْلِ
ثم إنها طوَتِ الكتابَ وأعطَتْه لجاريتها هبوب، فأخذته ومضَتْ به إلى مسرور، فوجدَتْه
يبكي وينشد قول الشاعر:
وَهَبَّ عَلَى قَلْبِي نَسِيمٌ مِنَ الْجَوَى
فَفَتَّتَ الْأَكْبَادَ مِنْ فَرْطِ لَوْعَتِي
لَقَدْ زَادَ وَجْدِي بَعْدَ بُعْدِ أَحِبَّتِي
وَفَاضَتْ جُفُونِي فِي تَزَايُدِ عَبْرَتِي
وَعِنْدِي مِنَ الْأَوْهَامِ مَا إِنْ أَبُحْ بِهِ
لِصُمِّ الْحَصَى وَالصَّخْرِ لَانَتْ بِسُرْعَةِ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى مَا يَسُرُّنِي
وَأَحْظَى بِمَا أَرْجُوهُ مِنْ نَيْلِ بُغْيَتِي
وَتُطْوَى لَيَالِي الصَّدِّ مِنْ بَعْدِ هَجْرِهَا
وَأَبْرَأُ مِمَّا دَاخَلَ الْقَلْبَ خَلَّتِي
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.