فلما كانت الليلة ٧٣٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمر الخادم أن يأخذ صبيانه ويتوجهوا إلى حياة النفوس ويأتوا بها هي ومَن معها بين يديه، خرج الخادم ومَن معه ودخلوا فوجدوا حياة النفوس واقفة على أقدامها والبكاء والعويل قد أذابها، وكذلك ابن الملك، فقال رئيس الخدام للغلام: اضطجع على السرير كما كنتَ وكذلك ابنة الملك. فخشيت بنت الملك عليه وقالت له: ما هذا وقت المخالفة. فاضطجع الاثنان وحملوهما إلى أن أوصلوهما بين يدي الملك، فلما كشف الملك عنهما نهضت ابنة الملك على أقدامها، فنظر لها الملك وأراد أن يضرب عنقها، فسبق الغلام ورمى نفسه في صدر الملك وقال: أيها الملك، ليس لها ذنب، الذنب مني أنا، فاقتلني قبلها. فقصده ليقتله فرمت حياة النفوس نفسها على أبيها وقالت: اقتلني أنا ولا تقتله، فإنه ابن الملك الأعظم صاحب جميع الأرض في طولها والعرض.
فلما سمع الملك الكلام كلام ابنته، التفت إلى وزيره وكان محضر سوء وقال له: ما تقول يا وزير في هذا الأمر؟ قال الوزير: الذي أقوله: كل مَن وقع في هذا الأمر يحتاج للكذب، وما لهما إلا ضرب أعناقهما بعد أن تعذِّبهما بأنواع العذاب. فعندها دعا الملك بسيَّاف نقمته فجاء ومعه صبيانه، فقال الملك: خذوا هذا العلق واضربوا عنقه، وبعده هذه الفاجرة، واحرقوهما ولا تشاوروني في أمرهما مرةً ثانية. فعند ذلك حط السياف يده في ظهرها ليأخذها، فصاح الملك عليه ورجمه بشيء كان في يده كاد أن يقتله وقال له: يا كلب، كيف تكون حليمًا عند غضبي؟ حطَّ يدك في شعرها وجرها منه حتى تقع على وجهها. ففعل كما أمره الملك وسحبها على وجهها، وكذلك الغلام، إلى أن وصل بهما إلى محل الدم، وقطع من ذيل ثوبه وعصب عينيه، وجرَّدَ سيفه وكان ماضيًا، وأخَّرَ بنت الملك ترجيًا أن تقع فيها شفاعة، وقد اشتغل بالغلام ولعب السيف ثلاث مرات وجميع العسكر يتباكون ويدعون الله أن يحصل لهما شفاعة، فرفع السياف يده وإذا بغبار قد ثار حتى ملأ الأقطار. وكان السبب في ذلك أن الملك أبا الغلام لما أبطأ عليه خبر ولده، تجهَّزَ في عسكر عظيم وتوجَّهَ بنفسه للبحث عن ولده.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الملك عبد القادر، فإنه لما ظهر ذلك الغبار قال: يا قوم ما الخبر؟ وما هذا الغبار الذي غشي الأبصار؟ فنهض الوزير الأكبر ونزل من بين يديه متوجهًا إلى ذلك الغبار ليعرف حقيقة أمره، فوجد خلقًا كالجراد لا يُحصَى لهم عدد ولا ينفذ لهم مدد، قد ملئوا الجبال والأودية والتلال، فعاد الوزير إلى الملك وأخبره بالقضية، فقال الملك للوزير: انزل واعرف لنا خبر هذا العسكر، وما السبب في مجيئهم إلى بلادنا؟ واسأل عن قائد هذا الجيش وبلغه مني السلام واسأله: ما سبب حضوره؟ فإن كان يقصد قضاء حاجة ساعدناه، وإن كان له ثأر عند أحد الملوك ركبنا معه، وإن كان يريد هدية هاديناه، فإن هذا عدد عظيم وجيش جسيم، ونخشى على أرضنا من سطوته. فنزل الوزير ومشى بين الخيام والجنود والأعوان، ولم يزل ماشيًا من أول النهار إلى قرب المغرب حتى وصل إلى أصحاب السيوف المذهبة والخيام المكوكبة، ثم وصل من بعدهم إلى الأمراء والوزراء والحجاب والنواب. ولم يزل يتمشى إلى أن وصل إلى السلطان، فرآه ملكًا عظيمًا، فلما رآه أرباب الدولة صاحوا عليه: قبِّلِ الأرض. فقبَّل الأرض وقام، فصاحوا عليه ثانيًا وثالثًا إلى أن رفع رأسه وقصد أن يقوم من طوله من شدة الهيبة، فلما تمثَّلَ بين يدي الملك قال: أدام الله أيامك، وأعز سلطانك، ورفع قدرك أيها الملك السعيد وبعدُ، فإن الملك عبد القادر يسلم عليك ويقبِّل الأرض بين يديك، ويسألك في أي المهمات أتيت؟ فإن كنت قاصدًا أخذ ثأر من الملوك ركب في خدمتك، وإن كنت قاصدًا غرضًا يمكنه قضاؤه قام بخدمتك في شأنه. قال له الملك: أيها الرسول، اذهب إلى صاحبك وقل له: إن الملك الأعظم له ولد غاب عنه مدة، وقد أبطأت عليه أخباره، وانقطعت عنه آثاره، فإن كان في هذه المدينة أخذه وارتحل عنكم، وإن كان جرى عليه أمر من الأمور وارتمى عندكم بمحظور، فإن والده يخرب دياركم وينهب أموالكم ويقتل رجالكم ويسبي نساؤكم، فارجع إلى صاحبك سرعة وعرِّفه بذلك من قبل أن يحل به البلاء. قال: سمعًا وطاعة. ثم قصد الانصراف فصاح عليه الحجاب: قبِّلِ الأرض، قبِّلِ الأرض. فقبَّلها عشرين مرة، فما قام إلا وروحه في أنفه. ثم خرج من مجلس الملك، ولم يزل سائرًا وهو متفكر في أمر هذا الملك وكثرة جيوشه إلى أن وصل إلى الملك عبد القادر وهو مقطوف اللون في غاية الوجل مرتعد الفرائص، ثم عرَّفه بما اتفق له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.