فلما كانت الليلة ٨٥٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما سمعَتْ منه هذا الشعر علمت أنه
مسرور،
فبكَتْ هي وجواريها، ثم قالت له: يا مسرور، سألتك بالله أن ترجع عنَّا لئلا يراكَ ويراني
زوجي. فلما سمع مسرور ذلك غُشِي عليه، فلما أفاق ودَّعَا بعضهما وأنشد هذه الأبيات:
نَادَى الرَّحِيلُ سُحَيْرًا فِي الدُّجَى الْهَادِي
قَبْلَ الصَّبَاحِ وَهَبَّتْ نَسْمَةُ النَّادِي
شَدُّوا الْمَطَايَا وَجَدُّوا فِي تَرَحُّلِهِمْ
وَأَسْرَعَ الرَّكْبُ لَمَّا زَمْزَمَ الْحَادِي
وَعَطَّرُوا أَرْضَهُمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ
وَعَجَّلُوا سَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَادِي
تَمَلَّكُوا مُهْجَتِي عِشْقًا وَقَدْ رَحَلُوا
وَغَادَرُونِي عَلَى آثَارِهِمْ غَادِي
يَا جِيرَةً مَقْصَدِي أَنْ لَا أُفَارِقَهُمْ
حَتَّى بَلَلْتُ الثَّرَى مِنْ دَمْعِيَ الْغَادِي
يَا وَيْحَ قَلْبِي وَوَيْحِي بَعْدَمَا صَنَعَتْ
يَدُ الْفِرَاقِ عَلَى رُغْمِي بِأَكْبَادِي
وما زال مسرور ملازمًا للركب وهو يبكي وينتحب، وهي تستعطفه في أن يرجع قبل الصباح
خشيةَ
الافتضاح، فتقدَّمَ إلى الهودج وودَّعَها ثاني مرة وغُشِي عليه ساعةً زمانيةً، فلما أفاق
وجدهم سائرين، فالتفت نحو سيرهم وشَمَّ ريحَ القبول، وصار يترنَّم بإنشاد هذه
الأبيات:
مَا هَبَّ رِيحُ الْقُرْبِ لِلْمُشْتَاقِ
إِلَّا شَكَا مِنْ لَوْعَةِ الْأَشْوَاقِ
هَبَّتْ عَلَيْهِ نَسْمَةٌ سِحْرِيَّةٌ
مَا فَاقَ إِلَّا وَهْوَ فِي الْآفَاقِ
مُلْقًى عَلَى فُرُشِ السَّقَامِ مِنَ الضَّنَى
يَبْكِي الدِّمَاءَ بِدَمْعِهِ الْمُهْرَاقِ
مِنْ جِيرَةٍ رَحَلُوا وَقَلْبِي مَعْهُمُ
بَيْنَ الرِّكَابِ يُسَاقُ بِالسُّوَّاقِ
وَاللهِ مَا فِي الْقُرْبِ هَبَّتْ نَسْمَةٌ
إِلَّا وَقَفْتُ لَهَا عَلَى الْأَحْدَاقِ
ثم رجع مسرور إلى الدار وهو في غاية الاشتياق، فرآها خاليةً من الأطناب، موحشةً من
الأحباب، فبكى حتى بلَّ الثيابَ وغُشِي عليه، وكادت أن تخرج روحه من جسده، فلما أفاق
أنشد
هذين البيتين:
يَا رَبْعُ رِقَّ لِذِلَّتِي وَخُضُوعِي
وَنُحُولِ جِسْمِي وَانْهِمَالِ دُمُوعِي
وَانْشُرْ إِلَيْنَا مِنْ عَبِيرِ نَسِيمِهِمْ
أَرَجًا لِتَشْفِيَ خَاطِرِي الْمَوْجُوعِ
فلما رجع مسرور إلى منزله صار متحيِّرًا من أجل ذلك، باكيَ العين، ولم يزل على هذا
الحال
مدة عشرة أيامٍ.
هذا ما كان من أمر مسرور، وأما ما كان من أمر زين المواصف فإنها عرفَتْ أن الحيلة
قد
تمَّتْ عليها، فإن زوجها ما زال سائرًا بها مدة عشرة أيامٍ، ثم أنزَلَها في بعض المدن،
فكتبَتْ زين المواصف كتابًا لمسرور وناولَتْه لجاريتها هبوب، وقالت: أرسِلي هذا الكتاب
إلى
مسرور ليعرف كيف تمَّت الحيلةُ علينا، وكيف غدر بنا اليهودي. فأخذت الجارية منها الكتابَ
وأرسلته إلى مسرور، فلما وصل إليه عَظُم عليه هذا الخطاب، فبكى حتى بلَّ التراب، وكتب
كتابًا وأرسله إلى زين المواصف وختمه بهذين البيتين:
كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى أَبْوَابِ سُلْوَانِ
وَكَيْفَ يَسْلُو الَّذِي فِي حَرِّ نِيرَانِ
مَا كَانَ أَطْيَبَ أَوْقَاتٍ لَهُمْ سَلَفَتْ
فَلَيْتَ مِنْهَا لَدَيْنَا بَعْضُ أَحْيَانِ
فلما وصَلَ الكتاب إلى زين المواصف أخذته وقرأته وأعطَتْه لجاريتها هبوب وقالت لها:
اكتمي
خبره. فعلم زوجها أنهما يتراسلان، فأخذ زين المواصف وجواريها وسافَرَ بهن مسافةَ عشرين
يومًا، ثم نزل بهن في بعض المدن. هذا ما كان من أمر زين المواصف، وأما ما كان من أمر
مسرور
فإنه صار لا يهنأ له نوم ولا يَقرُّ له قرار، ولم يكن له اصطبار، ولم يزل كذلك إذ هجعَتْ
عيناه في بعض الليالي فرأى في منامه أن زين المواصف قد
جاءت إليه في الروضة وصارت تعانقه، فانتبه من نومه فلم يَرَها، فطار عقله وذهل لبُّه
وهملت
عيناه بالدموع، وقد أصبح قلبه في غاية الولوع، فأنشد هذه الأبيات:
سَلَامٌ عَلَى مَنْ زَارَ فِي النَّوْمِ طَيْفُهَا
فَهَيَّجَ أَشْوَاقِي وَزَادَ غَرَامِي
وَقَدْ قُمْتُ مِنْ ذَاكَ الْمَنَامِ مُوَلَّعًا
بِرُؤْيَةِ طَيْفٍ زَارَنِي بِمَنَامِي
فَهَلْ تَصْدُقُ الْأَحْلَامُ فِيمَنْ أُحِبُّهُ
وَتَشْفِي غَلِيلِي فِي الْهَوَى وَسَقَامِي
فَطَوْرًا تُعَاطِينِي وَطَوْرًا تَضُمُّنِي
وَطَوْرًا تُوَاسِينِي بِطِيبِ كَلَامِ
وَلَمَّا تَقَضَّى فِي الْمَنَامِ عِتَابُنَا
وَصَارَتْ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ دَوَامِي
رَشَفْتُ رِضَابًا مِنْ لَمَاهَا كَأَنَّهُ
رَحِيقٌ أَرَى رَيَّاهُ مِسْكَ خِتَامِ
عَجِبْتُ لِمَا قَدْ كَانَ فِي النَّوْمِ بَيْنَنَا
وَقَدْ نِلْتُ مِنْهَا مُنْيَتِي وَمَرَامِي
وَقَدْ قُمْتُ مِنْ ذَاكَ الْمَنَامِ وَلَمْ أَجِدْ
مِنَ الطَّيْفِ إِلَّا لَوْعَتِي وَغَرَامِي
فَأَصْبَحْتُ كَالْمَجْنُونِ حِينَ رَأَيْتُهَا
وَأَمْسَيْتُ سَكْرَانًا بِغَيْرِ مُدَامِ
أَلَا يَا نَسِيمَ الرِّيحِ بِاللهِ بِلِّغِي
تَحِيَّةَ أَشْوَاقِي لَهُمْ وَسَلَامِي
وَقُولِي لَهُمْ ذَاكَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ
سَقَتْهُ صُرُوفُ الدَّهْرِ كَأْسَ حِمَامِ
ثم إنه توجَّهَ إلى منزلها، وما زال يبكي حتى وصل إليه، فنظر إلى المكان فوجده خاليًا،
ورأى خيالها يلوح قدامه وكأن شخصها أمامه، فاشتعلت نيرانه وزادت أحزانه ووقع مغشيًّا
عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.