فلما كانت الليلة ٨٥٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما رأت زوجها أحضَرَ الجِمال، وعلمت
بالسفر تحيَّرَتْ، فاتفق أن زوجها خرج لبعض أشغاله، فخرجت إلى الباب الأول وكتبت عليه
هذه
الأبيات:
أَلَا يَا حَمَامَ الدَّارِ بَلِّغْ سَلَامَنَا
مِنَ الصَّبِّ لِلْمَحْبُوبِ عِنْدَ فِرَاقِنَا
وَبَلِّغْهُ أَنِّي لَا أَزَالُ حَزِينَةً
نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طِيبِ وَقْتِنَا
كَمَا أَنَّ حُبِّي لَا يَزَالُ مُتَيَّمًا
حَزِينًا عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ سُرُورِنَا
قَضَيْنَا زَمَانًا بِالْمَسَرَّةِ وَالْهَنَا
وَفُزْنَا بِوَصْلٍ لَيْلَنَا وَنَهَارَنَا
فَلَمْ نَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَصْبَحَ صَائِحًا
عَلَيْنَا غُرَابُ الْبَيْنِ يَنْعَى فِرَاقَنَا
رَحَلْنَا وَخَلَّيْنَا الدِّيَارَ بَلَاقِعَ
فَيَا لَيْتَنَا لَمْ نُخْلِ تِلْكَ الْمَسَاكِنَا
ثم أتَتْ إلى الباب الثاني وكتبَتْ عليه هذه الأبيات:
أَيَا وَاصِلًا لِلْبَابِ بِاللهِ فَانْظُرَا
جِمَالَ حَبِيبِي فِي الدَّيَاجِي وَأَخْبِرَا
بِأَنِّيَ بَاكٍ إِنْ تَذَكَّرْتُ وَصْلَهُ
وَلَا يَنْفُدُ الدَّمْعُ الَّذِي بِالْبُكَا جَرَى
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَبْرًا عَلَى مَا أَصَابَنِي
فَضَعْ قُرْبَ أَجْمَالِي التُّرَابَ وَغَبِّرَا
وَسَافِرْ إِلَى شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا
وَعِشْ صَابِرًا فَاللهُ لِلْأَمْرِ قَدَّرَا
ثم أتَتْ إلى الباب الثالث وبكَتْ بكاءً شديدًا، وكتبَتْ عليه هذه
الأبيات:
رُوَيْدَكَ يَا مَسْرُورُ إِنْ زُرْتَ دَارَهَا
فَأَعْبِرْ إِلَى الْأَبْوَابِ وَاقْرَأْ سُطُورَهَا
وَلَا تَنْسَ عَهْدَ الْوُدِّ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا
فَكَمْ طَعِمَتْ حُلْوَ اللَّيَالِي وَمُرَّهَا
فَبِاللهِ يَا مَسْرُورُ لَا تَنْسَ قُرْبَهَا
فَقَدْ تَرَكَتْ فِيكَ الْهَنَا وَسُرُورَهَا
أَلَا وَابْكِ أَيَّامَ الْوِصَالِ وَطِيبَهَا
وَأَنْتَ مَتَّى مَا جِئْتَ أَرْخَتْ سُتُورَهَا
فَسَافِرْ قُصِيَّاتِ الْبِلَادِ لِأَجْلِنَا
وَخُضْ بَحْرَهَا وَاسْتَقْصِ عَنَّا بُرُورَهَا
لَقَدْ ذَهَبَتْ عَنَّا لَيَالِي وِصَالِنَا
وَفَرْطُ ظَلَامِ الْهَجْرِ أَطْفَأَ نُورَهَا
رَعَى اللهُ أَيَّامًا مَضَتْ مَا أَسَرَّهَا
بَرَوْضِ الْأَمَانِي إِذْ قَطَفْنَا زُهُورَهَا
فَهَلَّا اسْتَمَرَّتْ مِثْلَ مَا كُنْتُ أَرْتَجِي
أَبَى اللهُ إِلَّا وِرْدَهَا وَصُدُورَهَا
فَهَلْ تَرْجِعُ الْأَيَّامُ تَجْمَعُ شَمْلَنَا
وَأُوفِي إِذَا وَافَتْ لِرَبِّي نُذُورَهَا
وَكُنْ عَالِمًا أَنَّ الْأُمُورَ بِكَفِّ مَنْ
يَخُطُّ عَلَى لَوْحِ الْجَبِينِ سُطُورَهَا
ثم بكَتْ بكاءً شديدًا ورجعت إلى الدار تبكي وتنتحب، وصارت تتذكر ما مضى وقالت: سبحان
الله الذي حكَمَ علينا بهذا. ثم زاد تأسُّفُها على مفارقة الأحباب وعلى فراق الديار،
وأنشدت
هذه الأبيات:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ يَا مَنْزِلًا خَلَا
لَقَدْ قَضَتِ الْأَيَّامُ فِيكَ سُرُورَهَا
أَلَا يَا حَمَامَ الدَّارِ لَا زِلْتَ نَائِحًا
لِمَنْ فَارَقَتْ أَقْمَارَهَا وَبُدُورَهَا
رُوَيْدَكَ يَا مَسْرُورُ فَابْكِ لِفَقْدِنَا
لَقَدْ فَقَدَتْ عَيْنِي لِفَقْدِكَ نُورَهَا
وَلَوْ نَظَرَتْ عَيْنَاكَ يَوْمَ رَحِيلِنَا
وَنِيرَانُ قَلْبِي زَادَ دَمْعِي سَعِيرَهَا
وَلَا تَنْسَ ذَاكَ الْعَهْدَ فِي ظِلِّ رَوْضَةٍ
حَوَتْ شَمْلَنَا فِيهَا وَأَرْخَتْ سُتُورَهَا
ثم حضرَتْ بين يدَيْ زوجها، فحملها على الهودج الذي صنعه لها، فلما أن صارت على ظهر
البعير أنشدَتْ هذه الأبيات:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ يَا مَنْزِلًا خَلَا
وَقَدْ طَالَ مَا زِدْنَا هُنَاكَ تَجَمُّلَا
فَلَيْتَ زَمَانِي فِي ذُرَاكَ تَصَرَّمَتْ
لَيَالِيهِ حَتَّى فِي الصَّبَابَةِ أُقْتَلَا
جَزِعْتُ عَلَى بُعْدِي وَشَوْقِي لِمَوْطِنٍ
شُغِفْتُ بِهِ لَمْ أَدْرِ مَا قَدْ تَحَصَّلَا
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى فِيهِ عَوْدَةً
تَرُوقُ كَمَا رَاقَتْ لَنَا فِيهِ أَوَّلَا
فقال لها زوجها: يا زين المواصف، لا تحزني على فراق منزلك، فإنك تعودين إليه عن قريب.
وصار يطيِّب خاطرها ويلاطفها، ثم ساروا حتى خرجوا إلى ظاهر البلد واستقبلوا الطريق، وعلمت
أن الفراق قد تحقَّقَ فعَظُم ذلك عليها. كل هذا ومسرور قاعد في منزله متفكِّرٌ في أمره
وأمر
محبوبته، فأحَسَّ قلبه بالفراق، فنهض قائمًا على قدمَيْه من وقته وساعته، وسار حتى جاء
إلى
منزلها، فرأى الباب مقفولًا، ورأى الأبيات التي كتبَتْها زين المواصف، فقرأ ما على الباب
الأول، فلما قرأه وقع على الأرض مغشيًّا عليه. ثم أفاق من غشيته، وفتح الباب الأول ودخل
إلى
الباب الثاني فرأى ما كتبته، وكذلك الثالث، فلما قرأ جميع هذه الكتابة زاد به الغرام
والشوق
والهيام، فخرج في إثرها يُسرِع في خطاه حتى لحق بالرَّكْب، فرآها في آخِره وزوجها في
أوله
لأجل حوائجه، فلما رآها تعلَّقَ بالهودج باكيًا حزينًا من ألم الفراق، وأنشد هذه
الأبيات:
لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ ذَنْبٍ رُمِينَا
بِسِهَامِ الصُّدُودِ طُولَ السِّنِينَا
يَا مُنَى الْقَلْبِ جِئْتُ لِلدَّارِ يَوْمًا
عِنْدَمَا ازْدَدْتُ فِي هَوَاكِ شُجُونَا
فَرَأَيْتُ الدِّيَارَ قَفْرًا يَبَابًا
فَشَكَوْتُ النَّوَى وَزِدْتُ أَنِينَا
وَسَأَلْتُ الْجِدَارَ عَنْ كُلِّ قَصْدِي
أَيْنَ رَاحُوا وَصَارَ قَلْبِي رَهِينَا
قَالَ سَارُوا عَنِ الْمَنَازِلِ حَتَّى
صَيَّرُوا الْوَجْدَ فِي الْفُؤَادِ كَمِينَا
قَدْ كَتَبْتُ عَلَى الْجِدَارِ سُطُورًا
فِعْلُ أَهْلِ الْوَفَا مِنَ الْعَالَمِينَا
فلما سمعت زين المواصف هذا الشعر علمت أنه مسرور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام
المباح.